تسعون فائدة من حديث "يا عبادي إني
حرمت الظلم على نفسي"
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من
لا نبي بعده، وبعد:
فإن الغاية العظمى من أحاديث السنة النبوية
العمل بها وتطبيقها، ولا يكون ذلك إلا بعد فهمها والغور في معانيها، واستخراج ما هو
أغلى من اللؤلؤ والمرجان، وقد سبق إلى ذلك سلفُنا الصالح، فكانت رسائلُ ابن رجب الحنبلي
رحمه الله خيرَ شاهد على إفراد كل حديث من أحاديث السنة بالدراسة، خاصة في جانب فوائده
التربوية الإيمانية، فأحببت أن أسير على منهجه في دراسة الحديث من حيث الفوائد المستنبطة،
ويكفيني أن أحاكي القوم وأتشبه بهم في الطريقة، وقد اخترت حديث أبي ذر رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته
بينكم محرما"، واختياري يرجع إلى عدة أمور:
1- لصحته، فقد رواه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة،
باب تحريم الظلم، برقم (2577).
2- لأنه حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم
عن ربه سبحانه وتعالى.
3- لأنه يجمع فقرات عدة، وهذا مظنة لكثرة الفوائد.
4- لتداوله على ألسنة الخطباء والوعاظ وغالب الناس
اليوم.
5- سهولة ألفاظه التي سهلت حفظه.
وقد جعلت منهجي في استنباط فوائد هذا الحديث
أن أقسم الحديث إلى أجزاء، ثم أستنبط من كل جزء ما فتح الله به علي من الفوائد، وقد
يوجد في بعض الفوائد شيء من التداخل إلا أن ذلك لازم لمن أراد أن يحلل ألفاظ الحديث،
ويدقق في الفوائد المستنبطة، ويقتنص الوقفات التربوية، والآن إلى نص الحديث، ثم إلى
الفوائد المستنبطة منه.
نص الحديث:
عن أبي ذَرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم
فِيمَا رَوَى عن اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قال: يا عِبَادِي إني حَرَّمْتُ
الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي
كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلا من هَدَيْتُهُ فاستهدوني أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ
إلا من أَطْعَمْتُهُ فاستطعموني أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلا من
كَسَوْتُهُ فاستكسوني أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وأنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعًا فاستغفروني أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي إِنَّكُمْ
لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي،
يا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على
أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ما زَادَ ذلك في مُلْكِي شيئا، يا عِبَادِي
لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلْبِ
رَجُلٍ وَاحِدٍ ما نَقَصَ ذلك من مُلْكِي شيئا، يا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ
وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ
إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ما نَقَصَ ذلك مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ
إذا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يا عِبَادِي إنما هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ
أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ
غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ".
فوائد الحديث:
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي
إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا"، فيه فوائد كثيرة ومنها:
الفائدة الأولى:
دل الحديث على أن الله يتكلم سبحانه وتعالى
كما يشاء، كلامًا يليق بجلاله وعظمته، كما هو منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء
والصفات، كما أن لفظ الحديث يرد على كل من نفى صفة الكلام عن الله متأولاً أو غير متأول،
وذلك لصراحة قوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله".
الفائدة الثانية:
في الحديث مناداة الله لعباده، وهذا من
رحمته بهم، وأنه أقرب لهم، وهذا مما يبعث السكينة في قلوب عباده المؤمنين.
الفائدة الثالثة:
دل الحديث على أن جميع الخلق عباد الله
شرعًا وقدرًا، أما المؤمنون فهم عباد الله الذين استجابوا لأمره، وأما الكفار فهم مخاطبون
أيضا بهذا الحديث لدخولهم تحت العبودية لله قهرًا.
الفائدة الرابعة:
الحديث يدل على لطف الله بعباده، حيث بدأهم
بالمناداة من غير سؤال منهم وبهذا يفرح المؤمنون.
الفائدة الخامسة:
دل على أن صفة العبودية تشريف؛ لأن مقتضى
الخطاب أن يختار المنادي أحب الأسماء للسامع فيناديه بها، فالله اختار صفة "يا
عبادي" مما يدل على أن من دخل من العباد تحت هذه الصفة؛ فقد شَرُف غاية الشرف،
فإن العبودية لله تقتضي الخلاص مما سواه.
الفائدة السادسة:
تقديم النداء "يا عبادي" دليل
على أهمية ما بعده، فإن هذا المقصود من النداء، ولهذا فإن المؤمن يصغي سمعه لما يقال
بعد النداء، خاصة إذا كان من ربه، كما في الحديث.
الفائدة السابعة:
دل الحديث بلفظه الصريح على تحريم الظلم
مطلقا، وذلك من عدة أوجه:
أ- حرف التوكيد "إن".
ب- ضمير المتكل
م "الياء" في قوله "إني".
ج- لفظ التحريم في قوله "حرمت"
وهو يفيد المنع أكثر من أي صيغة أخرى.
د- "أل" الجنسية في قوله
"الظلم" التي تفيد الاستغراق، فيشمل جميع أنواع الظلم.
هـ- تكرار لفظي "التحريم والظلم"
في قوله: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"، فنلاحظ
تكرار "حرمت ومحرما" وقوله: "الظلم فلا تظالموا"، ولا شك بأن هذا
التكرار يفيد المنع بصورة أكبر.
و- ختم الجملة الأولى من الحديث بقوله:
"فلا تظالموا" مع أن المعنى المراد فُهم مما سبقها في قوله "إني حرمت
الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما".
فإن المعنى قد تم عند قوله "محرما"
لكنه أعاد المعنى المراد مرة أخرى بقوله: "فلا تظالموا"، وهذا أيضا يفيد
المنع قوة.
الفائدة الثامنة:
دل الحديث أن الله هو المشرع المُحِل المُحرِّم،
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فإن قوله: "إني حرمت الظلم على نفسي" تدل على
تحريم الله لما يشاء وبالمقابل تحليله لما يشاء.
الفائدة التاسعة:
يؤخذ من الحديث أن من صيغ العزيمة على الطلب
أو الترك أن يخبر الواحد عننفسه، ويبدأ قبل غيره، ولهذا فإن الله أخبر عن نفسه فال:
"إني حرمت الظلم علىنفسي".
فمن أراد أن يأمر أمرًا، أو ينهى عنه فليبدأ
بنفسه قولا وعملا، فإن ذلك أشد وقعًا.لفائدة العاشرة:
فيه إثبات النفس لله سبحانه وتعالى.
الفائدة الحادية عشرة:
دل على عدم التلازم بين ما يحرمه الله على نفسه وما يحرمه علينا، فقد:
أ- يحرم على نفسه أمرًا ويحرمه أيضًا علينا كالظلم في هذا الحديث.
ب- يحرم على نفسه أمرًا ولا يحرمه علينا كجميع النقائص من السنة والنوم وغيرها.
ج- يبيح لنفسه أمرًا ويحرمه علينا كالكبر في حقه سبحانه وتعالى.
والظلم من النوع الأول، ولهذا قال: "وجعلته بينكم محرما" مما يدل على أن هناك أمورًا حرمها على نفسه لم يحرمها علينا، والله أعلم.
الفائدة الثانية عشرة:
قوله: "فلا تظالموا" يحتمل معنيين:
أ- النهي عن البدء بالظلم، أي أن يبدأ الإنسان أخاه بالظلم.
ب- النهي عن الرد والانتقام بالظلم، أي أن ينتقم الإنسان لنفسه بظلم غيره.
وكلا المعنيين مراد في الحديث، فالظلم منهي عنه ابتداء واستدامة.
الفائدة الثالثة عشرة:
يفهم من الحديث تحريم إنكار المنكر عن طريق ظلم صاحبه، ولا يسوغ لنا المنكر الذي يمارسه صاحبه أن نتعدى حدود الشرع فيه فنقع بالظلم.
الفائدة الرابعة عشرة:
دل الحديث على أن الظلم لا مصلحة فيه البتة، ولهذا مُنع وحُرم تحريما مطلقا.
الفائدة الخامسة عشرة:
قوله: "وجعلته بينكم محرمًا" يفيد أن الإنسان عليه الاستسلام لحكم الله، فلا يقدر على تبديله أو تغييره، وهذا كما أنه في الظلم فكذلك في سائر أحكام الله التي جعلها بيننا.
الفائدة السادسة عشرة:
دل الحديث على أن الظلم لن يقع منه سبحانه وتعالى أبدًا، ولهذا لم يعد صيغة التحريم على نفسه كما أعادها في حق الناس.
فقد قال في حق الناس: "وجعلته بينكم محرما" ثم أعاد التحريم مرة أخرى فقال: "فلا تظالموا"، أما في حق نفسه سبحانه وتعالى فقال: "إني حرمت الظلم علىنفسي"، ولم يقل: فلن أظلم، مما يدل على أنه لن يظلم أبدًا فإنه إذا حرم شيئًا فلن يفعله، بخلاف الناس فقد يحرم الله عليهم أمرًا فيفعلونه، فاقتضى أن تتكرر صيغة المنع في حقهم فقط.
الفائدة السابعة عشرة:
لفظ الحديث في تحريم الظلم يؤيد مذهب أهل السنة والجماعة في معنى الظلمالذي حرمه الله على نفسه، وهو: أن الله قادر على الظلم لكنه حرمه على نفسه؛ والتحريم والمنع يكون للشيء المقدور عليه، أما المستحيل والممتنع فغير مقدور عليه أصلا حتى تمنع منه النفس.
الفائدة الثامنة عشرة:
الحديث رد على أصحاب وحدة الوجود؛ لأن الحديث أثبت أن هناك ربًّا يحرم، وهناكعبادًا حُرم عليهم أيضًا الظلم، فهما شيئان مختلفان رب وعبد.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم" فيها فوائد، منها:
الفائدة التاسعة عشرة:
تكرار النداء في قوله: "يا عبادي" فيه زيادة عناية بعباده ورأفة ورحمة وشفقة عليهم، حيث تكرر النداء في الحديث تسع مرات، وهو أمر يوحي لك بالمبالغة في ذلك.
الفائدة العشرون:
قدم في الحديث الضلالة والهدى على الجوع والطعام، والعري واللباس، فقال: "كلكم ضال إلا من هديته" قبل قوله: "كلكم جائع" وقوله: "كلكم عار" ذلك من باب تقديم الأهم، فالضلال أشد خطرًا من الجوع والعري، والهداية أتم من الطعام واللباس.
هذا يشعرنا بالاهتمام بالهداية أكثر من اهتمامنا بطعامنا ولباسنا، وأن ندرك خطر الضلال أكثر من إدراكنا خطر الجوع والعري.
الفائدة الحادية والعشرون:
دل الحديث على أن كل من لم يهده الله فهو ضال، ولهذا قال: "كلكم ضال" فلم يستثن من ذلك أحدًا.
الفائدة الثانية والعشرون:
دل الحديث بصريح لفظه أن الله هو الهادي المضل، وهذا من كماله سبحانه وتعالى.
الفائدة الثالثة والعشرون:
دل الحديث على أن الهداية بيد الله لقوله: "إلا من هديته" فمنه تطلب، وبه يستعان للحصول عليها، فعلى من طلبها أن يلتجئ لمالكها ويستجديه ويلح عليه، فإنها فضل منه سبحانه ومنّة.
الفائدة الرابعة والعشرون:
دل على عدم الاعتماد على النفس، وعدم الوثوق بالصفات الشخصية في تحصيل الهداية لأنها بيد الله يؤتيها الله من يشاء، ولهذا أسند الله الهداية إلى نفسه فقط فقال: "فاستهدوني أهدكم"، فلا يغتر الإنسان بما لديه من قدرات وذكاء، بل إنك تجد في الواقع المرير من هو مفرط في الذكاء بعيد عن الهداية، والأمر بيد الله وحده.
الفائدة الخامسة والعشرون:
قوله: "فاستهدوني أهدكم" ومثله "فاستطعموني أطعمكم" و"فاستكسوني أكسكم" كلها تفسير عملي لقولنا: "لا حول ولا قوة إلا بالله " الذي يدل على أن الإنسان لا تحول له، ولا قوة على التحول إلا بإعانة الله له، ومن ذلك هدايته والضروريات من حياته كطعامه ولباسه، وهذا يبين لنا ضرورة الارتباط بين المؤمن والحوقلة من خلال أمثلة الحديث المذكور.
الفائدة السادسة والعشرون:
دل قوله: "كلكم ضال" وقوله: "كلكم جائع" وقوله: "كلكم عار" على تساوي الخلق عند الله، وأن التفاضل بينهم يكون على الأعمال التي يعملونها.
الفائدة السابعة والعشرون:
يدل قوله: "فاستهدوني أهدكم" على تفاوت الناس في الهداية بناء على طلبهم إياها من الله، وعلى ما يعطيهم الله منها، فليسع الإنسان إلى تحصيل أكبر قدر ممكن من الهداية، خاصة وأن طريق طلبها واضح هو طلبها من الله.
الفائدة الثامنة والعشرون:
دل على إثبات منهج أهل السنة والجماعة في قولهم: إن الإيمان يزيد وينقص، فإن الهداية تزيد وتنقص كما دل عليه هذا الحديث.
الفائدة التاسعة والعشرون:
في هذا الجزء من الحديث فتح لباب التنافس في دروب الخير والأعمال الصالحة؛ فإن قوله: "فاستهدوني أهدكم" تفتح باب طلب الهداية، فمن شاء فليوسع ومن شاء فليقصر، وكذلك بقية الأعمال التي هي تطبيق عملي لهداية الله للإنسان، فترى المجتمع يتفنن في تحصيل أنواع الأعمال الصالحات.
الفائدة الثلاثون:
هذا الجزء من الحديث "كلكم ضال إلا من هديته" يعطينا تصورًا حقيقيا عن معشر البشر الذين نخالطهم، فهم ضُلال إلا من هداه الله، وجوعى إن لم يطعمهم الله، وعراة إن لم يكسهم الله، وهذا التصور يفيد في معرفة التعامل مع الناس، ويحدد لنا مقدار اعتمادنا عليهم في تحصيل المراد، كما يورث فينا العزة ونحن نتعامل مع قوم لا يملكون لأنفسهم طعامًا وكساء فضلا لغيرهم، فتجد المؤمن على هذا يعاملهم ويعرف قدرهم خوفا ورجاء.
الفائدة الحادية والثلاثون:
في قوله: "إلا من هديته" بيان لفضل الرسل الكرام عليهم السلام؛ لأن الله هدى بهم الناس، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فعلى أيديهم كانت هداية الناس، فكم لهم من الفضل علينا بعد الله، ونحن لا ندرك ذلك حقيقة الإدراك، فصل اللهم وسلم عليهم جميعا.
الفائدة الثانية والثلاثون:
يدل الحديث على حاجة الإنسان إلى الهداية في كل لحظة من لحظات حياته؛ لأن قوله: "كلكم ضال إلا من هديته" يفيد العموم في كل أوقات الإنسان، فهو ضال محتاج لهداية ربه، وهذا يفيد تعلق المؤمن بربه دائمًا، وهو سبحانه وتعالى أولى به.
الفائدة الثالثة والثلاثون:
الله سبحانه وتعالى أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، فقال: "فاستهدوني أهدكم" فهذا أمر ووعد، فلا عذر بعد ذلك للبطال.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم"،
وهذا فيه من الفوائد ما يلي:
الفائدة الرابعة والثلاثون:
دل هذا الجزء من الحديث أن الإنسان ضال حتى عن أمور معاشه وملبسه إن لم يهده الله إليها وييسرها له، وهذا يبين عظم فاقة الإنسان لربه.
الفائدة الخامسة والثلاثون:
يربي الحديث افتقار المؤمن لربه حتى في طعامه وشرابه وملبسه، فالإنسان جائع عارٍ إن لم يطعمه الله ويكسه.
الفائدة السادسة والثلاثون:
دل الحديث بصريح عبارته أن الرزق من عند الله، فعلام يحزن الإنسان إن فاته نصيبه؟!
الفائدة السابعة والثلاثون:
الحديث يشعر بأن الله يقسم الأرزاق بين عباده، فيطعم هذا ويحرم هذا، ويكسو بعض العباد ويعري آخرين، والمؤمن إن علم ذلك خرج من قلبه الحسد، فعلام الحسد على شيء ليس للعبد فيه تصرف، وإنما المتصرف الله سبحانه وتعالى، وبهذا أيضًا يزيد اليقين في قلبه برزق الله.
الفائدة الثامنة والثلاثون:
في الحديث إظهار لمنَّة الله سبحانه وتعالى على خلقه في هدايته لهم وإطعامهم وكسوتهم، وهذه المنَّة لا حدود لها، ويجب أن تقابل بالشكر.
الفائدة التاسعة والثلاثون:
يربي الحديث المؤمن على التفكر في حياة نفسه، من طعامه وشرابه ولباسه، وهذا من أعظم الأشغال التي ينبغي أن ينشغل بها المسلم.
الفائدة الأربعون:
التفكر في معاني الحديث يطرد العجب والكبر من قلب المؤمن، فإذا كان لا يستطيع أن ينفع نفسه في أهم ضرورياته من الأكل واللباس فبماذا يفخر ويعجب؟
الفائدة الحادية والأربعون:
نص الحديث على الطعام في قوله: "كجلب النفع، فجاء الحديث تمشيا مع الغالب، والله أعلم.
الفائدة الثانية والأربعون:
قُدم الطعام على الكساء في الحديث من باب تقديم الأهم بالنسبة للخلق، فالإنسان يصبر على العري إلا أنه يشق عليه الصبر على الجوع، فتناسق الحديث حسب اهتماماتنا.
الفائدة الثالثة والأربعون:
دل هذا الجزء من الحديث على أن الله هو المطعم والكاسي سبحانه وتعالى، فكل طعام أو كساء رُزقه العبد فهو من ربه فليحمده عليه.
الفائدة الرابعة والأربعون:
دل الحديث بالمقابل على أن من أصابه الجوع والعري فالله منعه، فعليه الرجوع وطلب الأمر من مصدره سبحانه وتعالى.
الفائدة الخامسة والأربعون:
اقتصر في الحديث على الضروريات في الحياة من الطعام والكسوة لتعلق قلوب الناس بها أكثر من غيرها، ولأنه يدخل عليهم الضرر في فواتها أكثر مما يدخل الضرر في غيرها، وإلا فإن كل شيء بيد الله، والله معطيه أو مانعه.
الفائدة السادسة والأربعون:
لم يرد في رواية مسلم ذكر للمال، فلم يقل: وكلكم فقير إلا من أغنيته فاستغنوني أغنكم، والذي يظهر من السبب والله أعلم أن المال غير مقصود لذاته، وإنما يقصد للطعام والكسوة وضروريات الحياة، فاستغنى بذكر الغاية عن الوسيلة.
الفائدة السابعة والأربعون:
أظهر الحديث ضعف الإنسان غاية الضعف؛ إذ لا يملك لنفسه هداية ولا طعامًا ولا كساء، فأي ضعف فوق هذا الضعف، وهذا الذي يجعل الأمر محتما على الإنسان ألا يستقل بنفسه وإنما بغيره، ولا يوجد أقوى من أن يرتبط بربه، كما أن الحديث أظهر حاجة الإنسان لربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين حتى في ضرورياته التي لا بد له منها.
الفائدة الثامنة والأربعون:
دل الحديث على أنه ما من نعمة دقت أو عظمت إلا هي من عند الله، وهذا يؤخذ من قوله: "كلكم جائع إلا من أطعمته"، ومعلوم أن الطعام متفاوت قلة وكثرة.
الفائدة التاسعة والأربعون:
في الحديث دلالة على أن العري مذموم عند جميع البشر، يسعون لرفعه عن أنفسهم كما يسعون في رفع الجوع، وبهذا نرد على طائفة الطبائعيين الذين يرون أن من الطبيعة أن يبقى الإنسان عاريًا، وكفى بهذا الحديث ذمًّا لهم عند جميع البشر.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم"، وفي هذا فوائد كثيرة منها:
الفائدة الخمسون:
مناسبة هذا الجزء من الحديث "إنكم تخطئون بالليل والنهار" لما سبق قبلها من قوله: "كلكم عار إلا من كسوته" أنه لما ذكر العري الحسي، ذكر بعدها العري المعنوي وهي الذنوب، فتناسقت ألفاظ الحديث.
الفائدة الحادية والخمسون:
دل هذا الجزء من الحديث على كثرة خطأ بني آدم لقوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار"، وهذا أصل فيهم، فلا يحق لأحد ادعاء الكمال.
الفائدة الثانية والخمسون:
دل هذا الجزء من الحديث على عظيم علم الله سبحانه وتعالى الذي لا تخفى عليه خافية، إذ إنه يحصي جميع خطايا بني آدم.
الفائدة الثالثة والخمسون:
دل قوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار" على حلم الله سبحانه وتعالى الذي يرى خطايا بني آدم ولا يعاجلهم بالعقوبة.
الفائدة الرابعة والخمسون:
في الحديث رد على القدرية الذين يزعمون نفي تقدير الله للمعاصي، فالحديث صريح في أن الله علم ذنوب العباد وقدرها لقوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار".
الفائدة الخامسة والخمسون:
في الحديث فتح لباب الرجاء أمام المذنبين.
الفائدة السادسة والخمسون:
دل قوله: "وأنا أغفر الذنوب جميعًا" على أن الله لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، فالحمد لله على مغفرة ربنا.
الفائدة السابعة والخمسون:
دل قوله: "فاستغفروني أغفر لكم" على أن الإنسان لا غنى له عن الاستغفار؛ لأن ذنوب العباد بالليل والنهار فلا يزيلها إلا الاستغفار، فالحمد لله الذي فتح لنا بابًا له.
الفائدة الثامنة والخمسون:
دل قوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار" أن الله كتب على ابن آدم حظه من الذنوب مدرك ذلك لا محالة، فعلى الإنسان الاشتغال بالمجاهدة، ومحاولة التقليل والإصلاح بعد الوقوع.
الفائدة التاسعة والخمسون:
دل الحديث على أن الله كتب علينا الذنوب، إلا أنه فتح بابًا لإزالتها، فيعالج هذا بذاك.
الفائدة الستون:
هذا الجزء من الحديث "إنكم تخطئون بالليل والنهار" يربي في قلب المؤمن مراقبة الله؛ لأن الله يعلم ذنوبه ويطلع عليها.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"، وهذا فيه من الفوائد ما يلي:
الفائدة الحادية والستون:
مناسبة هذا الجزء من الحديث لما قبله أنه لما بيّن لهم نعمه على العباد، وأنه يطعمهم ويكسوهم ويهديهم، بيّن لهم في هذا الجزء من الحديث أنهم لن يصلوا إلى ضرره أو مصلحة تعود إليه، فقال: "إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني".
الفائدة الثانية والستون:
قدم الضر في هذا الجزء من الحديث على النفع، فقال: "لن تبلغوا ضري"؛ لأن الغالب الحرص على دفع الضر قبل جلب النفع، فجاء الحديث تمشيا مع الغالب، والله أعلم.
الفائدة الثامنة والسبعون:
تدل على كرم الله سبحانه وتعالى؛ إذ يسأل عباده أن يسألوه، ويعدهم بالإجابة.
الفائدة التاسعة والسبعون:
قوله:"فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عند" مرادف لقوله تعالى:﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾[الحجر: 21].
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه"، وفي ذلك من الفوائد الشيء الكثير، ومنها:
الفائدة الثمانون:
في هذا الجزء من الحديث رد على الجبرية؛ إذ نسب الأعمال للعباد، فقال: "إنما هي أعمالكم".
الفائدة الحادية والثمانون:
في قوله: "إنما هي أعمالكم" مع قوله: "فاستهدوني أهدكم" تأصيل لمذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر وهو: أن الهداية والإضلال بيد الله، والعبد له قدرة واختيار، وعمله ينسب إليه، ولهذا نسب الأعمال إليهم فقال: "أعمالكم" ولا يكون هذا إلا مع مباشرتها بقدرتهم واختيارهم.
الفائدة الثانية والثمانون:
قوله: "ثم أوفيكم إياها" تحتمل الموافاة في الدنيا، وتحتمل الموافاة في الآخرة، وعلى هذا ما يصيب الإنسان في الدنيا من سوء فبسبب أعماله، فليحذر العبد المؤمن.
الفائدة الثالثة والثمانون:
على القول بأن الموافاة تكون في الدنيا، فإن حرف"ثم" في قوله: "أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها" يفيد التراخي، وعلى هذا قد يعمل الإنسان السوء ثم تتأخر موافاة الله له، وهذا يجعلنا لا نغتر بحلم الله عنا، ولا نأمن من الاستدراج، وبالمقابل قد يعمل الإنسان الخير وتتأخر موافاة الله له، وهذا يجعلنا نحتسب أجورنا عند الله في الآخرة.
الفائدة الرابعة والثمانون:
دل قوله: "أحصيها لكم" على أن كل ما عمل الإنسان من عمل فهو مكتوب محفوظ عند الله، وعلى هذا كم من الذنوب نسيها الإنسان وهي مكتوبة عليه؟ فلنلزم الاستغفار.
الفائدة الخامسة والثمانون:
في قوله: "أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها" إظهار للعدل الذي اتصف الله به، والذي تمثل هنا في موافاة كل عامل بما عمل، وهذا يرجح مذهب أهل السنة في تفسيرهم الظلم الذي تنزه الله عنه بأنه بخس إنسان من حسناته، أو أن يوضع عليه من أوزار غيره، وهذا نفاه الله لعدله في قوله: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ".
الفائدة السادسة والثمانون:
جمع الحديث أعمال القلوب الثلاثة، وهي:
أ- المحبة: وهذا في جميع ألفاظ الحديث حيث إنها تزيد من محبة العبد لربه.
ب- الرجاء: وهذا في قوله: "وأنا أغفر الذنوب جميعا".
ج- الخوف: وهذا في قوله: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم".
وعلى هذه الثلاثة تدور بقية الأعمال القلبية.
الفائدة السابعة والثمانون:
دل قوله: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله" أن دخول الجنة يكون بفضل الله وحده، وليس بمجرد الأعمال، فإن أعمال العباد لا تؤهل الإنسان لدخول الجنة، وإنما يدخلها المؤمنون بفضل الله، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدًا عملُهُ الجنة، قالوا: ولا أنت يارسول الله، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" أخرجه البخاري (5349) ومسلم (2816).
الفائدة الثامنة والثمانون:
يدل الحديث على أن الجن مكلفون بعبادة الله سبحانه وتعالى كالإنس، وسيحاسبهم الله على أعمالهم، كما في لفظ الحديث.
الفائدة التاسعة والثمانون:
يورث الحديث الحياء من الله سبحانه وتعالى، فمع غناه الكامل وعظمته إلا أنه ينادي عباده لدعائه واستغفاره.
الفائدة التسعون:
الحديث دليل على أن الله يحب مدح نفسه، وهو أهل للمدح، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من شخص أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه" متفق عليه أخرجه البخاري (4358) و(4922) و(6968) ومسلم ( 2760).
فهذه تسعون فائدة تخللها فوائد أخرى، يسر الله وأعان على استنباطها فله الحمد وحده، سائلا الله أن ينفعني بها، وأن يتقبلها خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
فيه إثبات النفس لله سبحانه وتعالى.
الفائدة الحادية عشرة:
دل على عدم التلازم بين ما يحرمه الله على نفسه وما يحرمه علينا، فقد:
أ- يحرم على نفسه أمرًا ويحرمه أيضًا علينا كالظلم في هذا الحديث.
ب- يحرم على نفسه أمرًا ولا يحرمه علينا كجميع النقائص من السنة والنوم وغيرها.
ج- يبيح لنفسه أمرًا ويحرمه علينا كالكبر في حقه سبحانه وتعالى.
والظلم من النوع الأول، ولهذا قال: "وجعلته بينكم محرما" مما يدل على أن هناك أمورًا حرمها على نفسه لم يحرمها علينا، والله أعلم.
الفائدة الثانية عشرة:
قوله: "فلا تظالموا" يحتمل معنيين:
أ- النهي عن البدء بالظلم، أي أن يبدأ الإنسان أخاه بالظلم.
ب- النهي عن الرد والانتقام بالظلم، أي أن ينتقم الإنسان لنفسه بظلم غيره.
وكلا المعنيين مراد في الحديث، فالظلم منهي عنه ابتداء واستدامة.
الفائدة الثالثة عشرة:
يفهم من الحديث تحريم إنكار المنكر عن طريق ظلم صاحبه، ولا يسوغ لنا المنكر الذي يمارسه صاحبه أن نتعدى حدود الشرع فيه فنقع بالظلم.
الفائدة الرابعة عشرة:
دل الحديث على أن الظلم لا مصلحة فيه البتة، ولهذا مُنع وحُرم تحريما مطلقا.
الفائدة الخامسة عشرة:
قوله: "وجعلته بينكم محرمًا" يفيد أن الإنسان عليه الاستسلام لحكم الله، فلا يقدر على تبديله أو تغييره، وهذا كما أنه في الظلم فكذلك في سائر أحكام الله التي جعلها بيننا.
الفائدة السادسة عشرة:
دل الحديث على أن الظلم لن يقع منه سبحانه وتعالى أبدًا، ولهذا لم يعد صيغة التحريم على نفسه كما أعادها في حق الناس.
فقد قال في حق الناس: "وجعلته بينكم محرما" ثم أعاد التحريم مرة أخرى فقال: "فلا تظالموا"، أما في حق نفسه سبحانه وتعالى فقال: "إني حرمت الظلم علىنفسي"، ولم يقل: فلن أظلم، مما يدل على أنه لن يظلم أبدًا فإنه إذا حرم شيئًا فلن يفعله، بخلاف الناس فقد يحرم الله عليهم أمرًا فيفعلونه، فاقتضى أن تتكرر صيغة المنع في حقهم فقط.
الفائدة السابعة عشرة:
لفظ الحديث في تحريم الظلم يؤيد مذهب أهل السنة والجماعة في معنى الظلمالذي حرمه الله على نفسه، وهو: أن الله قادر على الظلم لكنه حرمه على نفسه؛ والتحريم والمنع يكون للشيء المقدور عليه، أما المستحيل والممتنع فغير مقدور عليه أصلا حتى تمنع منه النفس.
الفائدة الثامنة عشرة:
الحديث رد على أصحاب وحدة الوجود؛ لأن الحديث أثبت أن هناك ربًّا يحرم، وهناكعبادًا حُرم عليهم أيضًا الظلم، فهما شيئان مختلفان رب وعبد.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم" فيها فوائد، منها:
الفائدة التاسعة عشرة:
تكرار النداء في قوله: "يا عبادي" فيه زيادة عناية بعباده ورأفة ورحمة وشفقة عليهم، حيث تكرر النداء في الحديث تسع مرات، وهو أمر يوحي لك بالمبالغة في ذلك.
الفائدة العشرون:
قدم في الحديث الضلالة والهدى على الجوع والطعام، والعري واللباس، فقال: "كلكم ضال إلا من هديته" قبل قوله: "كلكم جائع" وقوله: "كلكم عار" ذلك من باب تقديم الأهم، فالضلال أشد خطرًا من الجوع والعري، والهداية أتم من الطعام واللباس.
هذا يشعرنا بالاهتمام بالهداية أكثر من اهتمامنا بطعامنا ولباسنا، وأن ندرك خطر الضلال أكثر من إدراكنا خطر الجوع والعري.
الفائدة الحادية والعشرون:
دل الحديث على أن كل من لم يهده الله فهو ضال، ولهذا قال: "كلكم ضال" فلم يستثن من ذلك أحدًا.
الفائدة الثانية والعشرون:
دل الحديث بصريح لفظه أن الله هو الهادي المضل، وهذا من كماله سبحانه وتعالى.
الفائدة الثالثة والعشرون:
دل الحديث على أن الهداية بيد الله لقوله: "إلا من هديته" فمنه تطلب، وبه يستعان للحصول عليها، فعلى من طلبها أن يلتجئ لمالكها ويستجديه ويلح عليه، فإنها فضل منه سبحانه ومنّة.
الفائدة الرابعة والعشرون:
دل على عدم الاعتماد على النفس، وعدم الوثوق بالصفات الشخصية في تحصيل الهداية لأنها بيد الله يؤتيها الله من يشاء، ولهذا أسند الله الهداية إلى نفسه فقط فقال: "فاستهدوني أهدكم"، فلا يغتر الإنسان بما لديه من قدرات وذكاء، بل إنك تجد في الواقع المرير من هو مفرط في الذكاء بعيد عن الهداية، والأمر بيد الله وحده.
الفائدة الخامسة والعشرون:
قوله: "فاستهدوني أهدكم" ومثله "فاستطعموني أطعمكم" و"فاستكسوني أكسكم" كلها تفسير عملي لقولنا: "لا حول ولا قوة إلا بالله " الذي يدل على أن الإنسان لا تحول له، ولا قوة على التحول إلا بإعانة الله له، ومن ذلك هدايته والضروريات من حياته كطعامه ولباسه، وهذا يبين لنا ضرورة الارتباط بين المؤمن والحوقلة من خلال أمثلة الحديث المذكور.
الفائدة السادسة والعشرون:
دل قوله: "كلكم ضال" وقوله: "كلكم جائع" وقوله: "كلكم عار" على تساوي الخلق عند الله، وأن التفاضل بينهم يكون على الأعمال التي يعملونها.
الفائدة السابعة والعشرون:
يدل قوله: "فاستهدوني أهدكم" على تفاوت الناس في الهداية بناء على طلبهم إياها من الله، وعلى ما يعطيهم الله منها، فليسع الإنسان إلى تحصيل أكبر قدر ممكن من الهداية، خاصة وأن طريق طلبها واضح هو طلبها من الله.
الفائدة الثامنة والعشرون:
دل على إثبات منهج أهل السنة والجماعة في قولهم: إن الإيمان يزيد وينقص، فإن الهداية تزيد وتنقص كما دل عليه هذا الحديث.
الفائدة التاسعة والعشرون:
في هذا الجزء من الحديث فتح لباب التنافس في دروب الخير والأعمال الصالحة؛ فإن قوله: "فاستهدوني أهدكم" تفتح باب طلب الهداية، فمن شاء فليوسع ومن شاء فليقصر، وكذلك بقية الأعمال التي هي تطبيق عملي لهداية الله للإنسان، فترى المجتمع يتفنن في تحصيل أنواع الأعمال الصالحات.
الفائدة الثلاثون:
هذا الجزء من الحديث "كلكم ضال إلا من هديته" يعطينا تصورًا حقيقيا عن معشر البشر الذين نخالطهم، فهم ضُلال إلا من هداه الله، وجوعى إن لم يطعمهم الله، وعراة إن لم يكسهم الله، وهذا التصور يفيد في معرفة التعامل مع الناس، ويحدد لنا مقدار اعتمادنا عليهم في تحصيل المراد، كما يورث فينا العزة ونحن نتعامل مع قوم لا يملكون لأنفسهم طعامًا وكساء فضلا لغيرهم، فتجد المؤمن على هذا يعاملهم ويعرف قدرهم خوفا ورجاء.
الفائدة الحادية والثلاثون:
في قوله: "إلا من هديته" بيان لفضل الرسل الكرام عليهم السلام؛ لأن الله هدى بهم الناس، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فعلى أيديهم كانت هداية الناس، فكم لهم من الفضل علينا بعد الله، ونحن لا ندرك ذلك حقيقة الإدراك، فصل اللهم وسلم عليهم جميعا.
الفائدة الثانية والثلاثون:
يدل الحديث على حاجة الإنسان إلى الهداية في كل لحظة من لحظات حياته؛ لأن قوله: "كلكم ضال إلا من هديته" يفيد العموم في كل أوقات الإنسان، فهو ضال محتاج لهداية ربه، وهذا يفيد تعلق المؤمن بربه دائمًا، وهو سبحانه وتعالى أولى به.
الفائدة الثالثة والثلاثون:
الله سبحانه وتعالى أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، فقال: "فاستهدوني أهدكم" فهذا أمر ووعد، فلا عذر بعد ذلك للبطال.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم"،
وهذا فيه من الفوائد ما يلي:
الفائدة الرابعة والثلاثون:
دل هذا الجزء من الحديث أن الإنسان ضال حتى عن أمور معاشه وملبسه إن لم يهده الله إليها وييسرها له، وهذا يبين عظم فاقة الإنسان لربه.
الفائدة الخامسة والثلاثون:
يربي الحديث افتقار المؤمن لربه حتى في طعامه وشرابه وملبسه، فالإنسان جائع عارٍ إن لم يطعمه الله ويكسه.
الفائدة السادسة والثلاثون:
دل الحديث بصريح عبارته أن الرزق من عند الله، فعلام يحزن الإنسان إن فاته نصيبه؟!
الفائدة السابعة والثلاثون:
الحديث يشعر بأن الله يقسم الأرزاق بين عباده، فيطعم هذا ويحرم هذا، ويكسو بعض العباد ويعري آخرين، والمؤمن إن علم ذلك خرج من قلبه الحسد، فعلام الحسد على شيء ليس للعبد فيه تصرف، وإنما المتصرف الله سبحانه وتعالى، وبهذا أيضًا يزيد اليقين في قلبه برزق الله.
الفائدة الثامنة والثلاثون:
في الحديث إظهار لمنَّة الله سبحانه وتعالى على خلقه في هدايته لهم وإطعامهم وكسوتهم، وهذه المنَّة لا حدود لها، ويجب أن تقابل بالشكر.
الفائدة التاسعة والثلاثون:
يربي الحديث المؤمن على التفكر في حياة نفسه، من طعامه وشرابه ولباسه، وهذا من أعظم الأشغال التي ينبغي أن ينشغل بها المسلم.
الفائدة الأربعون:
التفكر في معاني الحديث يطرد العجب والكبر من قلب المؤمن، فإذا كان لا يستطيع أن ينفع نفسه في أهم ضرورياته من الأكل واللباس فبماذا يفخر ويعجب؟
الفائدة الحادية والأربعون:
نص الحديث على الطعام في قوله: "كجلب النفع، فجاء الحديث تمشيا مع الغالب، والله أعلم.
الفائدة الثانية والأربعون:
قُدم الطعام على الكساء في الحديث من باب تقديم الأهم بالنسبة للخلق، فالإنسان يصبر على العري إلا أنه يشق عليه الصبر على الجوع، فتناسق الحديث حسب اهتماماتنا.
الفائدة الثالثة والأربعون:
دل هذا الجزء من الحديث على أن الله هو المطعم والكاسي سبحانه وتعالى، فكل طعام أو كساء رُزقه العبد فهو من ربه فليحمده عليه.
الفائدة الرابعة والأربعون:
دل الحديث بالمقابل على أن من أصابه الجوع والعري فالله منعه، فعليه الرجوع وطلب الأمر من مصدره سبحانه وتعالى.
الفائدة الخامسة والأربعون:
اقتصر في الحديث على الضروريات في الحياة من الطعام والكسوة لتعلق قلوب الناس بها أكثر من غيرها، ولأنه يدخل عليهم الضرر في فواتها أكثر مما يدخل الضرر في غيرها، وإلا فإن كل شيء بيد الله، والله معطيه أو مانعه.
الفائدة السادسة والأربعون:
لم يرد في رواية مسلم ذكر للمال، فلم يقل: وكلكم فقير إلا من أغنيته فاستغنوني أغنكم، والذي يظهر من السبب والله أعلم أن المال غير مقصود لذاته، وإنما يقصد للطعام والكسوة وضروريات الحياة، فاستغنى بذكر الغاية عن الوسيلة.
الفائدة السابعة والأربعون:
أظهر الحديث ضعف الإنسان غاية الضعف؛ إذ لا يملك لنفسه هداية ولا طعامًا ولا كساء، فأي ضعف فوق هذا الضعف، وهذا الذي يجعل الأمر محتما على الإنسان ألا يستقل بنفسه وإنما بغيره، ولا يوجد أقوى من أن يرتبط بربه، كما أن الحديث أظهر حاجة الإنسان لربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين حتى في ضرورياته التي لا بد له منها.
الفائدة الثامنة والأربعون:
دل الحديث على أنه ما من نعمة دقت أو عظمت إلا هي من عند الله، وهذا يؤخذ من قوله: "كلكم جائع إلا من أطعمته"، ومعلوم أن الطعام متفاوت قلة وكثرة.
الفائدة التاسعة والأربعون:
في الحديث دلالة على أن العري مذموم عند جميع البشر، يسعون لرفعه عن أنفسهم كما يسعون في رفع الجوع، وبهذا نرد على طائفة الطبائعيين الذين يرون أن من الطبيعة أن يبقى الإنسان عاريًا، وكفى بهذا الحديث ذمًّا لهم عند جميع البشر.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم"، وفي هذا فوائد كثيرة منها:
الفائدة الخمسون:
مناسبة هذا الجزء من الحديث "إنكم تخطئون بالليل والنهار" لما سبق قبلها من قوله: "كلكم عار إلا من كسوته" أنه لما ذكر العري الحسي، ذكر بعدها العري المعنوي وهي الذنوب، فتناسقت ألفاظ الحديث.
الفائدة الحادية والخمسون:
دل هذا الجزء من الحديث على كثرة خطأ بني آدم لقوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار"، وهذا أصل فيهم، فلا يحق لأحد ادعاء الكمال.
الفائدة الثانية والخمسون:
دل هذا الجزء من الحديث على عظيم علم الله سبحانه وتعالى الذي لا تخفى عليه خافية، إذ إنه يحصي جميع خطايا بني آدم.
الفائدة الثالثة والخمسون:
دل قوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار" على حلم الله سبحانه وتعالى الذي يرى خطايا بني آدم ولا يعاجلهم بالعقوبة.
الفائدة الرابعة والخمسون:
في الحديث رد على القدرية الذين يزعمون نفي تقدير الله للمعاصي، فالحديث صريح في أن الله علم ذنوب العباد وقدرها لقوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار".
الفائدة الخامسة والخمسون:
في الحديث فتح لباب الرجاء أمام المذنبين.
الفائدة السادسة والخمسون:
دل قوله: "وأنا أغفر الذنوب جميعًا" على أن الله لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، فالحمد لله على مغفرة ربنا.
الفائدة السابعة والخمسون:
دل قوله: "فاستغفروني أغفر لكم" على أن الإنسان لا غنى له عن الاستغفار؛ لأن ذنوب العباد بالليل والنهار فلا يزيلها إلا الاستغفار، فالحمد لله الذي فتح لنا بابًا له.
الفائدة الثامنة والخمسون:
دل قوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار" أن الله كتب على ابن آدم حظه من الذنوب مدرك ذلك لا محالة، فعلى الإنسان الاشتغال بالمجاهدة، ومحاولة التقليل والإصلاح بعد الوقوع.
الفائدة التاسعة والخمسون:
دل الحديث على أن الله كتب علينا الذنوب، إلا أنه فتح بابًا لإزالتها، فيعالج هذا بذاك.
الفائدة الستون:
هذا الجزء من الحديث "إنكم تخطئون بالليل والنهار" يربي في قلب المؤمن مراقبة الله؛ لأن الله يعلم ذنوبه ويطلع عليها.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"، وهذا فيه من الفوائد ما يلي:
الفائدة الحادية والستون:
مناسبة هذا الجزء من الحديث لما قبله أنه لما بيّن لهم نعمه على العباد، وأنه يطعمهم ويكسوهم ويهديهم، بيّن لهم في هذا الجزء من الحديث أنهم لن يصلوا إلى ضرره أو مصلحة تعود إليه، فقال: "إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني".
الفائدة الثانية والستون:
قدم الضر في هذا الجزء من الحديث على النفع، فقال: "لن تبلغوا ضري"؛ لأن الغالب الحرص على دفع الضر قبل جلب النفع، فجاء الحديث تمشيا مع الغالب، والله أعلم.
الفائدة الثالثة والستون
الملاحظ أنه في جملة نفي الضر عنه أكدها
بقوله: "إنكم لن تبلغوا ضري"، أما الجملة الثانية (ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)
فخلت من التوكيد، والذي يظهر أن ذلك لتمام بيان عجز البشر في جانب إنزال الضر بالله
سبحانه وتعالى، فأكد هذا المعنى بحرف التوكيد "إنكم"، وفي ذلك من هوانهم
وضعفهم ما فيه.
الفائدة الرابعة والستون:
دل الحديث بصريح لفظه عن استغناء الله عن
خلقه تمامًا، وفي ذلك من عظمته وملكه ما يوجب التعلق به وحده.
الفائدة الخامسة والستون:
دل الحديث على أن الله هو الذي يُحَب لذاته،
وهذا لله وحده، فإن غيره يعطي لمصلحة ترجع إليه أو لدفع ضرر عنه، وهذا يُنقِص قدر محبته،
أما الله سبحانه وتعالى فيعطي الخلق لا لمصلحة ترجع إليه، ولهذا يحبه المؤمن كل الحب
وأخلصه.
ثم قال: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم،
وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي
لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في
ملكي شيئا"، وفي ذلك من الفوائد ما يلي:
الفائدة السادسة والستون:
مناسبة هذا الجزء من الحديث لما سبق من
قوله: "إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" أن ما سبق
فيه نفي النفع والضر مباشرة من الخلق لله سبحانه وتعالى، ثم بيّن بعدها نفي النفع غير
المباشر، وإنما عن طريق أعمال العباد فاكتمل الكمال لله سبحانه وتعالى، فكأن المعنى
أن الله يقول لعباده: لن تبلغوا ضري أو نفعي مباشرة، أو غير مباشرة وإنما بحسب تقواكم
وفجوركم، والله أعلم.
الفائدة السابعة والستون:
نسب التقوى والفجور في الحديث للقلب، مما
يدل على أنه محلها، فليهتم المؤمن بقلبه.
الفائدة الثامنة والستون:
قوله: "واحد" للتأكيد وهي أكمل
حالة يكون عليها الناس، أن يكونوا جميعًا على أتقى قلب رجل منهم، فإن حالات التقوى
المتصورة بناء على الحديث:
أ- أن يكون بعض الخلق أتقياء.
ب- أن يكون كل الخلق أتقياء.
ج- أن يكونوا على قلب رجل تقي منهم.
د- أن يكونوا على أتقى قلب رجل منهم، وهذه
أكمل الحالات، فالحديث نفى زيادة ملك الله في هذه الحالة الأكمل، فانتفاؤه في غيرها
من باب أولى، وكذلك الأمر بالنسبة للفجور.
الفائدة التاسعة والستون:
دل قوله: "ما زاد ذلك في ملكي شيئًا"
على أن مُلْك الله بلغ منتهاه في العظمة والسعة، فلا يزاد فيه شيء، فسبحانه وتعالى.
الفائدة السبعون:
قوله: "شيئًا" نكرة في سياق نفي
فتعم أي شيء، وهذا المنتهى في عظمة ملك الله؛ إذ لا يزداد بمقدار أي شيء ولو كان متناهي
الصغر.
الفائدة الحادية والسبعون:
قوله: "أولكم وآخركم" يدخل فيه
ما ذكر في الراويات الأخرى من قوله: "حيكم وميتكم" وقوله: "ورطبكم ويابسكم"
فعمت الروايات المخلوقات كلها فسبحان الله.
الفائدة الثانية والسبعون:
دل الحديث بصريحه على أن الله لا تنفعه
طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فمهما كان الخلق أتقياء لم يزد ذلك في ملك
الله شيئا، ومهما كان الخلق فجارًا لم ينقص ذلك من ملك الله شيئا.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي
لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته
ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"، وفي ذلك من الفوائد
ما يلي:
الفائدة الثالثة والسبعون:
مناسبة هذا الجزء من الحديث لما قبلها من
قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب
رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا" فقد يقال بأن الفجار لا يسألون الله ولذلك
لا ينقص ما عند الله، فأتت هذه الجملة "قاموا في صعيد واحد فسألوني" لتزيل
هذا اللبس، ولتبين لنا عظم ما عند الله مع سعة عطاياه.
الفائدة الرابعة والسبعون:
دل هذا الجزء من الحديث بمنطوقه على عظمة
ما عند الله من عدة أوجه، وهي:
أ- أن السائلين هم الخلق جميعًا أولهم وآخرهم
لقوله: "أولكم وآخركم".
ب- أن من ضمن السائلين الجن أيضا لقوله:
"وجنكم".
ج- أن هؤلاء السائلين جميعا قاموا في مكان
واحد، فكانت حاجاتهم في وقت واحد ومكان واحد، ولا شك أن هذا أعظم في دلالته على ما
عند الله مما لو كانوا متفرقين.
د- أن حاجات هؤلاء السائلين مختلفة متفرقة،
وهذا أعظم في دلالته على ما عند الله مما لو كانت حاجاتهم متفقة.
هـ- أن الله أجاب هؤلاء السائلين كل فيما
طلبه.
ومع كل هذا لم ينقص مما عند الله فسبحانه
وتعالى ملكه.
الفائدة الخامسة والسبعون:
في الحديث ضرب الأمثال، وهذا من وسائل التقريب.
الفائدة السادسة والسبعون:
قوله صلى الله عليه وسلم: "كما ينقص
المخيط إذا أدخل البحر" هذا التشبيه يدل على عظم ما عند الله مقارنة بما أعطى
السائلين.
الفائدة السابعة والسبعون:
هذا التشبيه يدل على أن ما عند الله لا
ينقص ولا ينفد، وذلك من خلال ما يلي:
أ- البحر كمية هائلة من الماء لا حساب له.
ب- المخيط أداة صغيرة لا يعلق بها شيء.
ج- المخيط صقيل لا يعلق به ماء أصلاً.
فكانت النتيجة أن البحر لم ينقص أصلاً،
فما عند الله أعظم من البحر.
تدل على كرم الله سبحانه وتعالى؛ إذ يسأل عباده أن يسألوه، ويعدهم بالإجابة.
الفائدة التاسعة والسبعون:
قوله:"فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عند" مرادف لقوله تعالى:﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾[الحجر: 21].
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه"، وفي ذلك من الفوائد الشيء الكثير، ومنها:
الفائدة الثمانون:
في هذا الجزء من الحديث رد على الجبرية؛ إذ نسب الأعمال للعباد، فقال: "إنما هي أعمالكم".
الفائدة الحادية والثمانون:
في قوله: "إنما هي أعمالكم" مع قوله: "فاستهدوني أهدكم" تأصيل لمذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر وهو: أن الهداية والإضلال بيد الله، والعبد له قدرة واختيار، وعمله ينسب إليه، ولهذا نسب الأعمال إليهم فقال: "أعمالكم" ولا يكون هذا إلا مع مباشرتها بقدرتهم واختيارهم.
الفائدة الثانية والثمانون:
قوله: "ثم أوفيكم إياها" تحتمل الموافاة في الدنيا، وتحتمل الموافاة في الآخرة، وعلى هذا ما يصيب الإنسان في الدنيا من سوء فبسبب أعماله، فليحذر العبد المؤمن.
الفائدة الثالثة والثمانون:
على القول بأن الموافاة تكون في الدنيا، فإن حرف"ثم" في قوله: "أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها" يفيد التراخي، وعلى هذا قد يعمل الإنسان السوء ثم تتأخر موافاة الله له، وهذا يجعلنا لا نغتر بحلم الله عنا، ولا نأمن من الاستدراج، وبالمقابل قد يعمل الإنسان الخير وتتأخر موافاة الله له، وهذا يجعلنا نحتسب أجورنا عند الله في الآخرة.
الفائدة الرابعة والثمانون:
دل قوله: "أحصيها لكم" على أن كل ما عمل الإنسان من عمل فهو مكتوب محفوظ عند الله، وعلى هذا كم من الذنوب نسيها الإنسان وهي مكتوبة عليه؟ فلنلزم الاستغفار.
الفائدة الخامسة والثمانون:
في قوله: "أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها" إظهار للعدل الذي اتصف الله به، والذي تمثل هنا في موافاة كل عامل بما عمل، وهذا يرجح مذهب أهل السنة في تفسيرهم الظلم الذي تنزه الله عنه بأنه بخس إنسان من حسناته، أو أن يوضع عليه من أوزار غيره، وهذا نفاه الله لعدله في قوله: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ".
الفائدة السادسة والثمانون:
جمع الحديث أعمال القلوب الثلاثة، وهي:
أ- المحبة: وهذا في جميع ألفاظ الحديث حيث إنها تزيد من محبة العبد لربه.
ب- الرجاء: وهذا في قوله: "وأنا أغفر الذنوب جميعا".
ج- الخوف: وهذا في قوله: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم".
وعلى هذه الثلاثة تدور بقية الأعمال القلبية.
الفائدة السابعة والثمانون:
دل قوله: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله" أن دخول الجنة يكون بفضل الله وحده، وليس بمجرد الأعمال، فإن أعمال العباد لا تؤهل الإنسان لدخول الجنة، وإنما يدخلها المؤمنون بفضل الله، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدًا عملُهُ الجنة، قالوا: ولا أنت يارسول الله، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" أخرجه البخاري (5349) ومسلم (2816).
الفائدة الثامنة والثمانون:
يدل الحديث على أن الجن مكلفون بعبادة الله سبحانه وتعالى كالإنس، وسيحاسبهم الله على أعمالهم، كما في لفظ الحديث.
الفائدة التاسعة والثمانون:
يورث الحديث الحياء من الله سبحانه وتعالى، فمع غناه الكامل وعظمته إلا أنه ينادي عباده لدعائه واستغفاره.
الفائدة التسعون:
الحديث دليل على أن الله يحب مدح نفسه، وهو أهل للمدح، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من شخص أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه" متفق عليه أخرجه البخاري (4358) و(4922) و(6968) ومسلم ( 2760).
فهذه تسعون فائدة تخللها فوائد أخرى، يسر الله وأعان على استنباطها فله الحمد وحده، سائلا الله أن ينفعني بها، وأن يتقبلها خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تسعون فائدة
الشيخ عقيل الشمري
شرح حديث: (يا غلام إني أعلمك كلمات)
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سالت فسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لم اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف).رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية ( احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطأك واعلم أن النصر مع الصبر وان الفرج مع الكرب وان مع العسر يسرى).
هذا الحديث أصل عظيم في تربية الصبيان وتوجيههم وكله يدور على تعلق القلب بالله والالتفات إليه وقطع الطمع والرجاء في ما عند الناس وتفويض الأمر إلى الله.
وفيه مسائل:
الأولى: في قول النبي صلى الله عليه وسلم:(احفظ الله ). الأمر بحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلا ما نهى عنه فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه قال تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ).
وقد جاءت النصوص بحفظ أمور مهمة والاعتناء بها فمن ذلك:
1-الطهارة: فإنها مفتاح الصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء الا مؤمن). رواه احمد.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على الوضوء لكل صلاة كما ثبت في السنة.
2-الصلاة: فقد أمر الله سبحانه بالمحافظة عليها في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ). ومدح المحافظين عليها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حافظ عليهن كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة). رواه أحمد.
3-الأيمان: أمر الله بحفظها كما في قوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم) وكثيرا من الناس يكثر من الحلف لغير حاجة واذا حلف فلا يلتزم بما يجب فيها ومنهم من يحلف بالله كاذبا وقد ورد الوعيد في التساهل في ذلك.
4-الرأس والبطن: أمر الله بحفظهما كما في حديث عبدالله بن مسعود: ( الاستحياء حق الحياة أن تحفظ الرأس وماوعى وتحفظ البطن وما حوى). رواه احمد . وحفظ الرأس يتضمن حفظ السمع والبصر واللسان عن المحرمات وحفظ البطن يتضمن حفظ القلب عن المحرمات وحفظ البطن عن أكل الحرام وشهوة الرأس والبطن مهلكة لكثير من الخلق وقد تساهل الناس في أكل الحرام وورد في ذلك وعيد شديد.
5-اللسان والفرج: وهما من أعظم ما يجب حفظه عن المحرمات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة). وقد أمر الله عزوجل بحفظ الفروج ومدح الحافظين لها فقال: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ). وهذان العضوان من أعظم الأسباب التي تدخل النار وقد ورد وعيد شديد لمن فرط فيهما وإذا افتتن المرء فيهما أصيب في مقتل ولا يحافظ عليهما إلا الكمل من أهل الإيمان.
واستخفاف المؤمن في هذه الخصال يدل على ضعف إيمانه وقلة يقينه وطاعته للشيطان وحرصه عليها وصيانته لها يدل على كمال إيمانه وقوة يقينه وتحصنه من أولياء الشيطان.
الثانية: قوله: (يحفظك) مراده من حفظ حدود الله وراعى حدوده حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل كما قال تعالى: (وأوفوا بعهده)
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
الأول: حفظه في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله قال الله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ). قال ابن عباس: (هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلو عنه). ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعفه ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله وكان العالم أبو الطيب الطبري قد جاوز المئة سنة وهو ممتع بقوته وعقله فوثب يوما وثبة شديدة فعوتب في ذلك فقال هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.
ومن حفظ الله للعبد حفظ ذريته بعد موته بصلاحه كما في قوله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) قال ابن عباس: (إنهما حفظا بصلاح أبيهما). وقال ابن المنكدر: (إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر).
وعكس هذا من ضيع الله ضيعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر من حيث كان يرجو نفعه من أهله كما قال بعض السلف: (إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خادمي ودابتي).
الثاني: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان ففي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يقول عند منامه: (إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). والله يحول بين العبد وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ وقد لا يشعر العبد بذلك وقد يكون كارها له كما قال في حق يوسف عليه السلام: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). ولذلك ورد في المستدرك: (إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الماء). فالعبد الصالح يحميه الله من فتنة الدنيا ووسائل الفتن ويغلق عليه أبواب الشر ويفتح عليه أبواب الخير كما قال ابن مسعود: (إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له فينظر الله إليه فيقول للملائكة اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه فيظل يتطير يقول سبقني فلان دهاني فلان وما هو إلا فضل الله عز جل).
الثالثة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله تجده تجاهك). دليل على إثبات معية الله لعبده فمن حفظ حدود الله وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون).
والمعية الواردة في النصوص قسمان:
1- معية خاصة وهي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى). وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الغار: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا). متفق عليه. وهذه المعية تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة وهي خاصة بأولياء الله وأهل طاعته.
2- معية عامة وهي المذكورة في قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا). وهذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمال العباد فهي مقتضية لتخويف العباد وتحذيرهم وهي عامة للمؤمن والكافر والبر والفاجر.
الرابعة: في الحديث الأمر بسؤال الله وقد أمر الله بمسألته فقال: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه). وسؤاله هو دعاؤه بالرغبة إليه والدعاء هو العبادة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير وتلا قوله تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم). رواه أحمد. والله يحب أن يسأله العبد ويكثر من سؤاله لما في ذلك من حسن الظن والتوكل به والتعلق به والمؤمن يسأل ربه في كل شيء حتى في سقط المتاع لما روي في الدعاء للطبراني: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعليه اذا انقطع).
وسؤال المخلوق قسمان:
الأول: محرم وهو طلب المخلوق في أمر لا يقدر عليه إلا الله وهو من الشرك الأكبر بالله تعالى المخرج من الملة قال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا).
الثاني: جائز وهو طلب المخلوق عند الحاجة في أمر يقدر عليه من المال والمنفعة والجاه فهذا مباح للمؤمن ولا يقدح في التوحيد والتنزه عنه من كمال التوكل والاعتماد على الله كحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد ورد في السنة الصحيحة النهي عن مسألة المخلوقين وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا وكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه. وإنما ورد النهي عن سؤال المخلوق لما فيه من إظهار التذلل والافتقار والمسكنة للمخلوق ولما يلحقه من المنة والمذلة وهذا المقام لا يصلح إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة ولأنه قادر على الضر والنفع كما قال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ). فينبغي على المؤمن أن يفرد الله بالسؤال والاستعانة ويخلص توجهه إليه ليكون من أوليائه وأصفيائه ولا يلتفت قلبه للمخلوق العاجز المنان الشحيح بنعم الله.
الخامسة: في الحديث الأمر بإفراد الاستعانة بالله وحده دون ما سواه كما قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). والاستعانة هي طلب العون من الله بحيث يتوجه قلب العبد إلى الله قبل قيامه بالعمل وأثناء قيامه ولا تصلح الاستعانة إلا بالله لأنها عبادة قلبية محضة لا يحق صرفها لغير الله ولأن المعين حقيقة وقدرا وفعلا هو الله مالك زمام الأمور وخالق الأسباب ومسير العباد ومتصرف بنواصيهم أما الأسباب والوسائل فلا يصلح الاستعانة بها لأنها مخلوقة لا تملك نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله وإن شاء أمضاها وإن شاء منعها. وللاستعانة بالله في القيام بأمور الدين والدنيا لها أثر عظيم في اجتماع القلب وتحقق العزيمة وكمال القدرة وتسيير الأمور وحصول التوفيق من الله. أما المشرك الذي يستعين بالجن والأولياء في قضاء الحاجات فقلبه مشتت في كل واد وهمه متفرق وسعيه باطل وعزمه واهن لأنه اعتمد على المخلوق العاجز الذي لا يملك صرف الضر عن نفسه فضلا عن غيره.
السادسة: قوله: (واعلم أن الأمة لم اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف). في هذا بيان لأصل عظيم من أصول الإيمان وهو الإيمان والتسليم وإقرار القلب بأن النفع والضر بيد الله يقدره للعبد حيث شاء وكيف شاء لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يمنع حصول ذلك لأن كلمة الله نافذة على سائر الخلق وهذا يقتضي أن الخلق كلهم لا يملكون نفعا ولا ضرا للعبد إلا بإذن الله وتيسيره وتوفيقه فإذا أرادت الأمة بأسرها وعتادها أن ينفعوا أحدا لم ينفعوه إلا بشيء قدره الله له وإن أرادت الأمة بأسرها أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قدره الله عليه والله يحعل من شاء من خلقه سببا للخير والشر إذا وهذا يوجب للعبد أن يعلق قلبه بالله وحده لا شريك له لأنه المنعم حقا والأمر بيده ويسأله من فضله ولا يلتفت إلى المخلوق العاجز المنان
السابعة: في قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف). دليل على تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد وقد دل الكتاب والسنة على هذا المعنى قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسن ألف سنة). وفي مسند أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة). وهذا يدل على أن كل ما يصيب العبد في الدنيا من خير وشر مقدر عليه ومكتوب في الكتاب السابق وليس للخلق شأن فيه.
الثامنة: في قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك بالشدة). مراده أن العبد إذا اتقى الله وأقبل عليه بكليته وتعلق قلبه به واشتغل بطاعته في السعة والغنى والعافية صار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة وراعى تعرفه له في الرخاء فنجاه في الشدائد بهذه المعرفة لأن الجزاء من جنس العمل وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
ومعرفة العبد لربه نوعان:
1-المعرفة العامة وهي تقتضي الإقرار به والتصديق والإيمان وهذه عامة للمؤمنين.
2-المعرفة الخاصة وهي تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له وهذه المعية هي التي يعرفها العارفون كما قال بعض السلف: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب فيها قيل له وما هو قال معرفة الله عز وجل).
ومعرفة الله للعبد نوعان:
الأولى: معرفة عامة وهي علمه سبحانه بعباده واطلاعه على سرائرهم وعلانيتهم كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ).
الثاني: معرفة خاصة وتقتضي محبة الله لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجائه من الشدائد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه: (ولا يزال عبدي يتقرب لي حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به).
والحاصل أن من عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته كما ورد في الترمذي: (من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء). وقال سلمان: (إذا كان الرجل دعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له). وأعظم الشدائد التي ينبغي للمؤمن أن يعد لها العدة الموت وما بعده فمن استعد له ذكر الله عند موته ولطف به وأعانه وتولاه وثبته على التوحيد فلقيه وهو راض عنه ومن ضيع أمر الله في حياته ولم يستعد للموت نسيه الله عند موته وأعرض عنه وأهمله ولقيه وهو ساخط عليه وأحاطت به الحسرة والندامة. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون).
التاسعة: في قوله: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطأك). يحقق يقين قلب العبد بالقضاء السابق فإن أوقن حصول ذلك القدر وأنه لا مفر له منه مهما أوتي من الحيل والحذر حصل له الرضا التام بما يقدره الله عليه من المصائب والمحن والمؤمنون يتفاوتون في هذا الباب تفاوتا عظيما فمن كمل يقينه كان من أهل الرضا ومن نقص يقينه كان من أهل الصبر.
والمؤمن له درجتان في باب القضاء والقدر:
الأولى: الرضا بالقضاء وهذه درجة عالية لا يقوى عليها إلا الخلص وهو من كمال الإيمان قال الله عز وجل: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). قال علقمة: (هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى). وحقيقة الرضا انشراح صدر المبتلى بما نزل عليه من القضاء وترك تمني زواله مع وجود الألم لما يشاهد قلبه من حكمة الله وعظيم ثوابالرضا فيتلذذ بالبلاء ويجد النعيم والسرور في حياته كما قال عمر بن عبد العزيز: (أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر). وقال عبد الواحد: (الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين).
الثانية: الصبر على القضاء وهذه درجة نازلة لعموم أهل الإيمان وهو واجب على كل مسلم يأثم بتركه لأن الله أمر به وله فوائد عظيمة في الدنيا والآخرة قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). والصبر أعظم سلاح للمؤمن يكابد به أهوال الدنيا قال الحسن: (الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن). وحقيقة الصبر حبس القلب والجوارح عند نزول البلاء عن كل ما يسخط الله وتمني زوال البلاء فلا يعتقد المبتلى ولا يتكلم ولا يحرك بدنه في أمر محرم ولذلك نهى الشارع عن أفعال وأقوال تصدر عن الجهال حال المصيبة وعدها من الكبائر لما في ذلك من التسخط والاعتراض على القضاء والقدر.
العاشرة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن النصر مع الصبر). دليل على أن النصر على العدو يتحقق مع صبر النفس وتصبرها في مجاهدة الأعداء كما قال تعالى: (كَمْ مِنْفِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). فالنصر يحتاج إلى يقين ومجاهدة وصبر على ألم القتال والجراح وهول الموقف. قال بعض السلف: (كلنا يكره الموت وألم الجراح ولكن نتفاضل بالصبر).
والجهاد الذي يتطلب الصبر نوعان:
الأول: جهاد العدو الظاهر وهو قتال الكفار وإليه ينصرف لفظ الجهاد إذا أطلق في النصوص وله شأن عظيم في الإسلام وورد له فضائل متكاثرة في الأدلة وهو من أعظم القربات وهو كسائر الطاعات له شروط وضوابط يجب أن تتحقق فيه.
الثاني: جهاد العدو الباطن وهو جهاد النفس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه في الله). رواه أحمد.
وهذا هو أصل الجهاد ومن جاهد نفسه من الشيطان والهوى واستقامت على الشرع كان سهلا عليه جهاد الكفار. قال عبد الله بن عمر لمن سأله عن الجهاد: (ابدأ بنفسك فجاهدها وابدأ بنفسك فاغزها). وهذا النوع شاق على النفوس ويفشل فيه كثير من المسلمين ولذلك قال علي بن ابي طالب: (أول ما تنكرون من جهادكم جهادكم لأنفسكم). وكان السلف الصالح يشددون في هذا الأمر ولذلك قال أبو بكر في وصيته لعمر: (إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك). ومن أعظم الأسباب التي تجعل المؤمن يخسر في معركة النفس الجهل وقلة البصيرة وضعف الإيمان واتباع الهوى وتسويف الشيطان وصحبة البطالين وطول الأمل وحب الدنيا. ومن صبر على جهاد نفسه وكسر هواها وقادها كان عزيزا في الدنيا ملكا سعيدا بالطاعة ومن غلبته نفسه وقهرته واتبع شهواته كان ذليلا للشيطان أسيرا للهوى شقيا في الدنيا. ومن أعظم ما يكسر النفس ويذللها قراءة القرآن والصوم وقيام الليل وزيارة القبور والجلوس في المساجد ورؤية الفقراء والصدقة ومداومة الاستغفار والتفكر في صفة النار وأهلها.
الحادية عشرة: أفاد قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن الفرج مع الكرب). أن فرج الله وتيسير العسير يكون بعد نزول الكرب على المؤمن وهذه من سنة الله الكونية على العباد ليختبرهم ويتمحنهم ويرى فعلهم تجاه المصائب ثم إذا رأى صبرهم ويقينهم وتسليمهم القدر لله وخضوعهم وقنوطهم أنزل عليهم الفرج كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ). وقد ورد أن الله يعجب من قنوط عباده مع قرب فرجهم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو أن العسر دخل في جحر لجاء اليسر حتى يدخل معه ثم قرا قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(. والكرب إما يكون بنزول أسباب الشر من مرض وخوف وجوع أو بمنع أسباب الخير من رزق وولد. ومن حكمة الله أن الكرب إذا اشتد على المؤمن وتناهى وانقطع رجاؤه بالمخلوقين وأيس منهم تعلق قلبه بالله وأحسن التوكل على الله و حينها ينزل الفرج. قال الفضيل: (والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئا لأعطاك مولاك كل ما تريد). وقد حكى الله في كتابه قصصا عجيبة في تفريج الكربات عن أنبيائه كما في قصة نوح وإبراهيم وموسى ونبينا محمد صلوات الله عليهم. فينبغي على المؤمن إذا نزل به البلاء أن يدعو ربه ويحسن يه الظن ويفوض أمره لله ولا يقنط من رحمة الله ولا يستبطئ الفرج فإن نزل الفرج فليحمد الله وإن تأخر فليعلم أن التأخر كان بسبب ذنوبه وغفلته فليلم نفسه في الله وهذا يوجب الانكسار والذل بين يدي مقام الله وهو من أعظم الأحوال الإيمانية التي يثاب عليها العبد ثوابا عظيما في الآخرة. ومن فرج عن الخلق فرج الله عنه ونفس كربته. وهذا الحديث من أقوى البشائر لمن علته الهموم وغلبته الأحزان وتراكمت عليه المحن فليبشر وليعلم أن فرج الله قريب.
خالد بن سعود البليهد
شرح حديث:(لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله)
عن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا رواه الترمذي وقال: حديث حسن معناه: تذهب أول النهار خماصا: أي ضامرة البطون من الجوع وترجع آخر النهار بطانا: أي ممتلئة البطون
الشَّرْحُ
قوله: حق توكله أي: توكلا حقيقيا تعتمدون على الله اعتمادا كاملا في طلب رزقكم وفي غيره لرزقكم كما يرزق الطير الطير رزقها على الله عز وجل لأنها طيور ليس لها مالك فتطير في الجو وتغدو إلى أوكارها وتستجلب رزق الله عز وجل تغدو خماصا الغدو: الذهاب في أول النهار وخماصا: جائعة كما قال الله فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم مخمصة مجاعة تغدو خماصا ليس في بطونها شيء لكنها متوكلة على ربها عز وجل وتروح بطانا تروح أي: ترجع في آخر النهار لأن الرواح هو آخر النهار بطانا أي: ممتلئة البطون من رزق الله عز وجل ففي هذا دليل على مسائل أولا: أنه ينبغي للإنسان أن يعتمد على الله حق الاعتماد
ثانيا: أنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها حتى الطير في جو السماء لا يمسكه في جو السماء إلا الله ولا يرزقه إلا الله كل دابة في الأرض من أصغر ما يكون كالذر أو أكبر ما يكون كالفيلة وأشباهها فإن على الله رزقها كما قال الله { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها }
ولقد ضل ضلالا مبينا من أساء الظن بربه فقال: لا تكثروا الأولاد: تضيق عليكم الأرزاق فرزق أولادك وأطفالك على الله عز وجل هو الذي يفتح لك أبواب الرزق من أجل أن تنفق عليهم لكن أكثر الناس عندهم سوء ظن بالله ويعتمدون على الأمور المادية المنظورة ولا ينظرون إلى المدى البعيد وإلى قدرة الله وأنه هو الذي يرزق ولو كثر الأولاد أكثر من الأولاد تكثر لك الأرزاق هذا هو الصحيح
وفي هذا: دليل على أن الإنسان إذا توكل على الله حق التوكل فليفعل الأسباب وضل من قال: لا أفعل السبب وأنا متوكل فهذا غير صحيح المتوكل هو الذي يفعل الأسباب معتمدا على الله عز وجل ولهذا قال كما يرزق الطير تغدو خماصا تذهب لتطلب الرزق ليست الطيور في أوكارها ولكنها تغدو وتطلب الرزق فأنت إذا توكلت على الله حق التوكل فلابد أن تفعل الأسباب التي شرعها الله لك من طلب الرزق من وجه حلال بالزراعة بالتجارة بالعمالة بأي شيء من أسباب الرزق اطلب الرزق معتمدا على الله ييسر الله لك الرزق ومن فوائد هذا الحديث أن الطيور وغيرها من مخلوقات الله تعرف الله كما قال الله تعالى { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده } أي: ما من شيء إلا يسبح بحمد الله { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء } فالطيور تعرف خالقها عز وجل وتطير تطلب الرزق بما جلبها الله عليه من الفطرة التي تهتدى بها إلى مصالحها وتغدو إلى أوكارها في آخر النهار بطونها ملأى وهكذا دواليك في كل يوم والله عز وجل يرزقها وييسر لها الرزق وانظر إلى حكمة الله كيف تغدو هذه الطيور إلى محلات بعيدة وتهتدى بالرجوع إلى أماكنها لا تخطئها لأن الله أعطى كل شيء خلقه ثم هدى والله الموفق
شرح ابن عثيمين الأربعين النووية
بسم الله الرحمن الرحيم
رياض الصالحين
شرح حديث أبي هريرةَ -رضي الله عنه-: "مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ صَحَابَتي؟"
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب بر الوالدين وصلة الأرحام أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: ((جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -يعني: صحبتي-، قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك))([1]). متفق عليه.
وفي رواية: يا رسول الله، من أحق بحسن الصحبة؟، قال:((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك أدناك))([2]).
فهذا الحديث يبيّن فضل الأم ومنزلتها، وأن الأم لها من الحق في هذا الجانب وهو حسن الصحبة ثلاثة أضعاف ما للأب،
والمقصود بحسن الصحبة:
حسن المعاشرة، والملاطفة، والإحسان والبر،
وذلك أن الأم تحملت الحمل وآلام الولادة، وكذلك أيضاً الرضاع والحضانة، كل هذا شقيت به وتعبت، والأب كذلك هو سبب في وجود الإنسان، وهو الذي يبذل ويتعب، ولكن الأم تحملت زيادة على ذلك هذه الأمور الثلاثة التي ليس للأب شيء منها، فهذا الإنسان حينما يكون في بطنها يعيش على دمها، وحينما يخرج تعاين الموت، وحينما يولد فإنها تقدمه على نفسها، وراحته على راحتها، وتفرح لفرحه، وتتألم لألمه وحزنه، وإذا مرض مرضت معه، وإذا صار في المدرسة فكأنها هي التي تدرس، وإذا اختبر كأنها هي التي تختبر، وهكذا حتى يتم، ثم بعد ذلك تشقى بعياله من بعده، وتجد لهم ما تجد له، كل هذا يقع للأم، فالمقصود أنها أولى الناس، لكن هذا الحديث إنما هو في حسن الصحبة، ولهذا يقال: لو أنه تعارض أمر الأم وأمر الأب من الذي يقدم؟.
أبوه يقول: لا تفعل كذا، وأمه تقول: افعل كذا، في غير معصية الله -عز وجل-، أبوه يقول: اعمل بالمكان الفلاني، وأمه تقول: اعمل في المكان الفلاني، أبوه يقول: ادرس في الجامعة الفلانية، وأمه تقول: ادرس في الجامعة الفلانية، يطيع من؟.
من أهل العلم من قال: إن الأم مقدمة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر حقها ثلاث مرات.
ومنهم من قال: الأب، ونقل عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه سأله رجل فقال: إن أبي في السودان، والمقصود بالسودان القارة الإفريقية في ذلك الوقت، وإلى وقت قريب كان يقال لذلك: السودان، بلد السودان وما حولها، قال: إن أبي في السودان ويدعوني، يطلب مني أن أقدم إليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال الإمام مالك -رحمه الله-: أطع أباك ولا تعصِ أمك، فمن أصحاب الإمام مالك من فهم من هذا أنه قصد أنه يطاع الأب فيما لا يكون معصية للأم، يعني: أن الأم مقدمة.
ومنهم من فهم أنه قدّم طاعة الأب، والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه في مثل هذه الأمور التي تتعلق بالتدبير فهي من شأن الولاية، والولاية إنما تكون للأب وليست للأم.
فهذا الحديث إنما هو في حسن الصحبة، فالذي يدبره هو أبوه، وليس أمه التي تدبره، فوليه الأب، فيجب عليه أن يطيعه في مثل هذه الأمور، إلا فيما يلحقه به ضرر أو يحصل له عنت أو نحو هذا، فمثل هذه الأمور يحصل فيها التفاهم والملاطفة والإقناع وما أشبه هذا، لكن الذي يأمره وينهاه فيما يتعلق بأموره الحياتية هو أبوه؛ لأنه هو وليه، الأب هو الذي يطالبه أن يدرس يذهب به إلى المدرسة، يدرس في هذه المدرسة أو تلك، إلى آخره، أمه تقول: لا، أريده أن يدرس في مدرسة خاصة، ليس هذا للأم، إنما هو للأب، القرار الأول والأخير للأب، لماذا؟ لأنه هو الولي، أما في المعاشرة والمخالطة وحسن الصحبة فالأم ثلاثة أضعاف الأب من التلطف، يعني: إذا كان الإنسان مأمورًا ببر أبيه والتلطف به، والإحسان إليه، فماذا يصنع مع أمه؟، ثلاثة أضعاف، ولهذا كان ابن سيرين -رحمه الله- إذا كلّم أمه مَن لا يعرفه يظن أنه مريض، كأنه ضارع، يتضرع بصوت منخفض جدًّا، وبغاية التذلل والتواضع، هكذا يصنع مع أمه، وما كان يأكل معها؛ يخاف أن تمتد عينها إلى شيء ثم تسبق يده إليه، من شدة بره بها، فيتلطف الإنسان غاية التلطف، يقبّل رأسها، ويدها، ويكلمها بأحسن عبارة، وبألطف أسلوب، ولا يرفع صوته، ولا ينصب يده في وجه أبيه ولا أمه، ولهذا قال بعض السلف: ما بر أبويه من مد إليهما النظر.
هذا جاء عن عروة بن الزبير -رحمه الله-، يعني يجلس ينظر إليهما، يحدق في النظر إليهما، هذا يدل على أنه في شيء من عدم الهيبة وعدم الاكتراث، فكيف إذا كان يأمرهما: أعطني كذا، هات لي كذا؟!، هذا ما يليق، هو الذي يقوم على خدمتهما، وشئونهما ونحو ذلك.
فنسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم البر، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وأن يجعل ما نسمع سبباً وسبيلاً إلى مرضاته، وأن يجعله سبيلاً إلى العمل بطاعته، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
فضل الأم في الإسلام :
للأم مكانة عظيمة سواء في الأسرة أو في المجتمع بأكمله ، فهي تقوم بتعليم الابناء والاهتمام بهم وبصحتهم وتنشئهم على الاخلاق الحميدة وتعاليم الدين الإسلامي ، مما يجعلها مسؤولة عن اعداد أجيالاً تساعد في بناء مستقبل مشرق .
وقد أدرك الإسلام دور الأم القوي في المجتمع ، ولذلك قام رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، بتوعيتنا عن دور وفضل الأم ، وحث على طاعتها والبر بها و ذكرها في أكثر من حديث ، وسنتناول هذه الأحاديث تفصيلاً .
الحديث الثاني : عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : ” أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : هَلْ بَقِيَ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ : أُمِّي ، قَالَ : فَأَبْلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرًا فِي بِرِّهَا ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهدٌ إِذَا رَضِيَتْ عَنْكَ أُمُّكَ ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَبَرَّهَا “
دلالة الحديث : يدل الحديث عن الثواب العظيم الذي يعود على الشخص من بر أمه ، فكأنه يعادل الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله ، مما يدل على فضل الأم ومكانتها .
الحديث الثالث : حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت ” قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ ، أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قَالَ : ” نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ “
دلالة الحديث : ففي هذا الحديث أمر الرسول بصلة الأم وبرها رغم أنها ليست على دين الإسلام ، والصلة هنا تعني الأذن لها بالدخول ، والإحسان إليها سواء بالقول أو الفعل أو المواساة .
الحديث الرابع : عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” لا يَجزي ولدٌ والدًا، إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه “
دلالة الحديث : يبين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مدى فضل الوالدين على الشخص ، فهو مهما فعل لن يستطع رد أفضالهم التي لا تحصى .
الحديث الخامس : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ ” .
دلالة الحديث : يرشدنا الرسول صلى الله وعليه وسلم عن المكانة العظيمة التي وضعها الله للوالدين ، فقد جعل رضاهم من رضاه ، وسخطهم من سخطه .
الحديث السادس : ” رجلاً كان بالطّواف حاملاً أمّه يطوف بها، فسأل النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هل أدّيتُ حقّها؟ قال : لا، ولا بزفرة واحدة ” أي من زفرات الطّلق والوضع ونحوها .
دلالة الحديث : يدل هذا الحديث على مدى فضل الأم العظيم على الأبن ، فكل ما يفعله من أجلها لا يضاهي زفرة واحدة من زفرات الوضع أو الطلق ولا تعبها وسهرها لرعايته .
شرح حديث
(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) رواه البخاري
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة ، والفراغ ) ، يعني أن هذين الجنسين من النعم مغبون فيهما كثير من الناس ، أي مغلوب فيهما ، وهما الصحة والفراغ ، وذلك أن الإنسان إذا كان صحيحاً كان قادراً على ما أمره الله به أن يفعله ، وكان قادراً على ما نهاه الله عنه أن يتركه لأنه صحيح البدن ،منشرح الصدر ، مطمئن القلب ، كذلك الفراغ إذا كان عنده ما يؤويه وما يكفيه من مؤنة فهو متفرغ .
فإذا كان الإنسان فارغاً صحيحاً فإنه يغبن كثيراً في هذا ، لأن كثيراً من أوقاتنا تضيع بلا فائدة ونحن في صحة وعافية وفراغ ، ومع ذلك تضيع علينا كثيراً ، ولكننا لا نعرف هذا الغبن في الدنيا ، إنما يعرف الإنسان الغبن إذا حضره أجله ، وإذا كان يوم القيامة ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) (المؤمنون :100)،
وقال عز وجل في سورة المنافقون : ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِين َ) (المنافقون:10) ،
وقال الله عز وجل: ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون:11).
الواقع أن هذه الأوقات الكثيرة تذهب علينا سدىً، لا تنفع منها، ولا ننفع أحداً من عباد الله، ولا نندم على هذا إلا إذا حضر الأجل؛يتمنى الإنسان أن يعطى فرصة ولو دقيقة واحدة لأجل أن يستعتب، ولكن لا يحصل ذلك.
ثم إن الإنسان قد لا تفوته هاتان النعمتان : الصحة والفراغ بالموت ، بل قد تفوته قبل أن يموت ، قد يمرض ويعجز عن القيام بما أوجب الله عليه ،وقد يمرض ويكون ضيق الصدر لا يشرح صدره ويتعب، وقد ينشغل بطلب النفقة له ولعياله حتى تفوته كثير من الطاعات.
ولهذا ينبغي للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله ـ عز وجل ـ بقدر ما يستطيع، إن كان قارئاً للقرآن فليكثر من قراءة القرآن،وإن كان لا يعرف القراءة يكثر من ذكر الله عز وجل، وإذا كان لا يمكنه ؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يبذل لإخوانه كل ما يستطيع من معونة وإحسان ، فكل هذه خيرات كثيرة تذهب علينا سدىً، فالإنسان العاقل هو الذي ينتهز الفرص؛ فرصة الصحة ،وفرصة الفراغ.
وفي هذا دليل على أن نعم الله تتفاوت، وأن بعضها أكثر من بعض، وأكبر نعمة ينعم الله تعالى بها على العبد : نعمة الإسلام ،ونعمة الإسلام التي أضل الله عنها كثيراً من الناس، قال الله تعالى:
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (المائدة:3)
فإذا وجد الإنسان أن الله قد أنعم عليه بالإسلام وشرح الله صدره له؛ فإن هذه أكبر النعم.
ثم ثانياً: نعمة العقل، فإن الإنسان إذا رأى مبتلى في عقله لا يحسن التصرف، وربما يسيء إلى نفسه وإلى أهله؛ حمد الله على هذه النعمة ؛ فإنها نعمة عظيمة.
ثالثاً: نعمة الأمن في الأوطان ، فإنها من أكبر النعم ، ونضرب لكم مثلاً بما سبق عن آبائنا وأجدادنا من المخاوف العظيمة في هذه البلاد، حتى إننا نسمع أنهم كانوا إذا خرج الواحد منهم إلى صلاة الفجر؛ لا يخرج إلا مصطحباً سلاحه؛ لأنه يخشى أن يعتدي عليه أحد، ثم نضرب مثلاً في حرب الخليج التي مضت في العام الماضي؛ كيف كان الناس خائفين ! أصبح الناس يغلقون شبابيكهم بالشمع خوفاً من شيء متوهم أن يرسل عليهم ،وصار الناس في قلق عظيم ، فنعمة الأمن لا يشابهها نعمة غير نعمة الإسلام والعقل.
رابعاً : كذلك مما أنعم الله به علينا ـ ولا سيما في هذه البلاد ـ رغد العيش؛ يأتينا من كل مكان، فنحن في خير عظيم ولله الحمد؛ البيوت مليئة من الأرزاق، ويقدم من الأرزاق للواحد ما يكفي اثنين أو ثلاثة أو أكثر، هذه أيضاً من النعم. فعلينا أن نشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعم العظيمة ، وأن نقوم بطاعة الله حتى يمن علينا بزيادة النعم؛ لأن الله تعالى يقول:( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(إبراهيم:7).
المصدر
من كتاب رياض الصالحين المجلد الثاني / باب المجاهدة
للشيخ محمد العثيمين
شرح حديث
يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح ].
هذا الحديث هو خاتمة الأربعين حديثاً التي جمعها الإمام الجليل النووي رحمه الله، وذلك عملاً بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً .. .
وهذا نوع من أنواع جمع الحديث، فقد يجمع العالم أربعين حديثاً عامة، وقد يجمع أربعين حديثاً خاصة؛ كأربعين حديثاً في فضل المدينة، أو أربعين حديثاً في فضل الاستغفار، أو أربعين حديثاً فيما يتعلق بالحج، فقد يفرد بعض العلماء أربعين حديثاً في موضوع واحد.
والإمام النووي رحمه الله جمع لنا هذه الأربعين المتنوعة، التي اشتملت على التوجيهات النبوية الكريمة بما فيها من أخلاق ومواعظ وتوجيه، وهذا هو الحديث الختامي.
لقد أشار علماء الحديث الذين تعرضوا لهذا المجموع في الحديث الحادي والأربعين في قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، إلى أن هذا الحديث ينبه كل مسلم بأنه يجب عليه أن يروض نفسه على أن تكون ميوله ورغباته واتجاهاته كلها تابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أشرنا إلى ذلك، وذكرنا ما يتعلق بالحديث من الأحكام من محاربة البدع ولزوم اتباع الكتاب والسنة، وأن ميزان إيمان المؤمن هو في رضاه بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك نفي الإيمان عمن لم يرض بحكم رسول الله وقضائه، ومن لم يسلم له تسليماً.
وفي الختام كأن النووي رحمه الله يختم هذه المجموعة بهذا الحديث، ليعظم في نفس كل مسلم رجاء رحمة الله. وليعلم بسعة فضل الله.
وهذا الحديث من أرجى أحاديث السنة النبوية، فهو يربط العبد بربه، ويجعله فسيح الأمل والرجاء في واسع فضل الله سبحانه وتعالى.
نأتي إلى شرح ألفاظ الحديث وجمله، ثم يأتي التعليق عليه بما تيسر، والله أسأل أن يعيننا وأن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
هذا حديث أنس ، وأنس هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه: إن الله سبحانه وتعالى يقول: (يا ابن آدم!)، وأول ما يلفت الانتباه هنا تعميم هذا النداء، فلم يقل: أيها المسلمون! ولا أيها المؤمنون! إنما نص على بني آدم، فقال: (يا ابن آدم!)، من أبينا الأكبر آدم عليه السلام إلى نهاية ذريته، وفيهم المسلم والكافر، والبر والفاجر، والعاصي والتقي، كل بني آدم داخل في هذا النداء الذي يدعوهم به المولى سبحانه.آدم): هل هو من أديم الأرض أو من الأُدمة وهي السمرة؟
قالوا: لقد أُعطي آدم جمالاً عظيماً، وأُعطي يوسف ثلاثة أعشار جمال آدم عليه السلام، ولم يكن آدم أسمر أو فيه أُدمة،
ولكن اشتق اسمه من أدمة الأرض، أي: من وجه الأرض، والأرض طبقات متنوعة، فجمع الله طينة آدم من مختلف أنواع طينة الأرض، وخلقه ونفخ فيه من روحه، ومن هنا جاءت ذرية آدم على اختلاف طبائع الأرض منهم الصعب القاسي، ومنهم الهين اللين، ومنهم الأبيض، والأحمر، والأسود، كما في قوله تعالى: وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر:27].
وقوله: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني، يقولون: (ما) هنا مصدرية ظرفية، أي: مدة دعائك إياي ورجائك فيما عندي. إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، وهنا يطرح سؤال: هل هذا الشرط وجزاؤه يفيد أنه مهما دعوتني غفرت لك على ما كان منك أم أن المقصود الدعاء مع مراعاة آدابه التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم؟ الثاني
من آداب الدعاء
ننظر إلى ما قيل في آداب الدعاء على سبيل الإجمال:
أولاً وقبل كل شيء: الإخلاص، فحينما تتوجه إلى الله بالدعاء يجب أن تكون مخلصاً في دعائك. وكذلك لا تدع بقطيعة رحم ولا بإثم، أي: لا تدع أن يسهل الله لك طريق معصية، ولا تدع بأن تقطع رحماً قريباً لك، ولا تدع على قريب لك بالسوء.
فإذا دعوت الله بما ينفعك في دينك ودنياك كان الدعاء في محله متوجهاً توجهاً صحيحاً، وعليك بعد ذلك أن تنظر: أي المسألة تقدم؟ وفي أي الأوقات تدعو؟ وأي الأمكنة تتخير؟ وكل ذلك يذكره العلماء في آداب الدعاء.
أوقات إجابة الدعاء
الأوقات التي يُتحرى فيها الدعاء رجاء أن يستجاب فيها كثيرة، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم بعض أوقات الإجابة.
ومن ذلك ساعة في يوم الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم في بيان فضيلة يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة، وما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا ابن آدم، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله فيها حاجته إلا أعطاه إياها)، ومتى تلك الساعة؟
فيها خلاف بين العلماء.قيل: بعد الأذان، أي: وقت الصلاة، وقيل: حينما يصعد الإمام على المنبر، وهناك من يقول: بعد أن يفرغ من الخطبة وقبل الصلاة، وهناك من يقول: إنها بعد العصر، وهذا اختيار مالك رحمه الله.
واستشكلوا: كيف يصلي ويسأل وبعد العصر لا توجد صلاة؟
قالوا: جاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه) فمن جلس في المسجد ينتظر الصلاة فلا يزال في صلاة حتى يصلي، فهو إذا صلى العصر وجلس ودعا الله فقد يصادف تلك الساعة.
ومهما يكن من شيء، ففي يوم الجمعة ساعة إجابة أخفيت ليجتهد الإنسان في جميع ساعات يوم الجمعة.
وأيضاً: ليلة القدر الدعوة مجابة فيها، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنها في الوتر من العشر الأواخر، وقد ثبت أن النبي أراد أن يعينها ولكن تلاحى رجلان في ذلك المجلس فأخفيت ليجتهد الناس في ليالي العشر الأواخر كلها.
وأيضاً: يوم عرفة، وفي الحديث : (يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي! شعثاً غبراً ضاحين جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة).
أيضاً: في السجود في الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
فهذه أوقات حري بمن دعا الله فيها أن يستجاب له.
أماكن إجابة الدعاء
أما بالنسبة للأماكن التي يستجاب فيها الدعاء فمنها الأماكن المقدسة: ما بين الركن والمقام، وفي حجر إسماعيل، وفي المناسك كلها تشرع الأدعية، وجاء الحث عليها فهي حرية بالقبول.
كل هذه من مباحث زمان ومكان إجابة الدعاء.
استكانة العبد وتضرعه عند الدعاء من أهم أسباب الإجابة
وقوله في هذا الحديث: (ما دعوتني ورجوتني)، فيه أن أهم ما يكون في وقت الدعاء حالة الداعي، فحينما يدعو الإنسان في غير حاجة يكون دعاؤه عادياً، وحينما تلم به ملمة ويتوجه إلى الله بالدعاء يكون تعلقه بالله، وقلبه مع الله، ورجاؤه في عظيم فضل الله؛ أكبر وأعظم مما إذا دعا في أمر عادي.
ولذا فإن أحرى أوقات الإجابة حينما يتوجه العبد إلى الله بصادق النية، وبعظيم الرجاء، وهو يشعر بضعفه وحاجته إلى سعة فضل الله عليه.
ففي تلك اللحظة لا تسل: بم تسأل ربك أو بم تدعوه؟ ما جرى على لسانك من أسمائه الحسنى ودعوته به يكون توفيقاً من الله إليك بما يستجيب لك به.
ومن المشاهد أن كل إنسان حين يمر بمواقف أو بأزمات، ويتوجه إلى الله؛ فإنه في تلك الحالة يحس من نفسه بأنها ليست كالأوقات العادية.
ونتصور هذا في موقف يتكرر كثيراً وهو السعي بين الصفا والمروة، فسببه سعي هاجر عليها السلام، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .. (اسعوا فإن أمكم قد سعت قبلكم).
وهاجر عليها السلام هي التي جاء بها إبراهيم عليه السلام ومعها طفلها إسماعيل، وتركهما في مكان قال تعالى فيه: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37]، فلما أراد أن يرجع إلى الشام تبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. لقد أعلنت إيمانها ويقينها وتوكلها على الله بأنه لن يضيعها.ذهب إبراهيم، وبقيت هناك وعندها سقاء فيه ماء، وعندما انتهى الماء الذي في السقاء، وبدأ يبكي الطفل عطشاً؛ قررت أنه لابد أن تأخذ بالأسباب مع إعلان توكلها على الله، (لا يضيعنا)، فلم تجلس وتنتظر السماء أن تنزل عليها الماء، بل أخذت بالأسباب.
وهنا درس عملي يفيد بأن قوة التوكل على الله لا تمنع الأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب لا يمنع التوكل على الله.
فسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ظاهر بين درعين، أي: لبس درعين، والفارس لا يمكنه أن يلبس درعين أبداً؛ وذلك بسبب الوزن الذي يتوجب عليه حمله، فلا يمكنه من التحرك بيسر في المعركة.
فبالرغم من توكله على الله، وبالرغم من قول الله سبحانه وتعالى له: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، مع كل ذلك يأخذ بالأسباب، ويأتي ويصف المسلمين، ويتدرع بالجبل من ورائه، ويضع الرماة على جبل الرماة حتى لا يأتيهم العدو من ورائهم.. خطط حربية مرسومة كاملة.
فكذلك هاجر، ما هي الأسباب التي أخذت بها؟ هي في بطن الوادي لا تستطيع أن ترى شيئاً، وإذا أراد الإنسان أن يستكشف مكاناً إلى أبعد مسافة ممكنة فإنه يبحث عن محل مرتفع ويشرف منه، فكان أقرب مرتَفَع لها في ذلك المكان هو جبل الصفا، فصعدت إلى الصفا ونظرت حولها فلم تجد شيئاً، ثم بحثت عن مرتفع آخر فلم تجد أقرب من المروة، فنزلت من الصفا إلى المروة، فلما انصبت قدماها في بطن الوادي اختفى عنها طفلها فأسرعت حتى جاءت إلى جانب الوادي الآخر، وحين رأت طفلها مشت مشياً عادياً، ثم صعدت على المروة وتلفتت حولها فلم تجد شيئاً، ثم لشدة تلهفها رجعت إلى الصفا، وهكذا.
وبتأمل هذا الموقف نجد أنها ما طلبت دون يقين بالله، ولا قطعت رجاءها في الله؛ لأنها متوكلة على الله، وكان الواجب عليها أن تأخذ بالأسباب، فأخذت بأسباب تقدر عليها، والتمست الفرج من الأرض على يد مخلوق من خلق الله فلم تجد، وتُركت تسعى إلى أن أكملت سبعة أشواط، وكلنا يدرك أنها في المرة الأولى لعلها كانت على أمل خمسين في المائة أو سبعين في المائة، ترجو أن تجد من يغيثها، فلما جاءت إلى المروة ولم تجد نزل هذا الأمل إلى ثلاثين في المائة، فلما جاءت إلى الصفا نزل هذا الأمل إلى خمسة وعشرين في المائة، ولما أعادت الكرة إلى المروة نزل إلى عشرة في المائة، وما أكملت سبعة أشواط إلا وقد انقطع رجاؤها من الخلق، وانقطعت آمالها في المخلوق وفي الأرض، وتوجهت بكل صدق إلى الله، فكانت الإغاثة حقاً، فجاء جبريل عليه السلام لا بسقاء ولا بقراب ولكن يشق الأرض فينبع الماء بزمزم.
لماذا لم يأتها جبريل من أول مرة؟ هي لم يكن عندها أحد، لكن كان يوجد في القلب نوع ميل ورجاء وأمل في مخلوق، فتُركت لما وجد في قلبها من ذلك النوع من الأمل في المخلوق، فسعت سبعاً، وكل مرة يقل رجاؤها في المخلوق، وكلما قلّ رجاؤها في المخلوق عظُم في الخالق، فالأمران متقابلان؛ كلما ضعف رجاؤها في المخلوق ابتعدت عنه واقتربت من جانب الله حتى انقطع الأمل تماماً في المخلوقين، وتوجهت بكليتها إلى الله، فكان الفرج الكبير، وهكذا يجب أن يكون المسلم. (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني)، إذا كنت مع الدعاء قوي الرجاء وعظيم الرجاء في الله، فهناك يحصل المطلوب، أما أن تدعو بقلب لاه فقد جاء في الحديث: (لا يستجيب الله دعاءً من قلب غافل لاه). أي: تدعو ربك وأنت مشغول بغيره أو تدعو ربك وأنت تفكر بغيره.
وفيما وقفت عليه في ترجمة عطاء -أو بعض العلماء- في مكة، أنعبد الملك بن مروان -وهو خليفة- دخل الكعبة فوجده فيها، فقال: ألك حاجة يا فلان؟! قال: (إني لأستحي أن أسأل مخلوقاً وأنا في بيت الله).
فمثلاً: إنسان ضيف عندك، وجاء ضيف ثانٍ، وله حاجة، فحينما يتوجه إليك بطلب حاجته يكون أقرب إليك وأحسن من أن يتوجه إلى هذا الضيف.
فلما خرجا إلى الخارج قال: الآن نحن خارج الكعبة، فسلني حاجتك. قال: والله ما سألت الدنيا ممن يملكها، فلا أسألها ممن لا يملكها.
حينما كان داخل الكعبة كان قلبه مع الله، واستشعر أنه من قلة الحياء أن يكون في جوف الكعبة ويسأل مخلوقاً: أعطني كذا، كيف ورب البيت أقرب؟!
وهكذا الإنسان حينما يكون رجاؤه عظيماً بالله، وقلبه متعلقاً بالله، وفي وقت الشدة يكون أقرب إلى الله، تكون الطاقة في التوجه قوية جداً.قصص أخلص أصحابها الدعاء فاستجاب الله لهم
قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، فأتت الصخرة وسدت عليهم الغار. فجعلوا يحاولون تحريكها فلم يقدروا عليها، فرجعوا إلى الله، وقالوا: تعلمون أنه لا يعلم أحد بكم، ولا ينجيكم من هذا إلا الله، فكل واحد منا ينظر ماذا له عند الله من خبيئة سر؟ وأيّ عمل أرجى له عند الله؟ فليسأل الله به.
فقام الأول يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى ببر والديه، وقام الثاني يتوسل إلى الله بحفظ حق الأجير وأداء الأمانة، وقام الثالث يتوسل إلى الله بالكبرى والعظمى وهي العفة عن الحرام، وكلما قام واحد منهم وتوسل إلى الله بما له عند الله تتزحزح الصخرة قليلاً، حتى إذا استكمل الثلاثة دعاءهم تنحت الصخرة، وخرجوا يمشون.
ولو تساءلنا: الأول منهم حينما توسل إلى الله وبقدرة الله تزحزحت الصخرة، فالله الذي زحزحها سنتيمتراً واحداً يستطيع أن يزحزحها كيف شاء، فكان من الممكن أن تنزاح الصخرة عند أول توسل، ولكن من فضل الله علينا أنه أنظرهم حتى يخرج الثلاثة ما عندهم، ونعرف كيف يكون أثر الأعمال الخالصة لوجه الله.
إذاً: العمل الصالح، والإخلاص، والرجاء فيما عند الله؛ إن توجه إلى الجبل أزاحه، وإن توجه إلى الماء جمد، وتتسخر كل القوى الطبيعية للعبد الذي يتوجه إلى الله بإخلاص.
هذا العلاء بن الحضرمي حينما أتى إلى البحر والعدو ينحاز بالسفن، فماذا قال؟
أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر.
ماء يمشي ويجري، فيجمد لهم ليعبروا، ويقاتلون وينتصرون! بأي شيء؟ بقوة الرجاء في الله، وبالإخلاص لله.
وهذا سفينة مولى رسول الله، حينما رأى الأسد معترضاً للناس، أتى إليه وقال له: ابتعد، أنا سفينة صاحب رسول الله. وذات مرة ضاع في الصحراء، ولم يدر أين يذهب، فإذا بالأسد يأتيه ويحوم حوله ويمشي معه حتى يدله على الطريق!
ماذا نقول؟! إن الحيوانات والوحوش تذل عند عظيم الرجاء في الله، وإن الماء يجمد والصخرة تنـزاح عند التوجه إلى الله بصادق النية.
هل تستجاب دعوة الكافر؟
قد يستجاب الدعاء مع شدة الرجاء فيما عند الله ولو كان من كافر، فلا تستعظموا ذلك! فإن الله لا يتعاظم عليه شيء.
إذا قام الكافر وهو في شدة وكربة وتوجه إلى الله، وصار يستصرخ ويصيح ويسأل ربه أن يفرجها عنه، فالله سبحانه لا يرد سائلاً، ولا نقول: هذا كافر، أليس ربه هو الذي خلقه، وهو الذي رزقه، وأعطاه ما أعطاه؟ وفي الحديث: (إياكم ودعوة المظلوم وإن كان كافراً فإنه ليس لها حجاب دون الله تعالى).
حينما يتوجه الكافر إلى الله بالمسألة فيما يخصه ليفرج الكرب عنه، فهو في تلك اللحظة مؤمن بمن يدعوه ويلجأ إليه ويرجوه.
ولذا قال حصين حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد إلهاً؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء). لأنه لم يخش ولم يرج إلا الذي في السماء سبحانه وتعالى، والبقية تلك كما يقولون: على الهامش، لا قيمة لها عند الشدة وعند الحاجة.
وأيضاً: الكافر حينما يتوجه إلى الله، ويقول: يا رب! الآن أنا مسلم، فهل يرده عن هذا، ويقول له: لا، أنت كنت كافراً؟ لا، فإن (الإسلام يجب ما كان قبله).
ويذكرون في كتب التفسير أن فرعون حينما جاءه الغرق صار ينادي: يا موسى! يا موسى! عدة مرات، وموسى لم يلتفت إليه، فالله سبحانه وتعالى عاتب موسى فيه، وقال: يا موسى! يناديك عبد من عبادي لتغيثه فلم تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته! وفضل الله أكبر من هذا.
ولذا يا إخوان! يجب على كل مسلم أن يُعلِّم الخلق سعة فضل الله، وأن يُعظِم رجاءهم في الله، ثم بعد ذلك يأخذهم إلى كتاب الله وسنة رسوله.
ومما جاء في الآثار عن موسى أنه سأل ربه عن أحب شيء إليه؟ قال: أن تحببني عند خلقي.
فلا تُيئس الناس من رحمة الله، وسع لهم المجال، ثم خذهم بالكتاب والسنة، وعلمهم ما يجب من حق الله عليهم، وحق العباد على بعضهم البعض. (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني)، يقول العلماء: الرجاء وقت الدعاء من شرط الإجابة، أما إذا كان يدعو من دون رجاء فكأنه غير مهتم وغير مبال، وفي الحديث: (أنا عند ظن عبدي بي)، فإذا دعا وهو يحسن الظن بالله تعالى يجيب دعاءه أجاب الله دعاءه.
وكثير من العلماء يقولون: من دواعي استجابة الدعاء أن يكون المطعم حلالاً، لا أن يكون حراماً.
كيف تتغذى بالحرام معاندة ومخالفة لله، ثم تتقدم وتسأل الله بجسم غذي بالحرام؟!
أما إذا دعوت بجسم غذي بالحلال، وتوجهت إلى الله، كان ذلك حري بالاستجابة، وهذا من المراتب العليا للمؤمنين كما روي عنه صلى الله عليه وسلم حينما سأله الرجل وقال: (يا رسول الله! ادع الله لي أن أكون مجاب الدعوة، فقال: أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)، إذا كان طعامك من حلال فإن دعوتك مجابة.
وهكذا في جميع العبادات كما جاء في الحج: (إذا خرج الرجل حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور)؛ لأن كل مقوماته بالحلال.
إذاً: هذا الجزء من هذا الحديث من أعظم ما يُرجِي العبد.
هل يقدم الإنسان الرجاء أم الخوف؟
جاء في سيرة الحجاج -الذي سفك الدماء، وسعى في الأرض فساداً- أنه عند النزع في آخر أمره توجه إلى الله وقال: (يا رب! كل الناس يسيئون الظن بي، وأنا أحسن الظن بك) يا الله! مع سيرته الظالمة وأخلاقه السيئة وما سفك من دماء بريئة يقول هذا!
والعلماء يأتون بمبحث لطيف ويقولون: هل الواجب على الإنسان والأولى له أن يغلِّب جانب الرجاء، أو يقدم جانب الخوف لقوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] أو يجمع بينهما لقوله تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]؟
قالوا: المسلم كالطائر يطير بجناحين: جناح الرغبة وجناح الرهبة، فجناح الرغبة يدفعه إلى فعل الخير، وجناح الرهبة يمنعه من فعل الشر، فهو بين رغبة ورهبة، ولكن يقولون: إذا كان في نهاية عمره، أو عند عجزه فيقدم جانب الرجاء كما جاء في الحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)، أما إذا كان في شبابه وفي قوته وفي نوازع الهوى وفي مخاوف الفتنة فيقدم جانب الخوف.
إذاً: في حالة القدرة على العمل ومخافة الفتنوإن قُدِّر بعد ذلك أن وقع في الذنب بدون إصرار سابق فإنه يستغفر، وقد جاء في الحديث: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم).
إذاً: مهما كان الذنب فلا يتعاظم إنسان ذنباً على الله، وشاهد ذلك قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أتى إلى شخص عابد وسأله: هل لي من توبة؟ قال له: بعد قتل تسعة وتسعين نفساً! ليست لك توبة، فقتله فأكمل به المائة.
ثم بقيت نفسه تنازعه فأتى عالماً عارفاً فسأله، فأجابه العالم وقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟، تب إلى الله يقبل توبتك، ثم نصحه قائلاً: اخرج من هذه البلدة التي قتلت فيها مائة نفس، واذهب إلى القرية الفلانية ففيها رجال صالحون فاعبد الله معهم، فلما خرج أدركته المنية في الطريق، واختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ثم أرسل الله لهم ملكاً في صورة رجل وقال: قيسوا ما بين الأرضين، ثم أمر الله هذه بأن تمتد، وتلك بأن تنزوي، فصار أقرب إلى أهل الخير بذراع، فقبضته ملائكة الرحمة.
وفي الحديث: (..إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة).
إذاً: عمل بعمل أهل النار وأصبح يستحق النار، ولكن بلطف الله سبق عليه الكتاب، وتحوّل وعمل بعمل أهل الجنة، وكانت الخاتمة خيراً، والأعمال بالخواتيم.
وهكذا أيها الإخوة! يبين المولى سبحانه في هذا الحديث أنه لا يتعاظم الإنسان ذنباً على الله أبداً، ومهما كان عظم هذا الذنب فرحمة الله أوسع، ولكن يجب عليه في ذات الوقت التأدب مع الله، فلا تكون توبته ولا يكون استغفاره من باب التلاعب أو من باب التساهل.
ويذكر ابن رجب أثراً يعزوه إلى الترمذي (وفيه: (لا يتخذ الرجل امرأة حليلة وكلما قضى حاجته منها يستغفر الله، ثم يرجع إليها، فيقول الله له: لا، اتركها أغفر لك).
أما كونك كل ساعة تعود للذنب، ثم ترجع وتقول: أستغفر الله، وأنت مصر على هذا؛ فلا.
وفي الأثر: (إن الله لا يغفر لثلاثة: -وذكر منهم- رجل يزني بامرأة وكلما قضى حاجته منها استغفر ثم رجع، ورجل يأكل مال غيره، وكلما أكل شيئاً قال: أستغفر الله، فيقول الله له: لا، اترك ماله أغفر لك). إذاً: الإصرار على الذنب ذنب.
فضل الاستغفار
الشرك بالله تعالى من الذنوب التي لا تغفر
وقوله سبحانه في هذا الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، (قُراب الأرض): يقول بعض العلماء في اللغة: هذا الشيء قريب من هذا، أو هذا قريب من هذا في الطول، أو هذا المكان قريب من هذا في السعة، يعني ليس عين السعة وليس عين الطول ولكن مقارب، فقالوا: (قُراب) بمعنى مُقارِب، يعني: لو أتيتني بما يقارب ملء الأرض، وقالوا: قراب الأرض، أي: قِرابها أو ملؤها، وهو كناية عن امتلائها بالكلية. (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، يقول (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً)، إذاً: هناك فرق بين المغفرة والاستغفار وبين الدعاء وعظيم الرجاء.
قلنا: في قوله: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني)، شملت كل عبد لله من بني آدم، ولكن هنا يقول سبحانه: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً)، إذاً: قراب الأرض من الخطايا التي ليس فيها الذنب الأكبر وهو الشرك، كما بين ذلك سبحانه في قضية لقمان مع ابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
فمهما كان على الإنسان من خطايا، ولقي الله موحداً لا يشرك بالله شيئاً لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في صفاته، كان هذا القراب الكثير من الخطايا موضع المغفرة.
وفي القرآن الكريم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48]، أي ما دون الشرك من الخطايا.
إذاً: (( دُونَ ذَلِكَ )) فيه نص على أن الخطايا تتفاوت، فهناك الشرك وهو الظلم الأعظم، وهناك قتل النفس، وهناك الزنا، وهناك السُّكْر، وهناك السرقة، وهناك السَّب، وهناك نظرة العين، فهي تتفاوت، (( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ))، فالحديث مطابق للآية الكريمة.
قال: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا)، والخطايا: جمع خطيئة، وهي: ما يفعله الإنسان من الذنوب عامداً، وهي بخلاف الخطأ الذي يقع من المرء بدون قصد منه، وتقدم في الحديث: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، فالخطأ ليس عمداً وليس معصية، ولكنه ينتج عندما يفعل المرء شيئاً جائزاً فيخطئ فيه إلى ما ليس بجائز، أي: بدون إصرار ولا قصد للخطأ والمعصية
وختاماً أيها الإخوة! نحمد المولى سبحانه أن امتن علينا بهذه النعمة، ونشكره سبحانه أن وفقنا وإياكم إلى نهاية هذا المجموع المبارك، ونسأل المولى أن ينفعنا وإياكم وكل مسلم بما علَّمنا، وأن يوفقنا للعمل بما علّمنا، وأن يرزقنا حسن الإخلاص وحسن التوجه إليه، وأن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يرزقنا وإياكم شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين أفضل ما جازى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا الحديث السادس من هذه المجموعة المباركة عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب رواه الشيخان البخاري ومسلم .
يعتبر هذا الحديث عند العلماء ركن من أركان الإسلام، وفيه مباحث عديدة، من جوانب متعددة.
قوله صلى الله عليه وسلم: إن الحلال بيّن، يقول العلماء: حرف إن من أدوات التوكيد، والخبر يلقى مؤكداً للاهتمام به، أو لتنزيل السامع منزلة الغافل لينبه،
كما قالوا في قول الشاعر:
جاء سليك عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح
الأصل: بنو عمك فيهم رماح، فجاء بإن؛ لأنه جاء معترضاً برمحه، وكأن عدوه ليس مستعداً للقتال والدفاع، فكان في منزلة المستهتر بعدوه المتغافل عن سلاحه، وهذا الحديث يشير إلى أمور يغفل عنها الناس: لا يعلمهن كثير من الناس، فجاء في بادئ الأمر بأداة التوكيد تنبيهاً للسامع لأول وهلة، وكان مقتضى إلقاء الخبر عادياً أن يقول: (الحلال بيّن، والحرام بيّن) ولكن جاء بإن قبل الجملة ليؤكد مضمون هذا الخبر، ويسترعي الانتباه إليه.
والحلال ما أحله الله، وأصل حلّ من باب ضرب نصر، حَلَّ يَحِلُ كضَرَبَ يَضرِبُ، وحَلَّ يَحُلُ كنصر ينصُر، قالوا: اللازم من باب ضرب، والمتعدي من باب نصر، تقول: حلّ الحبل يحُله حلاً؛ لأنه متعدٍ إلى الحبل، وتقول: حلّ بالمكان يحل، يعني: نزل به، والحلال مادة مستقلة بذاتها، تقول: حلّ هذا الشيء يحِل أي يصير حلالاً، ولا تقل: يحُل، بل حل الحلال يحِل، بمعنى ثبت الحكم ونزل واستقر، كمن يأتي إلى مكان ويحل به ويستوطن ويستقر، فلا يتغير هذا الحكم ولا يتحول.
إن الحلال هو: ما أحله الله صرفاً، و(بيّن) من البيان والوضوح، ويقابل هذا: (وإن الحرام بيّن) والحرام هو: الممنوع، ومن شواهد ذلك:
جالت لتصرعني فقلت لها: اقصري إني امرؤ صرعي عليكِ حرام
يعني: ممنوع، ومنه: حريم البيت الذي يمتنع الدخول إليه، ومنه: محارم الإنسان وحرمه الممنوعات على غيره، ومنه: حرمة الرجل، أي: أنها محرمة وممنوعة على غيره، فالحرام ما حرمه الله، وهو بين وواضح.
معنى الشبهات
قال: (وبينهما أمور مشتبهات)، ولم يقل: متشابهات، وفرق بين المتشابه والمشتبه، قال الله في وصف ثمار الجنة: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25] أي يقولون: الذي أكلنا قبل هذا هو شبيه به ولكن ليس هو، فمتشابه أي: بعضه يشابه بعضاً، وهذا يدل على وجود شيئين، ولكن مشتبه هو في ذاته، وليس هناك طرف ثان، والمادة متقاربة، فالمشتبه هو: ما يدور بين طرفين متغايرين يشبه هذا من جهة، ويشبه هذا من جهة أخرى، فيصبح في نفسه مشتبهاً، بخلاف المتشابهين، مثل: أخوين توأمين يكونان متشابهين، ولكنهما متغايران، كل واحد بشخصية مستقلة، لكن الأمر المشتبه يدور بين أمرين متغايرين، يأخذ من هذا بوجه، ويأخذ من هذا بوجه، فيصبح مشتبهاً في ذاته.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: من أحكام الشريعة، ومن معاني القرآن، ما هو بين واضح ليس فيه شبهة ولا يعذر أحد بجهله، سواء كان في الأوامر أو كان في النواهي، وتفسيره تلاوته، وذلك مثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، فكل هذا من الأمور الواضحة، وكذلك في المحرمات قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]، وقوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4]، فهذا بين واضح لا لبس فيه، وقوله: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]، وقوله: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]، فالحلال واضح بين لا شبهة فيه، والحرام واضح بين لا شبهة فيه، ومثل قوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء:33]، وقوله: لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، فهذا حرام بيّن.
أقسام تفسير القرآن
يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يعذر أحد بجهله، وقال ابن عباس تفسير القرآن على أربعة أنحاء:
1- قسم واضح لا يعذر أحد بجهله، وهو أصول وعموم ما شرع الله سبحانه وتعالى من الأوامر والنواهي.
2- قسم تعلمه العرب من لغتها، كما في قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31] قال: الفاكهة عرفناها، وأما الأب فوالله ما نعرفه، حتى جاء أعرابي إلى المدينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يارسول الله! إني تركت ناقتي ترعى الأب) قال عمر : فعرفت أن الأب هو: مرعى الإبل.
ومثال آخر: (ذو) الطائية التي بمعنى الذي، كان ابن عباس يستشهد على معناها بقول الشاعر عندما تخاصم مع آخر في بئر فقال:
فإن الماء ماء أبي وجدي بئري ذو حفرت وذو طويت
يعني: بئري التي حفرتها والتي طويتها، وهذا القسم تعرفه العرب من لغتها على ما وضع لها في لغة العرب.-
3- قسم لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، وهذا القسم لا يعلمه كثير من الناس، مثاله: قصة المرأة التي وضعت حملها بعد زواجها بستة أشهر، وجيء بها إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يرجمها؛ لأن المعهود عند الناس أن المرأة تلد بعد تسعة أشهر، وهذه وضعت قبل التسعة بثلاثة أشهر، فظن الناس أنها تزوجت وهي حامل في ثلاثة أشهر، فجاء علي فقال: يا أمير المؤمنين! لا يمكن أن ترجمها؛ لأنها قد تكون ولدت لأقل مدة الحمل، قال: وما أقل مدة الحمل؟ قال: الله سبحانه وتعالى جعل لأقل مدة الحمل ستة أشهر، فقد تلد المرأة لستة أشهر، قال: وأين هذا في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه وتعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا[الأحقاف:15]، وقوله: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وقوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، والحولان الكاملان أربعة وعشرون شهراً، فإذا كان للفصال أربعة وعشرون شهراً فيبقى للحمل -وهو قسيم الرضاعة- ستة أشهر، وهي الباقية من الثلاثين، فكف عنهاعثمان رضي الله تعالى عنه، فهذا الأمر ما كل الناس يعرفونه.
4- قسم استأثر الله بعلمه، كما قال في أول سورة آل عمران: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، قيل: الوقف على لفظ الجلالة ثم يستأنف كلاماً جديداً: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقيل: الوقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7].
العلماء يبحثون هذا في علم الكلام، هل الراسخون في العلم يعلمون تأويله للعطف على لفظ الجلالة، أو لا يعلمون تأويله للوقف على لفظ الجلالة؟ كلا الوقفين صحيح كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وعلى الوقف على لفظ الجلالة يكون معنى (تأويله): الحقيقة التي يئول إليها الشيء، وهذا لا نعلمه، وذكروا من ذلك صفات الله سبحانه وتعالى التي لا يدركها العقل، كقوله: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، فلا يعلم من أين يكون مجيئه؟! وحديث: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) كيف تسع الدنيا رب العالمين؟ وقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، حقيقة الصفة في ذات الله لا يدركها العقل البشري، والله يعلمها، قالوا: ومن ذلك قوله تعالى في وصف ثمار الجنة: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15]، ماء الدنيا إذا وقف قليلاً أسن وتغير وتعفن، قال: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] ومن لبن خالص، ومن خمر سائغ، وكل هذه المسميات لها نظائرها في الدنيا، ولكن هل هي التي في الدنيا؟ لا إنما مجرد الاسم، أما حقيقة ذاك اللبن وحقيقة ذاك العسل وحقيقة ذاك الخمر فلا يعلمه إلا الله، وقد بيّن أن تلك الخمر لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، بينما خمر الدنيا ينزف ويسكر بها، ويصيب شاربها الصداع، إذاً: لا تساويها في الحقيقة، وإن اشتركت في اسمها، فمعنى: (لا يعلم تأويله) أي: مآله وحقيقة أمره إلا الله سبحانه جل جلاله.
إذاً: بعض الأمور مشتبه، تدور بين الحلال والحرام، ولا يعلم هذا المشتبه كثير من الناس.
حكم ترك الشبهات
قال: (فمن اتقى الشبهات) ما يتعلق بما بين الناس ينبغي أن يتقيه،
فالأمور ثلاثة: حلال بين مشروع، وحرام بين ممنوع، ووسط مشتبه، فماذا يكون موقف المسلم فيها؟
يأتي الحلال الواضح البين الحل، ويترك الحرام الواضح البين التحريم، والوسط ماذا يفعل فيه؟ أيأخذه تارة، ويتركه تارة؟ لا، بل قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ) أي: سلم من الحرام، لكن كيف يكون حد الشبهات؟ العلماء يبينون على سبيل المثال كيف يكون حد هذا الشيء المشتبه بين الحلال والحرام، فإذا قلنا: المنطقة ثلاثة أمتار، متر للحلال، ومتر للحرام، ومتر في الوسط للمشتبه، والمشتبه ربما يتزحزح إلى الحلال ويكون أقرب إلى الحلال، وربما يتزحزح إلى الحرام ويكون أقرب إلى الحرام؛ لأنه مشتبه بين طرفين متغايرين.
مثلاً: لو أن إنساناً تاجراً يبيع العسل والسمن واللبن والخمر، فماله الذي يكتسبه فيه حرام وفيه حلال، ففيه شبهة بقدر مبيع الخمر؛ لأن الحرام مختلط بكامل المال، لو كان عنده ألف درهم، كم تكون نسبة الحلال الصرف والحرام الصرف؟ هل تستطيع أن تقول: قيمة الخمر إلى حد عشرة في المائة أو عشرين في المائة، وقيمة السمن والعسل ثلاثين أو خمسين أو سبعين في المائة، وعشرة في المائة مشتبهة بينهما، الألف في يدك ماذا تقول فيه؟ فيه شبهة من ثمن الخمر، لكن قد تقرب إلى الحلال لأنها قليلة، وقد تقرب إلى الحرام لأنها كثيرة، أنا آتي بهذا المثال لأبين أن المشتبه ليس على خط واحد بين الحلال والحرام، لكنه كالزئبق تارة يميل إلى جانب التحريم فيكون أقرب إلى الحرمة، وتارة يميل إلى جانب الحلال فيكون أقرب إلى التحليل، والشبهة تقوى وتضعف. قال الله: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ [المائدة:4]، لو أخذت كلب الصيد أو طائر الصيد أو أخذت سهمك وكنانتك وخرجت إلى البر فرأيت الصيد، ورميت السهم قائلاً: باسم الله، الله أكبر، وجئت إلى الصيد ووجدته قد مات، فهذا حلال بيّن، ولو جئت إلى الصيد ووجدته جريحاً وكان بوسعك أن تذكيه، ولكنك تركت تذكيته حتى مات، فهذا حرام بيّن، ولو جئت إلى الصيد وقد غاب عنك في المزرعة أو غاب عنك وراء الجبل، ومن الغد لقيته فوجدت فيه سهماً آخر لشخص آخر، ووجدته ميتاً، فهل مات من سهمك أو من سهم الآخر؟ فهذا مشتبه، سهمك وسهم الآخر متساويان، هل تأكل منه؟ لا، قد يكون من سهم غيرك وليس صيدك، وإنما سمى عليه غيرك وقتله. ولو رميتة بالسهم وغاب عنك، ثم وجدته غارقاً في غدير من الماء، فهل مات بسهمك أم بالماء؟ لا تدري، فوجود سهمك داع للحلية، ووجوده غارقاً في الماء داع للحرمة، ففيه شبه بين الحلال البين وبين الحرام البين، فيتجاذب إلى هذا وإلى هذا، مثل عوامل المغناطيس التي تتجاذب الشيء ويكون بينهما على السواء، فهذا مشتبه يترك للشبهة.متى يكون ترك الشبهة واجباً؟
والترك للشبهة قد يكون واجباً متعيناً كما قالوا: ما لا يترك الحرام إلا بتركه فهو حرام، وكما قالوا: يجب ترك المشتبه لو اشتبهت مذكاة بميتة، كما لو أعطاك إنسان فخذ كبش، وبعد قليل أعطاك رجل آخر فخذ كبش أخرى، وأنت تعلم أنه يستبيح أن يأكل الميتة، وصار عندك الآن هذا اللحم وهذا اللحم، يا ترى! أيهما من لحم الميتة وأيهما من المذكاة؟! وكما قالوا: إذا اشتبهت أخته بأجنبية -وهذا مثال مذكور في أصول الفقه- فيحرم عليه وطء الأجنبية اتقاء لأخته. وكذلك اشتباه المغصوب بالحلال، واشتباه سطل ماء طهور يمكن أن تتوضأ وتغتسل وتشرب منه، بسطل آخر مثله جاء إنسان فبال في أحد السطلين، ثم جاء شخص لا يعلم وغير مواضع السطلين، كما لو كانت إلى جهة الشرق والغرب، فجاء واحد وحولها شمالاً وجنوباً، وأنت كنت تعلم أن الذي في جهة الشرق هو الذي فيه البول، فهذا نجس بيّن، وذاك طهور بين، ولكن الآن اختلفت عليك السطول ولم تعد تدري بالنجس، حيث لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، فلم تستطع أن تحدد أيهما الطاهر، فهل يجوز لك أن تتوضأ بواحد منهما؟
حصل خلاف بين الفقهاء في ذلك فقيل: يتوضأ من هذا مرة ومن هذا مرة، هذا حاجة إلى ذكر الخلاف، ولو كان عندك إناءان فيهما عسل، وهما بشكل واحد، وحجم واحد، وجاء إنسان ووضع السم أمامك في أحد الطبقين، ثم ذهبت عنهما فقلت: السم في الذي في الجهة الغربية، والطبق الذي في الجهة الشرقية سليم ليس فيه سم، وأنا جائع أريد أن آكل، فجئت ووجدت الطبقين منحرفين، تغيرا عن وضعهما، فلا تدري أين الذي كان في الغرب وأين الذي كان في الشرق؟ فهل يمكن أن تمد يدك إليه؟ مستحيل أن تذوق واحداً منهما؛ لأنه اشتبه عليك الحلال بالحرام.
يقول العلماء في مسألة إذا قتل الرجل عبداً: هل فيه الدية أو فيه القصاص؟
هناك من يقول: فيه القصاص؛ لأن النفس بالنفس، وهو قول ابن حزم ومن يوافقه.
والجمهور يقولون: لا، هو وسط اجتمع على شبهين من طرفين مختلفين:
فمن حيث أنه يباع ويشترى ويوهب ويكون من الميراث، فيشبه الأموال والمتاع، ومن أتلف متاعاً فعليه قيمته بالغة ما بلغت.
ومن جهة أنه يقيم الصلاة، ويصوم رمضان، ويذكر الله، وأنه مكلف بالعبادات أشبه الإنسان، ومن قتل إنساناً فحكمه؟ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، إذاً: اشتمل على وجهين مختلفين، يشبه كل وجه جانباً من الجانبين، فكان فيه قياس الشبه، كما يقول الأصوليون، فمن غلب شبه الإنسان الحر ألحقه بالدية، ومن غلب شبه المتاع والمال غلب فيه جانب القيمة، ولو بلغت قيمته أكثر من دية الحر.
عدم الطمأنينة علامة على الوقوع في الشبهة
بيّن لنا صلى الله عليه وسلم حكم الشبهات، وما دام أنك لست من القليل الذين يعلمون حكم هذا المشتبه، فعليك الكف والترك، وقد جاء في الحديث وسيأتي إن شاء الله: (البر ما اطمأنت إليه النفس)، حينما تجد الصدر مشغولاً وفيه زوابع، وفيه أمواج تتلاطم، وفيه انفعالات وترددات: تقدم أو تحجم.. يجوز أو لا يجوز؟ عرفت عندها أن النفس لم تطمئن؛ لأن الطمأنينة الاستقرار، أما حركة التردد، وحركة القلق، وحركة الاضطراب، وحركة الانفعال بين حلال وحرام، فهذه علامات الشبهة، إذا وجد هذا الاضطراب ارتفعت تلك الطمأنينة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) فالأمر تعمله خفية، ولا تحب أن أحداً ينظر إليك؛ لأنه فيه إثم.
إذاً: البر ما اطمأنت إليه النفس، فإذا وجدت في النفس طمأنينة فهو واضح بعيد عن المشتبه، وإذا وجدت في نفسك شبهة، وترددت في أصل الأمر هل هو حلال أو حرام؟ فلو أقدمت عليه فستجد نفسك قلقلة.تابع شرح الحديث السادس
الترغيب في اتقاء الشبهات
وبعد:
فإن اتقاء الشبهات معراج أو سلّم أوله في الأرض وآخره في السماء، فبعض الناس يرى الكبيرة العظيمة (كذبابة على أنفه قال بها هكذا) كما جاء في الحديث، وبعض الناس يرى الشبهة كأنها جبل على رأسه، وما كل الناس في اتقاء الشبهات سواء، يوجد أشخاص نفسياتهم شفافة، لو نفثت عليها بالهواء تأثرت، كالمرآة الصقيلة في الشتاء إذا جعلتها إلى فمك وتنفست، يخرج من المعدة بخار، فيتكاثف مع برودة الجو على المرآة فيعمل مثل السحابة، فبعض الناس من شفافية نفسيته وتحريه للحلال فإن الشبهة تؤثر فيه كسحابة حرام، وبعض الناس يبلعها ولا يبالي، والأمر عنده واسع، فالناس ليسوا سواء.
وأقرب مثال عندنا قصة أبي بكر رضي الله عنه عندما جاءه خادمه بطعام، فلما أكله تأثرت نفسه، سبحان الله! الطعام ما وصل إلى جوفه إلا وأحس بحساسية، فنادى الغلام وقال له: تعال! من أين هذا الطعام؟! قال: كنت في الجاهلية تكهنت لرجل، وأنا والله! لست بكاهن -يعني: خدع الرجل- فلقيني الآن، وأعطاني حلواناً فاشتريت به كذا وكذا، فوضع أبو بكر رضي الله عنه أصبعه في حلقه واستقاء ما أكله، فما الذي حرك نفسية أبي بكر من هذا الطعام؟ هل كان فيه ملح زايد أو شطة أو شوك؟!
كذلك عمر رضي الله عنه أرسل غلامه ليأتيه بحليب من إبله، فذهب وجاء فلما شرب الحليب استنكر طعمه، قال: تعال يا غلام! من أين جئتني بهذا الحليب؟ قال: والله! أرسلتني آتيك بحليب من إبلك، فوجدت الرعاة قد أبعدوا بها، ولقيت إبل الصدقة على الماء فقلت: احلبوا لي، فحلبوا لي، فجئتك بلبن من إبل الصدقة، فقال أمير المؤمنين: آكل الصدقات؟ أحس في نفسيته هذه الحساسية، ويمكن نسمي هذه الحاسة حاسة الحلال والحرام، لا يكشفها بارومتر ولا ترمومتر ولا أي شيء من هذه المقاييس المادية مهما كانت، وهي تكشف الأمور العضوية، والكثافة، والدسومة، والخفة، والحرارة، والبرودة، لكن الحلال والحرام فهي أمور حكمية واردة على العين الواحدة.
إذاً: الإحساس والتوقف عند المشتبهات ليس كل الناس فيه سواء، فأيما إنسان صفت نفسه، وتعود أكل الحلال، ونشأ على الحلال فأقل شبهة تؤثر على نفسه.
أبو حنيفة كان تاجر بز، وكان عنده ثوب فيه عيب، فجعله في جانب، وهو آخر ثوب عنده من ذلك الصنف وكان معه في المحل من يعمل معه، فذهب أبو حنيفة ليقيل ثم رجع فإذا الثوب الذي عزله في جانب غير موجود، فسأل عنه فقال العامل: بعته، قال: بكم بعته؟ قال: كما نبيع الثياب. قال: هل أخبرت المشتري بالعيب الذي فيه؟ قال: لا، وهل فيه عيب؟ -لم يدر العامل- لكن أبا حنيفة تصدق بكامل قيمة الثوب، وكان يمكن أن يتصدق بقيمة العيب فقط ولكن فعل ذلك ورعاً منه.
ويذكرون عن الإمام أحمد رحمه الله أنه خُبز عجين بيته في بيت فلان فامتنع أن يأكل منه؛ لأن فلاناً في ماله شبهة.
سبحان الله! بعضنا قد يأتيه خبز وإدام وشراب من رجل في ماله شبهة فيتلقاه بكل رحابة صدر.
يتعين على المسلم أن يتقي الشبهة، ولا يستطيع الإنسان أن يوفي هذا المقام حقه، ولكن عليه بالمقاربة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع الناس عليه).
وهذا هو التقسيم الثلاثي، وبيان موقف الأمة من هذه الأقسام:
الحلال بيّن، ويقدم عليه كل إنسان، والحرام بيّن، يجب أن يحجم عنه كل إنسان، وبينهما أمور مشتبهة، إن نظرت إليها من جهة قد تكون حلالاً، وإن نظرت إليها من الجهة الثانية قد تكون حراماً، إذاً: ماذا تفعل؟!
القليل الذين يعلمون حكمها كما قال: (لا يعلمهن كثير من الناس)، ومفهوم ذلك أن يعلمها القليل، ولا تخلو الأمة من هذا القليل الذي يعرف حقيقة المشتبه، وإليه يرجع الناس، فإن كنت أنت من هذا القليل، تحريت وتحققت ثم بعد ذلك أقدمت على مقتضى ما علمت، وإن كنت من الكثيرين الذين لا يعلمون حكم هذا فموقفك منه الكف، (من ترك شيئاً لله أبدله الله خيراً منه).صلاح الأعمال بصلاح القلب وفسادها بفساده
ثم ذكر منطلق اتقاء الشبهات، والأصل في ذلك وهو: القلب، فقال: (ألا وإن في الجسد مضغة) ما علاقة هذه المضغة في الحمى وفي المحارم؟
لأن اتقاء الشبهات ليس عمل الجوارح بقدر ما هو عمل القلب؛ لأن اتقاء الشبهات بتقوى الله، وتقوى الله محلها القلب، (ألا وإن في الجسد) عموماً من شعره إلى إلى ظفر رجله (مضغة) والمضغة تشبيه بقدر ما يكون القلب، علماً بأن قلب كل حيوان بقدر قبضة يده، فقلب الطفل الصغير بقدر قبضة يده وهكذا قلب الفيل بقدر خفه، وقلب البعير بقدر خفه، وهذا مقياس في جميع الحيوانات، (ألا وإن في الجسد مضغة) أسلوب تقليل، أي: أنها من أصغر الأعضاء الموجودة في الجسم، فهي أصغر من الكبد، وربما تكون أصغر من الطحال في بعض الحالات، مع أن القلب أكبر من الطحال نوعاً ما، وأصغر من الرئة، وأصغر من اليد، وأصغر من الرجل، وأصغر من الرأس، فهذه المضغة صغير حجمها ولكن عليها مدار صلاح العبد. (إذا صلحت صلح الجسد كله) صلحت من الناحية الصحية فيكون القلب سليماً، ومن الناحية الاعتقادية فيكون القلب نقياً طاهراً، الأمران معاً، ويتفق الأطباء الآن بأن مريض القلب يعتبر مريض الجسم كله، وأن صحيح القلب صحيح الجسم كله إلا ما ندر في بعض الجوانب، فصحة القلب دليل على الصحة العامة بالجسم، ولكن الأصل أن المراد هنا: الصحة المعنوية، وهي صحة الإيمان والعقيدة، وقوة اليقين بالله، فإذا صلح القلب مع الله سبحانه؛ صلح هذا الجسد في أعماله، وكان سلوكه صالحاً خالصاً لوجه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.•°•
شرح حديث
( مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ .)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله
حديث صحيح ، متفق على صحته
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ : ( مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ ) .
من طريق أخرى بلفظ : ( مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ، وَمَا أَجِدُ لَكُمْ رِزْقًا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ) وإسناده حسن.
فقَوْله ( وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ) قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " ( مَنْ يَسْتَعِفّ ) أَيْ يَمْتَنِع عَنْ السُّؤَال , ( يُعِفَّهُ اللَّه ) أَيْ إِنَّهُ يُجَازِيه عَلَى اِسْتِعْفَافه بِصِيَانَةِ وَجْهِهِ وَدَفْع فَاقَته "
وَقَالَ اِبْن التِّين : " مَعْنَى قَوْله ( يُعِفَّهُ اللَّه ) إِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ مِنْ الْمَال مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ السُّؤَال , وَإِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ الْقَنَاعَة " .
وَمَنْ يَسْتَعفف ) " أَيْ: مَنْ يَطْلُبْ مِنْ نَفْسِهِ الْعِفَّةَ عَنِ السُّؤَالِ ، قَالَ الطِّيبِيُّ : أَوْ يَطْلُبِ الْعِفَّةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ( يُعِفَّهُ اللَّهُ ) أَيْ يَجْعَلْهُ عَفِيفًا ، مِنَ الْإِعْفَافِ
وَهِيَ الْحِفْظُ عَنِ الْمَنَاهِي ، يَعْنِي : مَنْ قَنِعَ بِأَدْنَى قُوتٍ ، وَتَرَكَ السُّؤَالَ : تَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقَنَاعَةُ ، وَهِيَ كَنْزٌ لَا يَفْنَى
وقال الشيخ ابن عثيمين :
" فمن يستعف عما حرم الله عليه من النساء : يعفه الله عز وجل.
والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما يتعلق بالعفة فإنه يهلك والعياذ بالله ؛ لأنه إذا أتبع نفسه هواها ، وصار يتتبع النساء ؛ فإنه يهلك ، تزني العين ، تزني الأذن ، تزني اليد ، تزني الرجلين ، ثم يزني الفرج ؛ وهو الفاحشة والعياذ بالله .
فإذا استعف الإنسان عن هذا المحرم : أعفه الله- عز وجل- ، وحماه ، وحمي أهله أيضاً
قَوْله : ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّه ) ، وفي رواية ( وَمَنْ اِسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّه )
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " قَوْله ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ ) أَيْ بِاَللَّهِ عَمَّنْ سِوَاهُ , وَقَوْله ( يُغْنِهِ ) أَيْ فَإِنَّهُ يُعْطِيه مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ السُّؤَال ، وَيَخْلُق فِي قَلْبه الْغِنَى ؛ فَإِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْس
وَمَنْ يَسْتَغْنِ ) أَيْ يُظْهِرْ الْغِنَى بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَالتَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ ، حَتَّى يَحْسَبَهُ الْجَاهِلُ غَنِيًّا مِنَ التَّعَفُّفِ ( يُغْنِهِ اللَّهُ ) أَيْ يَجْعَلْهُ غَنِيًّا ، أَيْ بِالْقَلْبِ " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" أي: من يستغن بما عند الله عما في أيدي الناس ؛ يغنه الله عز وجل ، وأما من يسأل الناس ويحتاج لما عندهم ؛ فإنه سيبقي قلبه فقيراً - والعياذ بالله- ولا يستغني ،🏻
والغني غني القلب ، فإذا استغني الإنسان بما عند الله عما في أيدي الناس ؛ أغناه الله عن الناس ، وجعله عزيز النفس بعيداً عن السؤال
وعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ) فَقُلْتُ: وَمِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ( وَمِنِّي ) قَالَ حَكِيمٌ : قُلْتُ: لَا تَكُونُ يَدِي تَحْتَ يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ أَبَدًا " .
قال السندي رحمه الله: " قوله: فقلت : ومنك ، أي : لا ينبغي السؤال وإن سأل منك "
قَوْله : ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ ) أَيْ يُعَالِج نَفْسه عَلَى تَرْك السُّؤَال وَيَصْبِر إِلَى أَنْ يَحْصُل له الرزق
رياض الصالحين
شرح حديث أبي هريرةَ -رضي الله عنه-: "مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ صَحَابَتي؟"
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب بر الوالدين وصلة الأرحام أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: ((جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -يعني: صحبتي-، قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك))([1]). متفق عليه.
وفي رواية: يا رسول الله، من أحق بحسن الصحبة؟، قال:((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك أدناك))([2]).
فهذا الحديث يبيّن فضل الأم ومنزلتها، وأن الأم لها من الحق في هذا الجانب وهو حسن الصحبة ثلاثة أضعاف ما للأب،
والمقصود بحسن الصحبة:
حسن المعاشرة، والملاطفة، والإحسان والبر،
وذلك أن الأم تحملت الحمل وآلام الولادة، وكذلك أيضاً الرضاع والحضانة، كل هذا شقيت به وتعبت، والأب كذلك هو سبب في وجود الإنسان، وهو الذي يبذل ويتعب، ولكن الأم تحملت زيادة على ذلك هذه الأمور الثلاثة التي ليس للأب شيء منها، فهذا الإنسان حينما يكون في بطنها يعيش على دمها، وحينما يخرج تعاين الموت، وحينما يولد فإنها تقدمه على نفسها، وراحته على راحتها، وتفرح لفرحه، وتتألم لألمه وحزنه، وإذا مرض مرضت معه، وإذا صار في المدرسة فكأنها هي التي تدرس، وإذا اختبر كأنها هي التي تختبر، وهكذا حتى يتم، ثم بعد ذلك تشقى بعياله من بعده، وتجد لهم ما تجد له، كل هذا يقع للأم، فالمقصود أنها أولى الناس، لكن هذا الحديث إنما هو في حسن الصحبة، ولهذا يقال: لو أنه تعارض أمر الأم وأمر الأب من الذي يقدم؟.
أبوه يقول: لا تفعل كذا، وأمه تقول: افعل كذا، في غير معصية الله -عز وجل-، أبوه يقول: اعمل بالمكان الفلاني، وأمه تقول: اعمل في المكان الفلاني، أبوه يقول: ادرس في الجامعة الفلانية، وأمه تقول: ادرس في الجامعة الفلانية، يطيع من؟.
من أهل العلم من قال: إن الأم مقدمة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر حقها ثلاث مرات.
ومنهم من قال: الأب، ونقل عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه سأله رجل فقال: إن أبي في السودان، والمقصود بالسودان القارة الإفريقية في ذلك الوقت، وإلى وقت قريب كان يقال لذلك: السودان، بلد السودان وما حولها، قال: إن أبي في السودان ويدعوني، يطلب مني أن أقدم إليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال الإمام مالك -رحمه الله-: أطع أباك ولا تعصِ أمك، فمن أصحاب الإمام مالك من فهم من هذا أنه قصد أنه يطاع الأب فيما لا يكون معصية للأم، يعني: أن الأم مقدمة.
ومنهم من فهم أنه قدّم طاعة الأب، والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه في مثل هذه الأمور التي تتعلق بالتدبير فهي من شأن الولاية، والولاية إنما تكون للأب وليست للأم.
فهذا الحديث إنما هو في حسن الصحبة، فالذي يدبره هو أبوه، وليس أمه التي تدبره، فوليه الأب، فيجب عليه أن يطيعه في مثل هذه الأمور، إلا فيما يلحقه به ضرر أو يحصل له عنت أو نحو هذا، فمثل هذه الأمور يحصل فيها التفاهم والملاطفة والإقناع وما أشبه هذا، لكن الذي يأمره وينهاه فيما يتعلق بأموره الحياتية هو أبوه؛ لأنه هو وليه، الأب هو الذي يطالبه أن يدرس يذهب به إلى المدرسة، يدرس في هذه المدرسة أو تلك، إلى آخره، أمه تقول: لا، أريده أن يدرس في مدرسة خاصة، ليس هذا للأم، إنما هو للأب، القرار الأول والأخير للأب، لماذا؟ لأنه هو الولي، أما في المعاشرة والمخالطة وحسن الصحبة فالأم ثلاثة أضعاف الأب من التلطف، يعني: إذا كان الإنسان مأمورًا ببر أبيه والتلطف به، والإحسان إليه، فماذا يصنع مع أمه؟، ثلاثة أضعاف، ولهذا كان ابن سيرين -رحمه الله- إذا كلّم أمه مَن لا يعرفه يظن أنه مريض، كأنه ضارع، يتضرع بصوت منخفض جدًّا، وبغاية التذلل والتواضع، هكذا يصنع مع أمه، وما كان يأكل معها؛ يخاف أن تمتد عينها إلى شيء ثم تسبق يده إليه، من شدة بره بها، فيتلطف الإنسان غاية التلطف، يقبّل رأسها، ويدها، ويكلمها بأحسن عبارة، وبألطف أسلوب، ولا يرفع صوته، ولا ينصب يده في وجه أبيه ولا أمه، ولهذا قال بعض السلف: ما بر أبويه من مد إليهما النظر.
هذا جاء عن عروة بن الزبير -رحمه الله-، يعني يجلس ينظر إليهما، يحدق في النظر إليهما، هذا يدل على أنه في شيء من عدم الهيبة وعدم الاكتراث، فكيف إذا كان يأمرهما: أعطني كذا، هات لي كذا؟!، هذا ما يليق، هو الذي يقوم على خدمتهما، وشئونهما ونحو ذلك.
فنسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم البر، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وأن يجعل ما نسمع سبباً وسبيلاً إلى مرضاته، وأن يجعله سبيلاً إلى العمل بطاعته، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
فضل الأم في الإسلام :
للأم مكانة عظيمة سواء في الأسرة أو في المجتمع بأكمله ، فهي تقوم بتعليم الابناء والاهتمام بهم وبصحتهم وتنشئهم على الاخلاق الحميدة وتعاليم الدين الإسلامي ، مما يجعلها مسؤولة عن اعداد أجيالاً تساعد في بناء مستقبل مشرق .
وقد أدرك الإسلام دور الأم القوي في المجتمع ، ولذلك قام رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، بتوعيتنا عن دور وفضل الأم ، وحث على طاعتها والبر بها و ذكرها في أكثر من حديث ، وسنتناول هذه الأحاديث تفصيلاً .
دلالة الحديث : يدل الحديث عن الثواب العظيم الذي يعود على الشخص من بر أمه ، فكأنه يعادل الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله ، مما يدل على فضل الأم ومكانتها .
الحديث الثالث : حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت ” قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ ، أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قَالَ : ” نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ “
دلالة الحديث : ففي هذا الحديث أمر الرسول بصلة الأم وبرها رغم أنها ليست على دين الإسلام ، والصلة هنا تعني الأذن لها بالدخول ، والإحسان إليها سواء بالقول أو الفعل أو المواساة .
الحديث الرابع : عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” لا يَجزي ولدٌ والدًا، إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه “
دلالة الحديث : يبين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مدى فضل الوالدين على الشخص ، فهو مهما فعل لن يستطع رد أفضالهم التي لا تحصى .
الحديث الخامس : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ ” .
دلالة الحديث : يرشدنا الرسول صلى الله وعليه وسلم عن المكانة العظيمة التي وضعها الله للوالدين ، فقد جعل رضاهم من رضاه ، وسخطهم من سخطه .
الحديث السادس : ” رجلاً كان بالطّواف حاملاً أمّه يطوف بها، فسأل النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هل أدّيتُ حقّها؟ قال : لا، ولا بزفرة واحدة ” أي من زفرات الطّلق والوضع ونحوها .
دلالة الحديث : يدل هذا الحديث على مدى فضل الأم العظيم على الأبن ، فكل ما يفعله من أجلها لا يضاهي زفرة واحدة من زفرات الوضع أو الطلق ولا تعبها وسهرها لرعايته .
شرح حديث
(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) رواه البخاري
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة ، والفراغ ) ، يعني أن هذين الجنسين من النعم مغبون فيهما كثير من الناس ، أي مغلوب فيهما ، وهما الصحة والفراغ ، وذلك أن الإنسان إذا كان صحيحاً كان قادراً على ما أمره الله به أن يفعله ، وكان قادراً على ما نهاه الله عنه أن يتركه لأنه صحيح البدن ،منشرح الصدر ، مطمئن القلب ، كذلك الفراغ إذا كان عنده ما يؤويه وما يكفيه من مؤنة فهو متفرغ .
فإذا كان الإنسان فارغاً صحيحاً فإنه يغبن كثيراً في هذا ، لأن كثيراً من أوقاتنا تضيع بلا فائدة ونحن في صحة وعافية وفراغ ، ومع ذلك تضيع علينا كثيراً ، ولكننا لا نعرف هذا الغبن في الدنيا ، إنما يعرف الإنسان الغبن إذا حضره أجله ، وإذا كان يوم القيامة ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) (المؤمنون :100)،
وقال عز وجل في سورة المنافقون : ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِين َ) (المنافقون:10) ،
وقال الله عز وجل: ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون:11).
الواقع أن هذه الأوقات الكثيرة تذهب علينا سدىً، لا تنفع منها، ولا ننفع أحداً من عباد الله، ولا نندم على هذا إلا إذا حضر الأجل؛يتمنى الإنسان أن يعطى فرصة ولو دقيقة واحدة لأجل أن يستعتب، ولكن لا يحصل ذلك.
ثم إن الإنسان قد لا تفوته هاتان النعمتان : الصحة والفراغ بالموت ، بل قد تفوته قبل أن يموت ، قد يمرض ويعجز عن القيام بما أوجب الله عليه ،وقد يمرض ويكون ضيق الصدر لا يشرح صدره ويتعب، وقد ينشغل بطلب النفقة له ولعياله حتى تفوته كثير من الطاعات.
ولهذا ينبغي للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله ـ عز وجل ـ بقدر ما يستطيع، إن كان قارئاً للقرآن فليكثر من قراءة القرآن،وإن كان لا يعرف القراءة يكثر من ذكر الله عز وجل، وإذا كان لا يمكنه ؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يبذل لإخوانه كل ما يستطيع من معونة وإحسان ، فكل هذه خيرات كثيرة تذهب علينا سدىً، فالإنسان العاقل هو الذي ينتهز الفرص؛ فرصة الصحة ،وفرصة الفراغ.
وفي هذا دليل على أن نعم الله تتفاوت، وأن بعضها أكثر من بعض، وأكبر نعمة ينعم الله تعالى بها على العبد : نعمة الإسلام ،ونعمة الإسلام التي أضل الله عنها كثيراً من الناس، قال الله تعالى:
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (المائدة:3)
فإذا وجد الإنسان أن الله قد أنعم عليه بالإسلام وشرح الله صدره له؛ فإن هذه أكبر النعم.
ثم ثانياً: نعمة العقل، فإن الإنسان إذا رأى مبتلى في عقله لا يحسن التصرف، وربما يسيء إلى نفسه وإلى أهله؛ حمد الله على هذه النعمة ؛ فإنها نعمة عظيمة.
ثالثاً: نعمة الأمن في الأوطان ، فإنها من أكبر النعم ، ونضرب لكم مثلاً بما سبق عن آبائنا وأجدادنا من المخاوف العظيمة في هذه البلاد، حتى إننا نسمع أنهم كانوا إذا خرج الواحد منهم إلى صلاة الفجر؛ لا يخرج إلا مصطحباً سلاحه؛ لأنه يخشى أن يعتدي عليه أحد، ثم نضرب مثلاً في حرب الخليج التي مضت في العام الماضي؛ كيف كان الناس خائفين ! أصبح الناس يغلقون شبابيكهم بالشمع خوفاً من شيء متوهم أن يرسل عليهم ،وصار الناس في قلق عظيم ، فنعمة الأمن لا يشابهها نعمة غير نعمة الإسلام والعقل.
رابعاً : كذلك مما أنعم الله به علينا ـ ولا سيما في هذه البلاد ـ رغد العيش؛ يأتينا من كل مكان، فنحن في خير عظيم ولله الحمد؛ البيوت مليئة من الأرزاق، ويقدم من الأرزاق للواحد ما يكفي اثنين أو ثلاثة أو أكثر، هذه أيضاً من النعم. فعلينا أن نشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعم العظيمة ، وأن نقوم بطاعة الله حتى يمن علينا بزيادة النعم؛ لأن الله تعالى يقول:( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(إبراهيم:7).
المصدر
من كتاب رياض الصالحين المجلد الثاني / باب المجاهدة
للشيخ محمد العثيمين
شرح حديث
يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح ].
هذا الحديث هو خاتمة الأربعين حديثاً التي جمعها الإمام الجليل النووي رحمه الله، وذلك عملاً بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً .. .
وهذا نوع من أنواع جمع الحديث، فقد يجمع العالم أربعين حديثاً عامة، وقد يجمع أربعين حديثاً خاصة؛ كأربعين حديثاً في فضل المدينة، أو أربعين حديثاً في فضل الاستغفار، أو أربعين حديثاً فيما يتعلق بالحج، فقد يفرد بعض العلماء أربعين حديثاً في موضوع واحد.
والإمام النووي رحمه الله جمع لنا هذه الأربعين المتنوعة، التي اشتملت على التوجيهات النبوية الكريمة بما فيها من أخلاق ومواعظ وتوجيه، وهذا هو الحديث الختامي.
لقد أشار علماء الحديث الذين تعرضوا لهذا المجموع في الحديث الحادي والأربعين في قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، إلى أن هذا الحديث ينبه كل مسلم بأنه يجب عليه أن يروض نفسه على أن تكون ميوله ورغباته واتجاهاته كلها تابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أشرنا إلى ذلك، وذكرنا ما يتعلق بالحديث من الأحكام من محاربة البدع ولزوم اتباع الكتاب والسنة، وأن ميزان إيمان المؤمن هو في رضاه بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك نفي الإيمان عمن لم يرض بحكم رسول الله وقضائه، ومن لم يسلم له تسليماً.
وفي الختام كأن النووي رحمه الله يختم هذه المجموعة بهذا الحديث، ليعظم في نفس كل مسلم رجاء رحمة الله. وليعلم بسعة فضل الله.
وهذا الحديث من أرجى أحاديث السنة النبوية، فهو يربط العبد بربه، ويجعله فسيح الأمل والرجاء في واسع فضل الله سبحانه وتعالى.
نأتي إلى شرح ألفاظ الحديث وجمله، ثم يأتي التعليق عليه بما تيسر، والله أسأل أن يعيننا وأن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
هذا حديث أنس ، وأنس هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه: إن الله سبحانه وتعالى يقول: (يا ابن آدم!)، وأول ما يلفت الانتباه هنا تعميم هذا النداء، فلم يقل: أيها المسلمون! ولا أيها المؤمنون! إنما نص على بني آدم، فقال: (يا ابن آدم!)، من أبينا الأكبر آدم عليه السلام إلى نهاية ذريته، وفيهم المسلم والكافر، والبر والفاجر، والعاصي والتقي، كل بني آدم داخل في هذا النداء الذي يدعوهم به المولى سبحانه.آدم): هل هو من أديم الأرض أو من الأُدمة وهي السمرة؟
قالوا: لقد أُعطي آدم جمالاً عظيماً، وأُعطي يوسف ثلاثة أعشار جمال آدم عليه السلام، ولم يكن آدم أسمر أو فيه أُدمة،
ولكن اشتق اسمه من أدمة الأرض، أي: من وجه الأرض، والأرض طبقات متنوعة، فجمع الله طينة آدم من مختلف أنواع طينة الأرض، وخلقه ونفخ فيه من روحه، ومن هنا جاءت ذرية آدم على اختلاف طبائع الأرض منهم الصعب القاسي، ومنهم الهين اللين، ومنهم الأبيض، والأحمر، والأسود، كما في قوله تعالى: وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر:27].
وقوله: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني، يقولون: (ما) هنا مصدرية ظرفية، أي: مدة دعائك إياي ورجائك فيما عندي. إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، وهنا يطرح سؤال: هل هذا الشرط وجزاؤه يفيد أنه مهما دعوتني غفرت لك على ما كان منك أم أن المقصود الدعاء مع مراعاة آدابه التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم؟ الثاني
من آداب الدعاء
ننظر إلى ما قيل في آداب الدعاء على سبيل الإجمال:
أولاً وقبل كل شيء: الإخلاص، فحينما تتوجه إلى الله بالدعاء يجب أن تكون مخلصاً في دعائك. وكذلك لا تدع بقطيعة رحم ولا بإثم، أي: لا تدع أن يسهل الله لك طريق معصية، ولا تدع بأن تقطع رحماً قريباً لك، ولا تدع على قريب لك بالسوء.
فإذا دعوت الله بما ينفعك في دينك ودنياك كان الدعاء في محله متوجهاً توجهاً صحيحاً، وعليك بعد ذلك أن تنظر: أي المسألة تقدم؟ وفي أي الأوقات تدعو؟ وأي الأمكنة تتخير؟ وكل ذلك يذكره العلماء في آداب الدعاء.
أوقات إجابة الدعاء
الأوقات التي يُتحرى فيها الدعاء رجاء أن يستجاب فيها كثيرة، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم بعض أوقات الإجابة.
ومن ذلك ساعة في يوم الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم في بيان فضيلة يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة، وما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا ابن آدم، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله فيها حاجته إلا أعطاه إياها)، ومتى تلك الساعة؟
فيها خلاف بين العلماء.قيل: بعد الأذان، أي: وقت الصلاة، وقيل: حينما يصعد الإمام على المنبر، وهناك من يقول: بعد أن يفرغ من الخطبة وقبل الصلاة، وهناك من يقول: إنها بعد العصر، وهذا اختيار مالك رحمه الله.
واستشكلوا: كيف يصلي ويسأل وبعد العصر لا توجد صلاة؟
قالوا: جاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه) فمن جلس في المسجد ينتظر الصلاة فلا يزال في صلاة حتى يصلي، فهو إذا صلى العصر وجلس ودعا الله فقد يصادف تلك الساعة.
ومهما يكن من شيء، ففي يوم الجمعة ساعة إجابة أخفيت ليجتهد الإنسان في جميع ساعات يوم الجمعة.
وأيضاً: ليلة القدر الدعوة مجابة فيها، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنها في الوتر من العشر الأواخر، وقد ثبت أن النبي أراد أن يعينها ولكن تلاحى رجلان في ذلك المجلس فأخفيت ليجتهد الناس في ليالي العشر الأواخر كلها.
وأيضاً: يوم عرفة، وفي الحديث : (يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي! شعثاً غبراً ضاحين جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة).
أيضاً: في السجود في الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
فهذه أوقات حري بمن دعا الله فيها أن يستجاب له.
أماكن إجابة الدعاء
أما بالنسبة للأماكن التي يستجاب فيها الدعاء فمنها الأماكن المقدسة: ما بين الركن والمقام، وفي حجر إسماعيل، وفي المناسك كلها تشرع الأدعية، وجاء الحث عليها فهي حرية بالقبول.
كل هذه من مباحث زمان ومكان إجابة الدعاء.
استكانة العبد وتضرعه عند الدعاء من أهم أسباب الإجابة
وقوله في هذا الحديث: (ما دعوتني ورجوتني)، فيه أن أهم ما يكون في وقت الدعاء حالة الداعي، فحينما يدعو الإنسان في غير حاجة يكون دعاؤه عادياً، وحينما تلم به ملمة ويتوجه إلى الله بالدعاء يكون تعلقه بالله، وقلبه مع الله، ورجاؤه في عظيم فضل الله؛ أكبر وأعظم مما إذا دعا في أمر عادي.
ولذا فإن أحرى أوقات الإجابة حينما يتوجه العبد إلى الله بصادق النية، وبعظيم الرجاء، وهو يشعر بضعفه وحاجته إلى سعة فضل الله عليه.
ففي تلك اللحظة لا تسل: بم تسأل ربك أو بم تدعوه؟ ما جرى على لسانك من أسمائه الحسنى ودعوته به يكون توفيقاً من الله إليك بما يستجيب لك به.
ومن المشاهد أن كل إنسان حين يمر بمواقف أو بأزمات، ويتوجه إلى الله؛ فإنه في تلك الحالة يحس من نفسه بأنها ليست كالأوقات العادية.
ونتصور هذا في موقف يتكرر كثيراً وهو السعي بين الصفا والمروة، فسببه سعي هاجر عليها السلام، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .. (اسعوا فإن أمكم قد سعت قبلكم).
وهاجر عليها السلام هي التي جاء بها إبراهيم عليه السلام ومعها طفلها إسماعيل، وتركهما في مكان قال تعالى فيه: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37]، فلما أراد أن يرجع إلى الشام تبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. لقد أعلنت إيمانها ويقينها وتوكلها على الله بأنه لن يضيعها.ذهب إبراهيم، وبقيت هناك وعندها سقاء فيه ماء، وعندما انتهى الماء الذي في السقاء، وبدأ يبكي الطفل عطشاً؛ قررت أنه لابد أن تأخذ بالأسباب مع إعلان توكلها على الله، (لا يضيعنا)، فلم تجلس وتنتظر السماء أن تنزل عليها الماء، بل أخذت بالأسباب.
وهنا درس عملي يفيد بأن قوة التوكل على الله لا تمنع الأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب لا يمنع التوكل على الله.
فسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ظاهر بين درعين، أي: لبس درعين، والفارس لا يمكنه أن يلبس درعين أبداً؛ وذلك بسبب الوزن الذي يتوجب عليه حمله، فلا يمكنه من التحرك بيسر في المعركة.
فبالرغم من توكله على الله، وبالرغم من قول الله سبحانه وتعالى له: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، مع كل ذلك يأخذ بالأسباب، ويأتي ويصف المسلمين، ويتدرع بالجبل من ورائه، ويضع الرماة على جبل الرماة حتى لا يأتيهم العدو من ورائهم.. خطط حربية مرسومة كاملة.
فكذلك هاجر، ما هي الأسباب التي أخذت بها؟ هي في بطن الوادي لا تستطيع أن ترى شيئاً، وإذا أراد الإنسان أن يستكشف مكاناً إلى أبعد مسافة ممكنة فإنه يبحث عن محل مرتفع ويشرف منه، فكان أقرب مرتَفَع لها في ذلك المكان هو جبل الصفا، فصعدت إلى الصفا ونظرت حولها فلم تجد شيئاً، ثم بحثت عن مرتفع آخر فلم تجد أقرب من المروة، فنزلت من الصفا إلى المروة، فلما انصبت قدماها في بطن الوادي اختفى عنها طفلها فأسرعت حتى جاءت إلى جانب الوادي الآخر، وحين رأت طفلها مشت مشياً عادياً، ثم صعدت على المروة وتلفتت حولها فلم تجد شيئاً، ثم لشدة تلهفها رجعت إلى الصفا، وهكذا.
وبتأمل هذا الموقف نجد أنها ما طلبت دون يقين بالله، ولا قطعت رجاءها في الله؛ لأنها متوكلة على الله، وكان الواجب عليها أن تأخذ بالأسباب، فأخذت بأسباب تقدر عليها، والتمست الفرج من الأرض على يد مخلوق من خلق الله فلم تجد، وتُركت تسعى إلى أن أكملت سبعة أشواط، وكلنا يدرك أنها في المرة الأولى لعلها كانت على أمل خمسين في المائة أو سبعين في المائة، ترجو أن تجد من يغيثها، فلما جاءت إلى المروة ولم تجد نزل هذا الأمل إلى ثلاثين في المائة، فلما جاءت إلى الصفا نزل هذا الأمل إلى خمسة وعشرين في المائة، ولما أعادت الكرة إلى المروة نزل إلى عشرة في المائة، وما أكملت سبعة أشواط إلا وقد انقطع رجاؤها من الخلق، وانقطعت آمالها في المخلوق وفي الأرض، وتوجهت بكل صدق إلى الله، فكانت الإغاثة حقاً، فجاء جبريل عليه السلام لا بسقاء ولا بقراب ولكن يشق الأرض فينبع الماء بزمزم.
لماذا لم يأتها جبريل من أول مرة؟ هي لم يكن عندها أحد، لكن كان يوجد في القلب نوع ميل ورجاء وأمل في مخلوق، فتُركت لما وجد في قلبها من ذلك النوع من الأمل في المخلوق، فسعت سبعاً، وكل مرة يقل رجاؤها في المخلوق، وكلما قلّ رجاؤها في المخلوق عظُم في الخالق، فالأمران متقابلان؛ كلما ضعف رجاؤها في المخلوق ابتعدت عنه واقتربت من جانب الله حتى انقطع الأمل تماماً في المخلوقين، وتوجهت بكليتها إلى الله، فكان الفرج الكبير، وهكذا يجب أن يكون المسلم. (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني)، إذا كنت مع الدعاء قوي الرجاء وعظيم الرجاء في الله، فهناك يحصل المطلوب، أما أن تدعو بقلب لاه فقد جاء في الحديث: (لا يستجيب الله دعاءً من قلب غافل لاه). أي: تدعو ربك وأنت مشغول بغيره أو تدعو ربك وأنت تفكر بغيره.
وفيما وقفت عليه في ترجمة عطاء -أو بعض العلماء- في مكة، أنعبد الملك بن مروان -وهو خليفة- دخل الكعبة فوجده فيها، فقال: ألك حاجة يا فلان؟! قال: (إني لأستحي أن أسأل مخلوقاً وأنا في بيت الله).
فمثلاً: إنسان ضيف عندك، وجاء ضيف ثانٍ، وله حاجة، فحينما يتوجه إليك بطلب حاجته يكون أقرب إليك وأحسن من أن يتوجه إلى هذا الضيف.
فلما خرجا إلى الخارج قال: الآن نحن خارج الكعبة، فسلني حاجتك. قال: والله ما سألت الدنيا ممن يملكها، فلا أسألها ممن لا يملكها.
حينما كان داخل الكعبة كان قلبه مع الله، واستشعر أنه من قلة الحياء أن يكون في جوف الكعبة ويسأل مخلوقاً: أعطني كذا، كيف ورب البيت أقرب؟!
وهكذا الإنسان حينما يكون رجاؤه عظيماً بالله، وقلبه متعلقاً بالله، وفي وقت الشدة يكون أقرب إلى الله، تكون الطاقة في التوجه قوية جداً.قصص أخلص أصحابها الدعاء فاستجاب الله لهم
قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، فأتت الصخرة وسدت عليهم الغار. فجعلوا يحاولون تحريكها فلم يقدروا عليها، فرجعوا إلى الله، وقالوا: تعلمون أنه لا يعلم أحد بكم، ولا ينجيكم من هذا إلا الله، فكل واحد منا ينظر ماذا له عند الله من خبيئة سر؟ وأيّ عمل أرجى له عند الله؟ فليسأل الله به.
فقام الأول يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى ببر والديه، وقام الثاني يتوسل إلى الله بحفظ حق الأجير وأداء الأمانة، وقام الثالث يتوسل إلى الله بالكبرى والعظمى وهي العفة عن الحرام، وكلما قام واحد منهم وتوسل إلى الله بما له عند الله تتزحزح الصخرة قليلاً، حتى إذا استكمل الثلاثة دعاءهم تنحت الصخرة، وخرجوا يمشون.
ولو تساءلنا: الأول منهم حينما توسل إلى الله وبقدرة الله تزحزحت الصخرة، فالله الذي زحزحها سنتيمتراً واحداً يستطيع أن يزحزحها كيف شاء، فكان من الممكن أن تنزاح الصخرة عند أول توسل، ولكن من فضل الله علينا أنه أنظرهم حتى يخرج الثلاثة ما عندهم، ونعرف كيف يكون أثر الأعمال الخالصة لوجه الله.
إذاً: العمل الصالح، والإخلاص، والرجاء فيما عند الله؛ إن توجه إلى الجبل أزاحه، وإن توجه إلى الماء جمد، وتتسخر كل القوى الطبيعية للعبد الذي يتوجه إلى الله بإخلاص.
هذا العلاء بن الحضرمي حينما أتى إلى البحر والعدو ينحاز بالسفن، فماذا قال؟
أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر.
ماء يمشي ويجري، فيجمد لهم ليعبروا، ويقاتلون وينتصرون! بأي شيء؟ بقوة الرجاء في الله، وبالإخلاص لله.
وهذا سفينة مولى رسول الله، حينما رأى الأسد معترضاً للناس، أتى إليه وقال له: ابتعد، أنا سفينة صاحب رسول الله. وذات مرة ضاع في الصحراء، ولم يدر أين يذهب، فإذا بالأسد يأتيه ويحوم حوله ويمشي معه حتى يدله على الطريق!
ماذا نقول؟! إن الحيوانات والوحوش تذل عند عظيم الرجاء في الله، وإن الماء يجمد والصخرة تنـزاح عند التوجه إلى الله بصادق النية.
هل تستجاب دعوة الكافر؟
قد يستجاب الدعاء مع شدة الرجاء فيما عند الله ولو كان من كافر، فلا تستعظموا ذلك! فإن الله لا يتعاظم عليه شيء.
إذا قام الكافر وهو في شدة وكربة وتوجه إلى الله، وصار يستصرخ ويصيح ويسأل ربه أن يفرجها عنه، فالله سبحانه لا يرد سائلاً، ولا نقول: هذا كافر، أليس ربه هو الذي خلقه، وهو الذي رزقه، وأعطاه ما أعطاه؟ وفي الحديث: (إياكم ودعوة المظلوم وإن كان كافراً فإنه ليس لها حجاب دون الله تعالى).
حينما يتوجه الكافر إلى الله بالمسألة فيما يخصه ليفرج الكرب عنه، فهو في تلك اللحظة مؤمن بمن يدعوه ويلجأ إليه ويرجوه.
ولذا قال حصين حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد إلهاً؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء). لأنه لم يخش ولم يرج إلا الذي في السماء سبحانه وتعالى، والبقية تلك كما يقولون: على الهامش، لا قيمة لها عند الشدة وعند الحاجة.
وأيضاً: الكافر حينما يتوجه إلى الله، ويقول: يا رب! الآن أنا مسلم، فهل يرده عن هذا، ويقول له: لا، أنت كنت كافراً؟ لا، فإن (الإسلام يجب ما كان قبله).
ويذكرون في كتب التفسير أن فرعون حينما جاءه الغرق صار ينادي: يا موسى! يا موسى! عدة مرات، وموسى لم يلتفت إليه، فالله سبحانه وتعالى عاتب موسى فيه، وقال: يا موسى! يناديك عبد من عبادي لتغيثه فلم تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته! وفضل الله أكبر من هذا.
ولذا يا إخوان! يجب على كل مسلم أن يُعلِّم الخلق سعة فضل الله، وأن يُعظِم رجاءهم في الله، ثم بعد ذلك يأخذهم إلى كتاب الله وسنة رسوله.
ومما جاء في الآثار عن موسى أنه سأل ربه عن أحب شيء إليه؟ قال: أن تحببني عند خلقي.
فلا تُيئس الناس من رحمة الله، وسع لهم المجال، ثم خذهم بالكتاب والسنة، وعلمهم ما يجب من حق الله عليهم، وحق العباد على بعضهم البعض. (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني)، يقول العلماء: الرجاء وقت الدعاء من شرط الإجابة، أما إذا كان يدعو من دون رجاء فكأنه غير مهتم وغير مبال، وفي الحديث: (أنا عند ظن عبدي بي)، فإذا دعا وهو يحسن الظن بالله تعالى يجيب دعاءه أجاب الله دعاءه.
وكثير من العلماء يقولون: من دواعي استجابة الدعاء أن يكون المطعم حلالاً، لا أن يكون حراماً.
كيف تتغذى بالحرام معاندة ومخالفة لله، ثم تتقدم وتسأل الله بجسم غذي بالحرام؟!
أما إذا دعوت بجسم غذي بالحلال، وتوجهت إلى الله، كان ذلك حري بالاستجابة، وهذا من المراتب العليا للمؤمنين كما روي عنه صلى الله عليه وسلم حينما سأله الرجل وقال: (يا رسول الله! ادع الله لي أن أكون مجاب الدعوة، فقال: أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)، إذا كان طعامك من حلال فإن دعوتك مجابة.
وهكذا في جميع العبادات كما جاء في الحج: (إذا خرج الرجل حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور)؛ لأن كل مقوماته بالحلال.
إذاً: هذا الجزء من هذا الحديث من أعظم ما يُرجِي العبد.
هل يقدم الإنسان الرجاء أم الخوف؟
جاء في سيرة الحجاج -الذي سفك الدماء، وسعى في الأرض فساداً- أنه عند النزع في آخر أمره توجه إلى الله وقال: (يا رب! كل الناس يسيئون الظن بي، وأنا أحسن الظن بك) يا الله! مع سيرته الظالمة وأخلاقه السيئة وما سفك من دماء بريئة يقول هذا!
والعلماء يأتون بمبحث لطيف ويقولون: هل الواجب على الإنسان والأولى له أن يغلِّب جانب الرجاء، أو يقدم جانب الخوف لقوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] أو يجمع بينهما لقوله تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]؟
قالوا: المسلم كالطائر يطير بجناحين: جناح الرغبة وجناح الرهبة، فجناح الرغبة يدفعه إلى فعل الخير، وجناح الرهبة يمنعه من فعل الشر، فهو بين رغبة ورهبة، ولكن يقولون: إذا كان في نهاية عمره، أو عند عجزه فيقدم جانب الرجاء كما جاء في الحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)، أما إذا كان في شبابه وفي قوته وفي نوازع الهوى وفي مخاوف الفتنة فيقدم جانب الخوف.
إذاً: في حالة القدرة على العمل ومخافة الفتنوإن قُدِّر بعد ذلك أن وقع في الذنب بدون إصرار سابق فإنه يستغفر، وقد جاء في الحديث: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم).
إذاً: مهما كان الذنب فلا يتعاظم إنسان ذنباً على الله، وشاهد ذلك قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أتى إلى شخص عابد وسأله: هل لي من توبة؟ قال له: بعد قتل تسعة وتسعين نفساً! ليست لك توبة، فقتله فأكمل به المائة.
ثم بقيت نفسه تنازعه فأتى عالماً عارفاً فسأله، فأجابه العالم وقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟، تب إلى الله يقبل توبتك، ثم نصحه قائلاً: اخرج من هذه البلدة التي قتلت فيها مائة نفس، واذهب إلى القرية الفلانية ففيها رجال صالحون فاعبد الله معهم، فلما خرج أدركته المنية في الطريق، واختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ثم أرسل الله لهم ملكاً في صورة رجل وقال: قيسوا ما بين الأرضين، ثم أمر الله هذه بأن تمتد، وتلك بأن تنزوي، فصار أقرب إلى أهل الخير بذراع، فقبضته ملائكة الرحمة.
وفي الحديث: (..إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة).
إذاً: عمل بعمل أهل النار وأصبح يستحق النار، ولكن بلطف الله سبق عليه الكتاب، وتحوّل وعمل بعمل أهل الجنة، وكانت الخاتمة خيراً، والأعمال بالخواتيم.
وهكذا أيها الإخوة! يبين المولى سبحانه في هذا الحديث أنه لا يتعاظم الإنسان ذنباً على الله أبداً، ومهما كان عظم هذا الذنب فرحمة الله أوسع، ولكن يجب عليه في ذات الوقت التأدب مع الله، فلا تكون توبته ولا يكون استغفاره من باب التلاعب أو من باب التساهل.
ويذكر ابن رجب أثراً يعزوه إلى الترمذي (وفيه: (لا يتخذ الرجل امرأة حليلة وكلما قضى حاجته منها يستغفر الله، ثم يرجع إليها، فيقول الله له: لا، اتركها أغفر لك).
أما كونك كل ساعة تعود للذنب، ثم ترجع وتقول: أستغفر الله، وأنت مصر على هذا؛ فلا.
وفي الأثر: (إن الله لا يغفر لثلاثة: -وذكر منهم- رجل يزني بامرأة وكلما قضى حاجته منها استغفر ثم رجع، ورجل يأكل مال غيره، وكلما أكل شيئاً قال: أستغفر الله، فيقول الله له: لا، اترك ماله أغفر لك). إذاً: الإصرار على الذنب ذنب.
فضل الاستغفار
الشرك بالله تعالى من الذنوب التي لا تغفر
وقوله سبحانه في هذا الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، (قُراب الأرض): يقول بعض العلماء في اللغة: هذا الشيء قريب من هذا، أو هذا قريب من هذا في الطول، أو هذا المكان قريب من هذا في السعة، يعني ليس عين السعة وليس عين الطول ولكن مقارب، فقالوا: (قُراب) بمعنى مُقارِب، يعني: لو أتيتني بما يقارب ملء الأرض، وقالوا: قراب الأرض، أي: قِرابها أو ملؤها، وهو كناية عن امتلائها بالكلية. (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، يقول (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً)، إذاً: هناك فرق بين المغفرة والاستغفار وبين الدعاء وعظيم الرجاء.
قلنا: في قوله: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني)، شملت كل عبد لله من بني آدم، ولكن هنا يقول سبحانه: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً)، إذاً: قراب الأرض من الخطايا التي ليس فيها الذنب الأكبر وهو الشرك، كما بين ذلك سبحانه في قضية لقمان مع ابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
فمهما كان على الإنسان من خطايا، ولقي الله موحداً لا يشرك بالله شيئاً لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في صفاته، كان هذا القراب الكثير من الخطايا موضع المغفرة.
وفي القرآن الكريم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48]، أي ما دون الشرك من الخطايا.
إذاً: (( دُونَ ذَلِكَ )) فيه نص على أن الخطايا تتفاوت، فهناك الشرك وهو الظلم الأعظم، وهناك قتل النفس، وهناك الزنا، وهناك السُّكْر، وهناك السرقة، وهناك السَّب، وهناك نظرة العين، فهي تتفاوت، (( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ))، فالحديث مطابق للآية الكريمة.
قال: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا)، والخطايا: جمع خطيئة، وهي: ما يفعله الإنسان من الذنوب عامداً، وهي بخلاف الخطأ الذي يقع من المرء بدون قصد منه، وتقدم في الحديث: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، فالخطأ ليس عمداً وليس معصية، ولكنه ينتج عندما يفعل المرء شيئاً جائزاً فيخطئ فيه إلى ما ليس بجائز، أي: بدون إصرار ولا قصد للخطأ والمعصية
وختاماً أيها الإخوة! نحمد المولى سبحانه أن امتن علينا بهذه النعمة، ونشكره سبحانه أن وفقنا وإياكم إلى نهاية هذا المجموع المبارك، ونسأل المولى أن ينفعنا وإياكم وكل مسلم بما علَّمنا، وأن يوفقنا للعمل بما علّمنا، وأن يرزقنا حسن الإخلاص وحسن التوجه إليه، وأن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يرزقنا وإياكم شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين أفضل ما جازى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث
إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّنبسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا الحديث السادس من هذه المجموعة المباركة عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب رواه الشيخان البخاري ومسلم .
يعتبر هذا الحديث عند العلماء ركن من أركان الإسلام، وفيه مباحث عديدة، من جوانب متعددة.
قوله صلى الله عليه وسلم: إن الحلال بيّن، يقول العلماء: حرف إن من أدوات التوكيد، والخبر يلقى مؤكداً للاهتمام به، أو لتنزيل السامع منزلة الغافل لينبه،
كما قالوا في قول الشاعر:
جاء سليك عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح
الأصل: بنو عمك فيهم رماح، فجاء بإن؛ لأنه جاء معترضاً برمحه، وكأن عدوه ليس مستعداً للقتال والدفاع، فكان في منزلة المستهتر بعدوه المتغافل عن سلاحه، وهذا الحديث يشير إلى أمور يغفل عنها الناس: لا يعلمهن كثير من الناس، فجاء في بادئ الأمر بأداة التوكيد تنبيهاً للسامع لأول وهلة، وكان مقتضى إلقاء الخبر عادياً أن يقول: (الحلال بيّن، والحرام بيّن) ولكن جاء بإن قبل الجملة ليؤكد مضمون هذا الخبر، ويسترعي الانتباه إليه.
والحلال ما أحله الله، وأصل حلّ من باب ضرب نصر، حَلَّ يَحِلُ كضَرَبَ يَضرِبُ، وحَلَّ يَحُلُ كنصر ينصُر، قالوا: اللازم من باب ضرب، والمتعدي من باب نصر، تقول: حلّ الحبل يحُله حلاً؛ لأنه متعدٍ إلى الحبل، وتقول: حلّ بالمكان يحل، يعني: نزل به، والحلال مادة مستقلة بذاتها، تقول: حلّ هذا الشيء يحِل أي يصير حلالاً، ولا تقل: يحُل، بل حل الحلال يحِل، بمعنى ثبت الحكم ونزل واستقر، كمن يأتي إلى مكان ويحل به ويستوطن ويستقر، فلا يتغير هذا الحكم ولا يتحول.
إن الحلال هو: ما أحله الله صرفاً، و(بيّن) من البيان والوضوح، ويقابل هذا: (وإن الحرام بيّن) والحرام هو: الممنوع، ومن شواهد ذلك:
جالت لتصرعني فقلت لها: اقصري إني امرؤ صرعي عليكِ حرام
يعني: ممنوع، ومنه: حريم البيت الذي يمتنع الدخول إليه، ومنه: محارم الإنسان وحرمه الممنوعات على غيره، ومنه: حرمة الرجل، أي: أنها محرمة وممنوعة على غيره، فالحرام ما حرمه الله، وهو بين وواضح.
معنى الشبهات
قال: (وبينهما أمور مشتبهات)، ولم يقل: متشابهات، وفرق بين المتشابه والمشتبه، قال الله في وصف ثمار الجنة: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25] أي يقولون: الذي أكلنا قبل هذا هو شبيه به ولكن ليس هو، فمتشابه أي: بعضه يشابه بعضاً، وهذا يدل على وجود شيئين، ولكن مشتبه هو في ذاته، وليس هناك طرف ثان، والمادة متقاربة، فالمشتبه هو: ما يدور بين طرفين متغايرين يشبه هذا من جهة، ويشبه هذا من جهة أخرى، فيصبح في نفسه مشتبهاً، بخلاف المتشابهين، مثل: أخوين توأمين يكونان متشابهين، ولكنهما متغايران، كل واحد بشخصية مستقلة، لكن الأمر المشتبه يدور بين أمرين متغايرين، يأخذ من هذا بوجه، ويأخذ من هذا بوجه، فيصبح مشتبهاً في ذاته.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: من أحكام الشريعة، ومن معاني القرآن، ما هو بين واضح ليس فيه شبهة ولا يعذر أحد بجهله، سواء كان في الأوامر أو كان في النواهي، وتفسيره تلاوته، وذلك مثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، فكل هذا من الأمور الواضحة، وكذلك في المحرمات قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]، وقوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4]، فهذا بين واضح لا لبس فيه، وقوله: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]، وقوله: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]، فالحلال واضح بين لا شبهة فيه، والحرام واضح بين لا شبهة فيه، ومثل قوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء:33]، وقوله: لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، فهذا حرام بيّن.
أقسام تفسير القرآن
يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يعذر أحد بجهله، وقال ابن عباس تفسير القرآن على أربعة أنحاء:
1- قسم واضح لا يعذر أحد بجهله، وهو أصول وعموم ما شرع الله سبحانه وتعالى من الأوامر والنواهي.
2- قسم تعلمه العرب من لغتها، كما في قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31] قال: الفاكهة عرفناها، وأما الأب فوالله ما نعرفه، حتى جاء أعرابي إلى المدينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يارسول الله! إني تركت ناقتي ترعى الأب) قال عمر : فعرفت أن الأب هو: مرعى الإبل.
ومثال آخر: (ذو) الطائية التي بمعنى الذي، كان ابن عباس يستشهد على معناها بقول الشاعر عندما تخاصم مع آخر في بئر فقال:
فإن الماء ماء أبي وجدي بئري ذو حفرت وذو طويت
يعني: بئري التي حفرتها والتي طويتها، وهذا القسم تعرفه العرب من لغتها على ما وضع لها في لغة العرب.-
3- قسم لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، وهذا القسم لا يعلمه كثير من الناس، مثاله: قصة المرأة التي وضعت حملها بعد زواجها بستة أشهر، وجيء بها إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يرجمها؛ لأن المعهود عند الناس أن المرأة تلد بعد تسعة أشهر، وهذه وضعت قبل التسعة بثلاثة أشهر، فظن الناس أنها تزوجت وهي حامل في ثلاثة أشهر، فجاء علي فقال: يا أمير المؤمنين! لا يمكن أن ترجمها؛ لأنها قد تكون ولدت لأقل مدة الحمل، قال: وما أقل مدة الحمل؟ قال: الله سبحانه وتعالى جعل لأقل مدة الحمل ستة أشهر، فقد تلد المرأة لستة أشهر، قال: وأين هذا في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه وتعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا[الأحقاف:15]، وقوله: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وقوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، والحولان الكاملان أربعة وعشرون شهراً، فإذا كان للفصال أربعة وعشرون شهراً فيبقى للحمل -وهو قسيم الرضاعة- ستة أشهر، وهي الباقية من الثلاثين، فكف عنهاعثمان رضي الله تعالى عنه، فهذا الأمر ما كل الناس يعرفونه.
4- قسم استأثر الله بعلمه، كما قال في أول سورة آل عمران: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، قيل: الوقف على لفظ الجلالة ثم يستأنف كلاماً جديداً: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقيل: الوقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7].
العلماء يبحثون هذا في علم الكلام، هل الراسخون في العلم يعلمون تأويله للعطف على لفظ الجلالة، أو لا يعلمون تأويله للوقف على لفظ الجلالة؟ كلا الوقفين صحيح كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وعلى الوقف على لفظ الجلالة يكون معنى (تأويله): الحقيقة التي يئول إليها الشيء، وهذا لا نعلمه، وذكروا من ذلك صفات الله سبحانه وتعالى التي لا يدركها العقل، كقوله: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، فلا يعلم من أين يكون مجيئه؟! وحديث: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) كيف تسع الدنيا رب العالمين؟ وقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، حقيقة الصفة في ذات الله لا يدركها العقل البشري، والله يعلمها، قالوا: ومن ذلك قوله تعالى في وصف ثمار الجنة: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15]، ماء الدنيا إذا وقف قليلاً أسن وتغير وتعفن، قال: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] ومن لبن خالص، ومن خمر سائغ، وكل هذه المسميات لها نظائرها في الدنيا، ولكن هل هي التي في الدنيا؟ لا إنما مجرد الاسم، أما حقيقة ذاك اللبن وحقيقة ذاك العسل وحقيقة ذاك الخمر فلا يعلمه إلا الله، وقد بيّن أن تلك الخمر لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، بينما خمر الدنيا ينزف ويسكر بها، ويصيب شاربها الصداع، إذاً: لا تساويها في الحقيقة، وإن اشتركت في اسمها، فمعنى: (لا يعلم تأويله) أي: مآله وحقيقة أمره إلا الله سبحانه جل جلاله.
إذاً: بعض الأمور مشتبه، تدور بين الحلال والحرام، ولا يعلم هذا المشتبه كثير من الناس.
حكم ترك الشبهات
قال: (فمن اتقى الشبهات) ما يتعلق بما بين الناس ينبغي أن يتقيه،
فالأمور ثلاثة: حلال بين مشروع، وحرام بين ممنوع، ووسط مشتبه، فماذا يكون موقف المسلم فيها؟
يأتي الحلال الواضح البين الحل، ويترك الحرام الواضح البين التحريم، والوسط ماذا يفعل فيه؟ أيأخذه تارة، ويتركه تارة؟ لا، بل قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ) أي: سلم من الحرام، لكن كيف يكون حد الشبهات؟ العلماء يبينون على سبيل المثال كيف يكون حد هذا الشيء المشتبه بين الحلال والحرام، فإذا قلنا: المنطقة ثلاثة أمتار، متر للحلال، ومتر للحرام، ومتر في الوسط للمشتبه، والمشتبه ربما يتزحزح إلى الحلال ويكون أقرب إلى الحلال، وربما يتزحزح إلى الحرام ويكون أقرب إلى الحرام؛ لأنه مشتبه بين طرفين متغايرين.
مثلاً: لو أن إنساناً تاجراً يبيع العسل والسمن واللبن والخمر، فماله الذي يكتسبه فيه حرام وفيه حلال، ففيه شبهة بقدر مبيع الخمر؛ لأن الحرام مختلط بكامل المال، لو كان عنده ألف درهم، كم تكون نسبة الحلال الصرف والحرام الصرف؟ هل تستطيع أن تقول: قيمة الخمر إلى حد عشرة في المائة أو عشرين في المائة، وقيمة السمن والعسل ثلاثين أو خمسين أو سبعين في المائة، وعشرة في المائة مشتبهة بينهما، الألف في يدك ماذا تقول فيه؟ فيه شبهة من ثمن الخمر، لكن قد تقرب إلى الحلال لأنها قليلة، وقد تقرب إلى الحرام لأنها كثيرة، أنا آتي بهذا المثال لأبين أن المشتبه ليس على خط واحد بين الحلال والحرام، لكنه كالزئبق تارة يميل إلى جانب التحريم فيكون أقرب إلى الحرمة، وتارة يميل إلى جانب الحلال فيكون أقرب إلى التحليل، والشبهة تقوى وتضعف. قال الله: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ [المائدة:4]، لو أخذت كلب الصيد أو طائر الصيد أو أخذت سهمك وكنانتك وخرجت إلى البر فرأيت الصيد، ورميت السهم قائلاً: باسم الله، الله أكبر، وجئت إلى الصيد ووجدته قد مات، فهذا حلال بيّن، ولو جئت إلى الصيد ووجدته جريحاً وكان بوسعك أن تذكيه، ولكنك تركت تذكيته حتى مات، فهذا حرام بيّن، ولو جئت إلى الصيد وقد غاب عنك في المزرعة أو غاب عنك وراء الجبل، ومن الغد لقيته فوجدت فيه سهماً آخر لشخص آخر، ووجدته ميتاً، فهل مات من سهمك أو من سهم الآخر؟ فهذا مشتبه، سهمك وسهم الآخر متساويان، هل تأكل منه؟ لا، قد يكون من سهم غيرك وليس صيدك، وإنما سمى عليه غيرك وقتله. ولو رميتة بالسهم وغاب عنك، ثم وجدته غارقاً في غدير من الماء، فهل مات بسهمك أم بالماء؟ لا تدري، فوجود سهمك داع للحلية، ووجوده غارقاً في الماء داع للحرمة، ففيه شبه بين الحلال البين وبين الحرام البين، فيتجاذب إلى هذا وإلى هذا، مثل عوامل المغناطيس التي تتجاذب الشيء ويكون بينهما على السواء، فهذا مشتبه يترك للشبهة.متى يكون ترك الشبهة واجباً؟
والترك للشبهة قد يكون واجباً متعيناً كما قالوا: ما لا يترك الحرام إلا بتركه فهو حرام، وكما قالوا: يجب ترك المشتبه لو اشتبهت مذكاة بميتة، كما لو أعطاك إنسان فخذ كبش، وبعد قليل أعطاك رجل آخر فخذ كبش أخرى، وأنت تعلم أنه يستبيح أن يأكل الميتة، وصار عندك الآن هذا اللحم وهذا اللحم، يا ترى! أيهما من لحم الميتة وأيهما من المذكاة؟! وكما قالوا: إذا اشتبهت أخته بأجنبية -وهذا مثال مذكور في أصول الفقه- فيحرم عليه وطء الأجنبية اتقاء لأخته. وكذلك اشتباه المغصوب بالحلال، واشتباه سطل ماء طهور يمكن أن تتوضأ وتغتسل وتشرب منه، بسطل آخر مثله جاء إنسان فبال في أحد السطلين، ثم جاء شخص لا يعلم وغير مواضع السطلين، كما لو كانت إلى جهة الشرق والغرب، فجاء واحد وحولها شمالاً وجنوباً، وأنت كنت تعلم أن الذي في جهة الشرق هو الذي فيه البول، فهذا نجس بيّن، وذاك طهور بين، ولكن الآن اختلفت عليك السطول ولم تعد تدري بالنجس، حيث لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، فلم تستطع أن تحدد أيهما الطاهر، فهل يجوز لك أن تتوضأ بواحد منهما؟
حصل خلاف بين الفقهاء في ذلك فقيل: يتوضأ من هذا مرة ومن هذا مرة، هذا حاجة إلى ذكر الخلاف، ولو كان عندك إناءان فيهما عسل، وهما بشكل واحد، وحجم واحد، وجاء إنسان ووضع السم أمامك في أحد الطبقين، ثم ذهبت عنهما فقلت: السم في الذي في الجهة الغربية، والطبق الذي في الجهة الشرقية سليم ليس فيه سم، وأنا جائع أريد أن آكل، فجئت ووجدت الطبقين منحرفين، تغيرا عن وضعهما، فلا تدري أين الذي كان في الغرب وأين الذي كان في الشرق؟ فهل يمكن أن تمد يدك إليه؟ مستحيل أن تذوق واحداً منهما؛ لأنه اشتبه عليك الحلال بالحرام.
يقول العلماء في مسألة إذا قتل الرجل عبداً: هل فيه الدية أو فيه القصاص؟
هناك من يقول: فيه القصاص؛ لأن النفس بالنفس، وهو قول ابن حزم ومن يوافقه.
والجمهور يقولون: لا، هو وسط اجتمع على شبهين من طرفين مختلفين:
فمن حيث أنه يباع ويشترى ويوهب ويكون من الميراث، فيشبه الأموال والمتاع، ومن أتلف متاعاً فعليه قيمته بالغة ما بلغت.
ومن جهة أنه يقيم الصلاة، ويصوم رمضان، ويذكر الله، وأنه مكلف بالعبادات أشبه الإنسان، ومن قتل إنساناً فحكمه؟ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، إذاً: اشتمل على وجهين مختلفين، يشبه كل وجه جانباً من الجانبين، فكان فيه قياس الشبه، كما يقول الأصوليون، فمن غلب شبه الإنسان الحر ألحقه بالدية، ومن غلب شبه المتاع والمال غلب فيه جانب القيمة، ولو بلغت قيمته أكثر من دية الحر.
عدم الطمأنينة علامة على الوقوع في الشبهة
بيّن لنا صلى الله عليه وسلم حكم الشبهات، وما دام أنك لست من القليل الذين يعلمون حكم هذا المشتبه، فعليك الكف والترك، وقد جاء في الحديث وسيأتي إن شاء الله: (البر ما اطمأنت إليه النفس)، حينما تجد الصدر مشغولاً وفيه زوابع، وفيه أمواج تتلاطم، وفيه انفعالات وترددات: تقدم أو تحجم.. يجوز أو لا يجوز؟ عرفت عندها أن النفس لم تطمئن؛ لأن الطمأنينة الاستقرار، أما حركة التردد، وحركة القلق، وحركة الاضطراب، وحركة الانفعال بين حلال وحرام، فهذه علامات الشبهة، إذا وجد هذا الاضطراب ارتفعت تلك الطمأنينة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) فالأمر تعمله خفية، ولا تحب أن أحداً ينظر إليك؛ لأنه فيه إثم.
إذاً: البر ما اطمأنت إليه النفس، فإذا وجدت في النفس طمأنينة فهو واضح بعيد عن المشتبه، وإذا وجدت في نفسك شبهة، وترددت في أصل الأمر هل هو حلال أو حرام؟ فلو أقدمت عليه فستجد نفسك قلقلة.تابع شرح الحديث السادس
الترغيب في اتقاء الشبهات
وبعد:
فإن اتقاء الشبهات معراج أو سلّم أوله في الأرض وآخره في السماء، فبعض الناس يرى الكبيرة العظيمة (كذبابة على أنفه قال بها هكذا) كما جاء في الحديث، وبعض الناس يرى الشبهة كأنها جبل على رأسه، وما كل الناس في اتقاء الشبهات سواء، يوجد أشخاص نفسياتهم شفافة، لو نفثت عليها بالهواء تأثرت، كالمرآة الصقيلة في الشتاء إذا جعلتها إلى فمك وتنفست، يخرج من المعدة بخار، فيتكاثف مع برودة الجو على المرآة فيعمل مثل السحابة، فبعض الناس من شفافية نفسيته وتحريه للحلال فإن الشبهة تؤثر فيه كسحابة حرام، وبعض الناس يبلعها ولا يبالي، والأمر عنده واسع، فالناس ليسوا سواء.
وأقرب مثال عندنا قصة أبي بكر رضي الله عنه عندما جاءه خادمه بطعام، فلما أكله تأثرت نفسه، سبحان الله! الطعام ما وصل إلى جوفه إلا وأحس بحساسية، فنادى الغلام وقال له: تعال! من أين هذا الطعام؟! قال: كنت في الجاهلية تكهنت لرجل، وأنا والله! لست بكاهن -يعني: خدع الرجل- فلقيني الآن، وأعطاني حلواناً فاشتريت به كذا وكذا، فوضع أبو بكر رضي الله عنه أصبعه في حلقه واستقاء ما أكله، فما الذي حرك نفسية أبي بكر من هذا الطعام؟ هل كان فيه ملح زايد أو شطة أو شوك؟!
كذلك عمر رضي الله عنه أرسل غلامه ليأتيه بحليب من إبله، فذهب وجاء فلما شرب الحليب استنكر طعمه، قال: تعال يا غلام! من أين جئتني بهذا الحليب؟ قال: والله! أرسلتني آتيك بحليب من إبلك، فوجدت الرعاة قد أبعدوا بها، ولقيت إبل الصدقة على الماء فقلت: احلبوا لي، فحلبوا لي، فجئتك بلبن من إبل الصدقة، فقال أمير المؤمنين: آكل الصدقات؟ أحس في نفسيته هذه الحساسية، ويمكن نسمي هذه الحاسة حاسة الحلال والحرام، لا يكشفها بارومتر ولا ترمومتر ولا أي شيء من هذه المقاييس المادية مهما كانت، وهي تكشف الأمور العضوية، والكثافة، والدسومة، والخفة، والحرارة، والبرودة، لكن الحلال والحرام فهي أمور حكمية واردة على العين الواحدة.
إذاً: الإحساس والتوقف عند المشتبهات ليس كل الناس فيه سواء، فأيما إنسان صفت نفسه، وتعود أكل الحلال، ونشأ على الحلال فأقل شبهة تؤثر على نفسه.
أبو حنيفة كان تاجر بز، وكان عنده ثوب فيه عيب، فجعله في جانب، وهو آخر ثوب عنده من ذلك الصنف وكان معه في المحل من يعمل معه، فذهب أبو حنيفة ليقيل ثم رجع فإذا الثوب الذي عزله في جانب غير موجود، فسأل عنه فقال العامل: بعته، قال: بكم بعته؟ قال: كما نبيع الثياب. قال: هل أخبرت المشتري بالعيب الذي فيه؟ قال: لا، وهل فيه عيب؟ -لم يدر العامل- لكن أبا حنيفة تصدق بكامل قيمة الثوب، وكان يمكن أن يتصدق بقيمة العيب فقط ولكن فعل ذلك ورعاً منه.
ويذكرون عن الإمام أحمد رحمه الله أنه خُبز عجين بيته في بيت فلان فامتنع أن يأكل منه؛ لأن فلاناً في ماله شبهة.
سبحان الله! بعضنا قد يأتيه خبز وإدام وشراب من رجل في ماله شبهة فيتلقاه بكل رحابة صدر.
يتعين على المسلم أن يتقي الشبهة، ولا يستطيع الإنسان أن يوفي هذا المقام حقه، ولكن عليه بالمقاربة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع الناس عليه).
وهذا هو التقسيم الثلاثي، وبيان موقف الأمة من هذه الأقسام:
الحلال بيّن، ويقدم عليه كل إنسان، والحرام بيّن، يجب أن يحجم عنه كل إنسان، وبينهما أمور مشتبهة، إن نظرت إليها من جهة قد تكون حلالاً، وإن نظرت إليها من الجهة الثانية قد تكون حراماً، إذاً: ماذا تفعل؟!
القليل الذين يعلمون حكمها كما قال: (لا يعلمهن كثير من الناس)، ومفهوم ذلك أن يعلمها القليل، ولا تخلو الأمة من هذا القليل الذي يعرف حقيقة المشتبه، وإليه يرجع الناس، فإن كنت أنت من هذا القليل، تحريت وتحققت ثم بعد ذلك أقدمت على مقتضى ما علمت، وإن كنت من الكثيرين الذين لا يعلمون حكم هذا فموقفك منه الكف، (من ترك شيئاً لله أبدله الله خيراً منه).صلاح الأعمال بصلاح القلب وفسادها بفساده
ثم ذكر منطلق اتقاء الشبهات، والأصل في ذلك وهو: القلب، فقال: (ألا وإن في الجسد مضغة) ما علاقة هذه المضغة في الحمى وفي المحارم؟
لأن اتقاء الشبهات ليس عمل الجوارح بقدر ما هو عمل القلب؛ لأن اتقاء الشبهات بتقوى الله، وتقوى الله محلها القلب، (ألا وإن في الجسد) عموماً من شعره إلى إلى ظفر رجله (مضغة) والمضغة تشبيه بقدر ما يكون القلب، علماً بأن قلب كل حيوان بقدر قبضة يده، فقلب الطفل الصغير بقدر قبضة يده وهكذا قلب الفيل بقدر خفه، وقلب البعير بقدر خفه، وهذا مقياس في جميع الحيوانات، (ألا وإن في الجسد مضغة) أسلوب تقليل، أي: أنها من أصغر الأعضاء الموجودة في الجسم، فهي أصغر من الكبد، وربما تكون أصغر من الطحال في بعض الحالات، مع أن القلب أكبر من الطحال نوعاً ما، وأصغر من الرئة، وأصغر من اليد، وأصغر من الرجل، وأصغر من الرأس، فهذه المضغة صغير حجمها ولكن عليها مدار صلاح العبد. (إذا صلحت صلح الجسد كله) صلحت من الناحية الصحية فيكون القلب سليماً، ومن الناحية الاعتقادية فيكون القلب نقياً طاهراً، الأمران معاً، ويتفق الأطباء الآن بأن مريض القلب يعتبر مريض الجسم كله، وأن صحيح القلب صحيح الجسم كله إلا ما ندر في بعض الجوانب، فصحة القلب دليل على الصحة العامة بالجسم، ولكن الأصل أن المراد هنا: الصحة المعنوية، وهي صحة الإيمان والعقيدة، وقوة اليقين بالله، فإذا صلح القلب مع الله سبحانه؛ صلح هذا الجسد في أعماله، وكان سلوكه صالحاً خالصاً لوجه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.•°•
شرح حديث
( مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ .)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله
حديث صحيح ، متفق على صحته
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ : ( مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ ) .
من طريق أخرى بلفظ : ( مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ، وَمَا أَجِدُ لَكُمْ رِزْقًا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ) وإسناده حسن.
فقَوْله ( وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ) قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " ( مَنْ يَسْتَعِفّ ) أَيْ يَمْتَنِع عَنْ السُّؤَال , ( يُعِفَّهُ اللَّه ) أَيْ إِنَّهُ يُجَازِيه عَلَى اِسْتِعْفَافه بِصِيَانَةِ وَجْهِهِ وَدَفْع فَاقَته "
وَقَالَ اِبْن التِّين : " مَعْنَى قَوْله ( يُعِفَّهُ اللَّه ) إِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ مِنْ الْمَال مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ السُّؤَال , وَإِمَّا أَنْ يَرْزُقهُ الْقَنَاعَة " .
وَمَنْ يَسْتَعفف ) " أَيْ: مَنْ يَطْلُبْ مِنْ نَفْسِهِ الْعِفَّةَ عَنِ السُّؤَالِ ، قَالَ الطِّيبِيُّ : أَوْ يَطْلُبِ الْعِفَّةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ( يُعِفَّهُ اللَّهُ ) أَيْ يَجْعَلْهُ عَفِيفًا ، مِنَ الْإِعْفَافِ
وَهِيَ الْحِفْظُ عَنِ الْمَنَاهِي ، يَعْنِي : مَنْ قَنِعَ بِأَدْنَى قُوتٍ ، وَتَرَكَ السُّؤَالَ : تَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقَنَاعَةُ ، وَهِيَ كَنْزٌ لَا يَفْنَى
وقال الشيخ ابن عثيمين :
" فمن يستعف عما حرم الله عليه من النساء : يعفه الله عز وجل.
والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما يتعلق بالعفة فإنه يهلك والعياذ بالله ؛ لأنه إذا أتبع نفسه هواها ، وصار يتتبع النساء ؛ فإنه يهلك ، تزني العين ، تزني الأذن ، تزني اليد ، تزني الرجلين ، ثم يزني الفرج ؛ وهو الفاحشة والعياذ بالله .
فإذا استعف الإنسان عن هذا المحرم : أعفه الله- عز وجل- ، وحماه ، وحمي أهله أيضاً
قَوْله : ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّه ) ، وفي رواية ( وَمَنْ اِسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّه )
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " قَوْله ( وَمَنْ يَسْتَغْنِ ) أَيْ بِاَللَّهِ عَمَّنْ سِوَاهُ , وَقَوْله ( يُغْنِهِ ) أَيْ فَإِنَّهُ يُعْطِيه مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ السُّؤَال ، وَيَخْلُق فِي قَلْبه الْغِنَى ؛ فَإِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْس
وَمَنْ يَسْتَغْنِ ) أَيْ يُظْهِرْ الْغِنَى بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَالتَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ ، حَتَّى يَحْسَبَهُ الْجَاهِلُ غَنِيًّا مِنَ التَّعَفُّفِ ( يُغْنِهِ اللَّهُ ) أَيْ يَجْعَلْهُ غَنِيًّا ، أَيْ بِالْقَلْبِ " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" أي: من يستغن بما عند الله عما في أيدي الناس ؛ يغنه الله عز وجل ، وأما من يسأل الناس ويحتاج لما عندهم ؛ فإنه سيبقي قلبه فقيراً - والعياذ بالله- ولا يستغني ،🏻
والغني غني القلب ، فإذا استغني الإنسان بما عند الله عما في أيدي الناس ؛ أغناه الله عن الناس ، وجعله عزيز النفس بعيداً عن السؤال
وعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ) فَقُلْتُ: وَمِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ( وَمِنِّي ) قَالَ حَكِيمٌ : قُلْتُ: لَا تَكُونُ يَدِي تَحْتَ يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ أَبَدًا " .
قال السندي رحمه الله: " قوله: فقلت : ومنك ، أي : لا ينبغي السؤال وإن سأل منك "
قَوْله : ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ ) أَيْ يُعَالِج نَفْسه عَلَى تَرْك السُّؤَال وَيَصْبِر إِلَى أَنْ يَحْصُل له الرزق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق