قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ»، ثُمَّ قَالَ: «أَلْعَنُكَ بِلَعْنَة اللَّهِ، ثَلَاثًا»، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا، لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ، قَالَ: «إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ، لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ».
الشرح:
قال المنذري: باب: لعن الشيطان في الصلاة
والتعوذ منه. والحديث أخرجه مسلم في المساجد (1/
385) وبوب عليه النووي (5/28-29) باب: جواز لعن الشيطان في الصلاة، والتعوذ منه، وجواز
العمل القليل في الصلاة.
* قوله: «فسمعناه يقول: أَعُوذُ بِاللَّهِ
مِنْكَ» فيه: جواز الاستعاذة من الشيطان أثناء الصلاة، إذا حصل للمصلي شيء من نزغات
الشيطان، كما قال الله تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع
العليم} (فصلت: 24)، ثُمَّ قَالَ: «أَلْعَنُكَ بِلَعْنَة اللَّهِ، ثَلَاثًا»، فيه أيضا:
جواز لعن الشيطان في الصلاة والدعاء عليه، عند حضوره، فأما النهي عن لعن الشيطان فسيأتي
الكلام عنه. وأصل اللعن: الإبعاد، وهو في العرف إبعادٌ
مقترن بسخط وغضب.
* وفي الرواية الأخرى: «ألعنك بلعنة الله
التامة»، قال القاضي: يحتمل تسميتها تامة أي لا نقص فيها، ويحتمل: الواجبة له، المستحقة
عليه، أو الموجبة عليه العذاب سرمداً.
* قال النووي: فيه دليل لجواز الدعاء لغيره
وعلى غيره بصيغة المخاطبة، خلافا لابن شعبان من أصحاب مالك، في قوله: إن الصلاة تبطل
بذاك. قلت (أي النووي): وكذا قال أصحابنا تبطل الصلاة بالدعاء لغيره بصيغة المخاطبة،
كقوله للعاطس: رحمك الله أو يرحمك الله، ولمن سلّم عليه: وعليك السلام وأشباهه، والأحاديث
السابقة في الباب الذي قبله في السلام على المصلي، تؤيد ما قاله أصحابنا ، فيتأول هذا
الحديث أو يُحمل على أنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة أو غير ذلك انتهى
.
وهو الصحيح الذي دلت عليه السنة النبوية
، أعني جواز الدعاء في الصلاة بما شاء المصلي من خير الدنيا والآخرة ، ودلت عليه الأدعية
النبوية الكثيرة . قوله: «إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ،
جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ ، لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي»، وفي الرواية الأخرى: «إنّ
عفريتاً من الجن جعل يفتك علي ليقطع على صلاتي»، وفي رواية: «يتفلت»، تفلت: أي: تعرض
لي في صلاتي فجأة، والفتك الأخذ في غفلة وخديعة، والعفريت هو العاتي المارد من الجن. قوله: «فذعته»، أي: خنقته
.
* قوله: «وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا
سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَة»، وفي
الأخرى: «فلقد هممت أن أربطه حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أو كلكم»، فيه دليل: على
أن الجن موجودون، وأنهم قد يراهم بعض الآدميين، وأما قول الله تعالى: {إنه يَراكم هو
وقبيله منْ حيثُ لا ترونهم} (الأعراف: 27)، فمحولٌ على الغالب، فلو كانت رؤيتهم محالا،
لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال من رؤيته إياه، ومنْ أنه كان يربطه لينظروا
كلهم إليه، ويلعب به ولدان أهل المدينة .وقوله: «وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا
سُلَيْمَانَ»، معناه: أن سليمان عليه السلام مختصٌ بهذا، فامتنع نبينا صلى الله عليه
وسلم . إما أنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر عليه،
وإما لكونه لما تذكر ذلك، تركه تأدبا مع نبي الله سليمان عليه السلام وتواضعا.
أما مسألة لعن الشيطان: فلعن الشيطان أمرٌ حاصل ومفروغ منه، فقد
لعنه الله تعالى في كتابه في أكثر من موضع، لما تكبر وامتنع عن امتثال أمر الله له
بالسجود لآدم عليه السلام لما خلقه، سجود تكريم وإجلال، ووصفه الله تعالى بأنه رجيم،
وأنه لعين، وأنه من المطرودين عن رحمة الله إلى يوم الدين، ومن المبعدين عن جنته يوم
القيامة، فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (الحجر: 35). وقال تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ
إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللّهُ} (النساء
: 16-17).
*وقال القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {وإن
يدعون إلا شيطانا مريداً}، لعنه الله: أصل اللعن الإبعاد، وهو في العرف إبعاد مقترن
بسخط وغضب، فلعنة الله على إبليس -عليه لعنة الله- على التعيين جائزة، وكذلك سائر الكفرة
الموتى، كفرعون وهامان وأبي جهل.. انتهى .
* وقد ثبت النهي عن قول: تعس الشيطان عند
المصيبة أو العثرة؛ لأن ذلك ربما يزيده تعاظماً، كما في حديث أبي المليح عن أبيه قال:
كنتُ رديف النبي صلى الله عليه وسلم فعثر بعيري، فقلت: تعس الشيطان، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : «لا تقلْ تعسَ الشيطان، فإنه يَعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي
صرعته، ولكن قل: بسم الله فإنه يصغر حتى يصير مثل الذبابة». أخرجه أحمد وغيره بسند
صحيح .
*وقال الطحاوي في مشكل الآثار: نهاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه بذلك موقع للشيطان أن ذلك الفعل كان منه، ولم يكن منه،
إنما كان من الله عز وجل، وأمره أن يقول مكان ذلك: بسم الله، حتى لا يكون عند الشيطان
أنه كان منه عنده في ذلك فعل. انتهى.
* وقد أمر الله تعالى بالاستعاذة به سبحانه
من الشيطان الرجيم، للتخلص من كيده ووسوسته، فقال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (فصلت : 36).
معلمتي أم محمد