صفة الحج ٦:
شرح حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة ابن عثيمين
بعد غروب شمس يوم عرفة دفع الحجاج إلى مزدلفة
الدفع إلى مزدلفة :
وقوله: « وأردف أسامة خلفه » أردف أسامة بن زيد رضي الله عنه
وقوله: « ودفع وقد شنق للقصواء الزمام حتى
إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى يا أيها الناس السكينة السكينة وكلما أتى
حبلاً من الحبال أرخى لها قليلا
حتى تصعد »
القصواء ناقته شنق لها الزمام يعني خنقه
وضيقه وجذبه لكيلا تسرع حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ومورك الرحل هو الذي يضع الراكب
رجله عليه إذا تعب أو ملّ من الركوب
وهو يقول للناس بيده اليمنى
يا أيها الناس السكينة السكينة لأنه جرت
عادة الناس منذ زمن طويل أنهم عند الدفع يندفعون ويسرعون يتبادرون النهار من جهة ولأن
الإنسان خلق من عجل وصفته العجلة قـال الله تعالى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ
58) وقـال تعالى:{وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً (59) فأصل إمداده وإعداده كله عجلة.
وقوله: « السكينة السكينة
»
أي الزموا السكينة يعني لا تسرعوا لا تعجلوا
وقد جاء في حديث آخر« فإن البر ليس بالإيضاع» (60) يعني ليس بالسرعة.
وقوله: « وكلما أتى حبلاً من الحبال أرخى
لها قليلاً حتى تصعد »
يعني إذا أتى دعثاً أو رملاً أرخى لها قليلاً
حتى تصعد رأفة بالبعير لأنه لو شنق لها الزمام وأمامها شيء مرتفع وفيه شيء من الدعث
والرمل صعب عليها فيرخي لها النبي صلى الله عليه وسلم قليلا حتى تصعد.
وقوله: « حتى أتى مزدلفة فصلى بها المغرب
والعشاء بأذان واحد وإقامتين »
المزدلفة من الإزدلاف وهو القرب وتسمى جمعاً
لأن الناس يجتمعون فيها بعد الوقوف بعرفة وكانوا أيضاً يجتمعون بها من قبل لما كانت
قريش لا تخرج إلى عرفة بل تقف في مزدلفة
وتقول: إننا أهل الحرم فلا نخرج عنه.
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بها المغرب
والعشاء جمع تأخير ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان واقفاً في أقصى عرفة من الناحية الشرقية
ثم دفع حتى أتى المزدلفة. وبين عرفة ومزدلفة مسافة كثيرة والرسول صلى الله عليه وسلم
قد شنق للقصواء الزمام وهو يقول للناس: السكينة السكينة وهذه المسافة لا شك أنها ستستوعب
مدة صلاة المغرب فلم يصل إلا بعد دخول وقت صلاة العشاء لا سيما وأنه وقف في أثناء الطريق
وبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً كما في حديث أسامة رضي الله عنه(61).
إذاً جَمْعُ الرسول صلى الله عليه وسلم
كان جمعَ تأخير ولهذا قال العلماء رحمهم الله يسن أن يجمع في مزدلفة جمع تأخير وقيد
بعضهم ذلك فقال: إن لم يوافها وقت المغرب يعني فإن وافاها وقت المغرب فإنه يصلي المغرب
في وقتها.
وقوله: « بأذان واحد وإقامتين » وهذا هو
الصحيح في الجمع أنه أذان واحد للصلاتين جميعا وإقامتان ، لكل صلاة إقامة ، والمؤذن
بلال رضي الله عنه فالأذان للإعلام بحضور وقت الصلاة وهو للمجموعتين وقت واحد.
والإقامة للإعلام بالقيام للصلاة ولكل صلاة
قيام خاص.
وقوله: « ولم يسبح بينهما شيئاً » يسبح
أي: يصلي والصلاة تسمى تسبيحاً من باب إطلاق البعض على الكل وأطلق التسبيح عليها لأن
التسبيح ركن فيها أو واجب فيها وهنا قاعدة مهمة مفيدة وهي أنه إذا عبر عن العبادة ببعضها
كان ذلك دليلا على أن هذا البعض واجب فيها
إذاً لم يسبح أي: لم يتنفل بينهما بشيء.
وقوله: « ثم اضطجع حتى طلع الفجر وصلى الفجر
حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ».
قوله: « ثم اضطجع » أي نام عليه الصلاة
والسلام حتى طلع الفجر وهذا من حسن رعايته لنفسه تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم:
« إن لنفسك عليك حقا »(62) ومعلوم أن من عمل كعمل الرسل صلى الله عليه وسلم فلا بد
أن يتعب ويحتاج إلى الراحة وإلى النوم.
والنوم إذا كان لرعاية النفس كان الإنسان
مأجوراً عليه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أقام بنمرة
ودفع منها حين زالت الشمس وخطب الناس وصلى وذهبإلى الموقف ووقف ولم ينم صلى الله عليه
وسلم ثم مشى من عرفة إلى مزدلفة كل هذا يحتاج إلى طاقة وراحة فاضطجع صلى الله عليه
وسلم ولم يتهجد تلك الليلة.
وقوله: « ثم اضطجع حتى طلع الفجر » لم يذكر
جابر رضي الله عنه الوتر فهل النبي صلى الله عليه وسلم لم يوتر ؟
قد يقول قائل: إنه لم يوتر لأن جابراً كان
متتبعاً لأفعال النبي صلى الله عليه وسلم
وقد يقال: إن جابراً رضي الله عنه سكت عنه
لأنه لا يدري ولهذا لما لم يتنفل بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء نفى
وقال: لم
يسبح بينهما شيئا فلما لم ينف الوتر دل على أن جابراً رضي الله عنه لم يحط به علما
وعلى هذا فنرجع إلى الأحاديث الدالة على
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الوتر حضراً ولا سفراً وعليه فنقول يوتر إن
شاء قبل أن ينام وإن شاء في آخر الليل حسب قوته ونشاطه.
وقوله: « وصلى الفجر » لم يذكر جابر رضي
الله عنه أيضا سنة الفجر فهل الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلها ؟
نقول لو كان عند جابر رضي الله عنه علم
بأنه لم يصلها لنفاها كما نفى الصلاة بين الظهر و
العصر وبين المغرب والعشاء
فإذا كان حديث جابر رضي الله عنه لا يدل
على نفيها فإن حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيح أنه لم يكن يدعهما أي الركعتين
قبل الفجر حضراً ولا سفراً (63)
يفيد أن الإنسان يصلي الركعتين في فجر يوم
العيد.
وقوله: « حين تبين له الصبح » يعني ظهر
واتضح لأنه لا تجوز الصلاة مع الشك في الصبح بل لا بد أن يتبين فإن كان ثَمَّ غيم فإذا
غلب على ظنه أنه خرج الفجر صلى كما سنذكره في الفوائد إن شاء الله تعالى.
وقوله: « ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام
» هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مبيتُه في مزدلفة في نفس المشعر
الحرام بل في مكان آخر ولهذا لما صلى الفجر أمر بالقصواء فرحلت له ثم أتى المشعر الحرام.
والمشعر الحرام هو المكان الذي فيه المصلى
الآن في مزدلفة وسمي مشعراً حراماً لأنه داخل
الحرم
فهل هناك مشعر حلا ل فيكون الوصف للقيد
أو ليس هناك مشعر حـلال فيكون الوصف لبيان
الواقع ؟
الجواب: قال العلماء رحمهم الله بل هناك
مشعر حلال وهو عرفة وهو أعظم مشاعر الحج فإذا لدينا مشعر حرام وهو مزدلفة ومشعر حلال
وهو عرفة.
وقوله: « فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله
»
استقبل القبلة يعني جعل وجهه إلى القبلة
« ودعاه » الضمير يعود على الله.
أما الدعاء فمعروف هو طلب الحاجة وأما التكبير
فقول الله أكبر والتهليل قول لا إله إلا الله.
وقوله: « فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدا فدفع
قبل أن تطلع الشمس »
لم يزل واقفا يعني على بعيره لقوله فيما
سبق « ركب حتى أتى ».
وقوله: « حتى أسفر جدا » يعني إسفاراً بالغاً
ليس مجرد إسفار بل انتشر السفر وبان وظهر.
صفة الحج ٧
شرح حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة ابن عثيمين
اليوم العاشر يوم النحر :
وقوله:
« فدفع قبل أن تطلع الشمس »
أي لم ينتظر طلوع الشمس فسار من مزدلفة ليخالف المشركين
لأن المشركين كانوا ينتظرون في مزدلفة إلى أن تطلع الشمس وكانوا يقولون:
« أَشْرِقْ ثَبِيْر كيما نُغير
» أيْ: كي نغير وندفع
فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في الدفعين الدفع من عرفة والدفع من مزدلفة فمن عرفة دفع بعد الغروب ومن مزدلفة دفع قبل الشروق.
وقوله:
« وأردف الفضل بن عباس
» وذلك حين دفع من مزدلفة إلى منى يوم العيد والنبي صلى الله عليه وسلم أردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد رضي الله عنهما وهؤلاء ليسوا من كبار القوم
.
فلم يختر النبي صلى الله عليه وسلم أشراف القوم ووجهاءهم ليردفهم على ناقته بل اختار من صغار القوم في السن واختار المولى يردفه من عرفة إلى مزدلفة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعتني بمظاهر التعظيم ولا تهمه بل كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يكون في أخريات القوم يتفقدهم وينظر من يحتاج إلى أمر.
وقوله:«
حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً
» يعني حرك ناقته عليه الصلاة والسلام حين بلغ بطن محسر
ومحسر واد عظيم يفصل بين مزدلفة ومنى وبهذا نعرف أن ما بين المشاعر أودية.
واختلف العلماء رحمهم الله في سبب الإسراع
فقال بعضهم: أسرع لأن بطن الوادي يكون لينا يحتاج لأن يحرك الإنسان بعيره لأن مشي البعير على الأرض الصلبة أسرع من مشيه على الأرض الرخوة فحرك من أجل أن يتساوى سيرها في الأرض الصلبة وسيرها في الأرض الرخوة. وعلى هذا فالملاحظ هنا هو مصلحة السير فقط.
وقيل:
أسرع لأن الله أهلك فيه أصحاب الفيل فينبغي أن يسرع لأن المشروع للإنسان إذا مر بأراضي العذاب أن يسرع
كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم
( حين مر بديار ثمود في غزوة تبوك زجر الناقة عليه الصلاة والسلام وقنع رأسه وأسرع
وبعض الناس اليوم يتخذ هذه الأماكن أعني ديار ثمود سياحة ونزهة
- والعياذ بالله
- مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع فيها
وقال: « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم
»
ففي عملهم خطر عظيم لأن الإنسان إذا دخل على هؤلاء بهذه الصفة فقلبه يكون غير لين فيكون قاسيا مع مشاهدته آثار العذاب وحينئذ يصيبه ما أصابهم من التكذيب والتولي.
هذا معنى الحديث وليس المراد أن يصيبكم العذاب والزجر الحسي فقد يراد به العذاب والزجر المعنوي وهو أن يقسو قلب الإنسان فيكذب بالخبر ويتولى عن الأمر.
والذين يذهبون إلى النزهة أو الفرجة، الظاهر أنهم للضحك أقرب منهم للبكاء. فنسأل الله لنا ولهم العبرة والهداية.
وتعليل إسراع النبي صلى الله عليه وسلم في وادي محسر بذلك فيه نظر لأن أصحاب الفيل لم يهلكوا هنا بل في مكان يقال له المغمس حول الأبطح
وقال بعض العلماء رحمهم الله:
إن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم
كما خالفهم في الخروج من عرفة وفي الخروج من مزدلفة ولعل هذا أقرب التعاليل
ولهذا قال الله تعالى ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عندالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)
ثم قال
(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً).
وقوله:
« ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى »
في منى ثلاثة طرق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، شرقي وغربي ووسط
فسلك النبي صلى الله عليه وسلم الطريق الوسطى بين الطريقين وإنما سلكها لأنها كانت أقرب إلى رمي جمرة العقبة ولأنها هي التي تخرج على جمرة العقبة قصداً ليرميها حين وصوله إلى منى
ولهذا رماها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يذهب إلى رحله وينزل من بعيره رماها وهو على بعيره وكان معه أسامة وبلال رضي الله عنهما أحدهما يقود راحلته والثاني يظلله بثوب يستره من الحر حتى رمى الجمرة صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله:
« التي تخرج على الجمرة الكبرى » وصفها بالكبرى بالنسبة لما قبلها من الجمرات وهي الأولى والوسطى فإنها كبرى بالنسبة لهما وهي أوسعهن حوضا لكن نظرا لكونها في الجبل لم يكن حوضها دائراً عليها.
وقوله:
«حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة
» وهي الكبرى ، وهي شجرة معروفة في ذلك الزمن لكنها الآن ليست موجودة.
وقوله:
« فرماها بسبع حصيات » رمى الجمرة بسبع حصيات ، والجمرة سميت بذلك لأن الناس يتجمرون عندها أي يتجمعون ولأنها ترمى بالجمار أي بالحصى الصغار.
وقوله:
«فرماها بسبع حصيات » قد يفهم منه:
أنه لا بد أن يرمي الشاخص(
العمود القائم)
ولكنه غير مراد
بل المقصود أن تقع الحصاة في الحوض، سواء ضربت العمود أم لم تضربه.
ورمي الجمرات الحكمة منه: إقامة ذكر الله عز وجل كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
« إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله »
ولهذا يشرع أن يكبر عند رمي كل حصاة من أجل أن يعظم الله تعالى بلسانه كما هو معظم له بقلبه لأن رمي الجمرات على هذا المكان أظهر ما فيه من المعنى المعقول هو التعبد لله
وهذا كمال الانقياد إذ إن الإنسان لا يعرف معنى معقولاً واضحاً في رمي هذه الحصى في هذا المكان سوى أنه يتعبد لله عز وجل بأمر وإن كان لا يعقل معناه على وجه التمام تعبداً لله تعالى وتذللاً له وهذا هو كمال الخضوع لله عز وجل ولهذا كان في رمي الجمار تعظيم لله باللسان وبالقلب.
أما ما اشتهر عند الناس من أنهم يرمون الشياطين في هذه الجمرات فهذا لا أصل له ، وإن كان قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند ضعيف أنه
قال:
( الشيطان ترمون
)
فإنما يقصد بذلك إن صح عنه هذا الخبر أو هذا الأثر فالمراد أنكم تغيضون الشيطان برميكم هذه الجمرات حيث تعبدتم لله عز وجل بمجرد أن أمركم به من غير أمر معقول لكم على وجه التمام.
و الله عز وجل جـعل لنا دواء نرمي به الشيطان إذا عرض لنا وهو أن نستعيذ بالله منه ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ((73).
إذاً الحكمة من رمي الجمرات هو كمال التعبد لله تعالى والتعظيم لأمره ،ولهذا يحصل ذكر الله بالقلب واللسان.
فإن قال قائل:
لماذا لم تكن خمساً أو ثلاثاً أو تسعاً أو إحدى عشرة حصاة ؟
فالجواب:
هذا ليس لنا الحق في أن نتكلم فيه كما أنه ليس لنا الحق أن نقول لماذا كانت الصلوات الخمس سبع عشرة ركعة ؟ ولماذا لم تكن الظهر ستاً والعصر ستاً والعشاء ستاً مثلاً ؟
نقول:
هذا لا تدركه عقولنا وليس لنا فيه إلا مجرد التعبد.
وقوله:
« يكبر مع كل حصاة
» والمعية تقتضي المصاحبة فيكبر عندما يرمي ويقذف.
وقوله:
« كل حصاة منها مثل حصى الخذف
» حصى الخذف حصى صغير ليس بكبير ، والخذف:
هو أن تجعل الحصاة على ظفر الإبهام وتجعل فوقها السبابة.
وقدر العلماء رحمهم الله بأنه بين الحمص والبندق.
وقوله:
« رمى من بطن الوادي
» أي رمى الجمرة من بطن الوادي لا من الجبل. وكانت جمرة العقبة فيما سبق قبل هذه التوسعة والتعديلات كانت في سفح جبل وتحتها وادٍ هو مجرى الشعيب وفوقها جبل لكنه ليس بالرفيع وهي لاصقه في نفس الجبل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم من بطن الوادي ورماها ولم يأتها من فوق ؛
وعلى هذا تكون السنة أن يرميها من هذه الجهة فيجعل مكة عن يساره ويجعل منى عن يمينه كما فعل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وقال هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة
ولكن إذا كان محاولة الوصول إلى الجمرة من هذه الناحية فيه مشقة على الإنسان ولو رماها من وجه آخر لم يكن فيه مشقة وصار أخشع له وأبلغ في الطمأنينة كان رميه من الجهة الأخرى أفضل بناء على القاعدة المعروفة أن الفضل المتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة من الفضل المتعلق بمكانه.
وقوله:
« ثم انصرف إلى المنحر فنحر » يعني بعد أن رمى جمرة العقبة انصرف إلى المنحر أي مكان نحر الإبل وكذلك ذبح الشاء والمعز، وكان عليه الصلاة والسلام قد أهدى مائة بدنة فنحر منها ثلاثاً وستين بيده وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنحر الباقي وأمره أن يتصدق بلحومها وجلالها وجلودها وأمر أن يؤخذ من كل بعير قطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها تحقيقا لقوله تعالى (فكلوا منها ) قال العلماء رحمهم الله: وفي نحره ثلاثاً وستين بعيراً مناسبة لسنوات عمره الشريف فإنه صلى الله عليه وسلم مات وله من العمر ثلاث وستون سنة.
صفة الحج ٨
[١٣/٩ ٢:٤٤ م] بدرية العسبلي:
شرح حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله
عليه وسلم للعلامة ابن عثيمين
تابع اليوم العاشر يوم النحر
:
وقوله: « ثم ركب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأفاض إلى البيت » لم يذكر جابر رضي الله عنه حلق الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن
ثبت
أنه حلق بعد نحره وحل من إحرامه وتطيب ونزل إلى مكة
فطاف ولا يلزم من عدم ذكر جابر رضي الله
عنه لذلك أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعله إذ لا يلزم أن يعلم جابر رضي الله عنه ولا
غيره بكل ما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم
لكن تكمل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم
بعضها ببعض مما رواه الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.
وقوله: « ثم ركب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأفاض إلى البيت » أي نزل إليه فطاف به سبعة أشواط ولم يسع بين الصفا والمروة
لأنه كان قارنا وقد سعى بعد طواف القدوم
ولم يسع أصحابه الذين كانوا معه الذين لم
يحلوا بل طافوا طوافاً واحداً
أما الذين حلوا فقد ثبت في صحيح البخاري
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما كان عشية يوم التروية أمرهم النبي صلى الله
عليه وسلم فأحرموا
فلما أنهوا المناسك طافوا بالبيت وبالصفا
والمروة هكذا جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو صريح في أنهم
طافوا بالبيت وبالصفا والمروة وكذلك ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها
أن الذين أحرموا بالعمرة سعوا بين الصفا
والمروة مرتين.
وما دام عندنا حديثان صحيحان في أن المتمتع
يطوف ويسعى مرتين فإن حديث جابر رضي الله عنه يتعين أن يحمل على الذين لم يحلوا.
وما
ذهب إليه جماعة من أهل العلم رحمهم الله ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في أن المتمتع
يكفيه سعي واحد قول ضعيف ويتبين لنا أن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم فإنه لا يسلم
من الخطأ لأنه لا معصوم إلا من عصم الله عز وجل والإنسان يخطي ويصيب.
وحديث ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما كلاهما
في البخاري ومثل هذا لا يخفى على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه رحمه الله من حفاظ الحديث
حتى قال بعضهم كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بصحيح ولكن الإنسان بشر
فالصواب بلا شك أن المتمتع يلزمه طوافان
وسعيان والقياس يقتضي ذلك ؛ لأن العمرة انفردت وفصل بينها وبين الحج حل كامل وأحرم
الإنسان بالحج إحراما جديدا.
وقوله: « فصلى بمكة الظهر » أي صلى الظهر
يوم العيد بمكة وهذا من البركة العظيمة في أعماله صلى الله عليه وسلم حيث دفع من مزدلفة
حين أسفر جدا على الإبل ودفع بسكينة إلا في بطن محسر ورمى جمرة العقبة وذبح الإبل وحلق
ولبس ونزل مكة وصلى بها الظهر في هذه المدة الوجيزة مع أن الذي يظهر والله أعلم أن
حجه كان في زمن الربيع تساوي الليل والنهار.
وقوله: « فأتى بني عبد المطلب يسقون على
زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه
دلوا فشرب منه »
أي: بعدما طاف للإفاضة أتى ماء زمزم فشرب
منه. فالمشهور عند أهل العلم رحمهم الله أنه شرب من ماء زمزم تعبداً،
ولهذا قالوا: يسن بعد طواف الإفاضة أن يشرب
من ماء زمزم.
وقال بعض أهل العلم: إنه شرب منه لا للتعبد
به وإنما هو لحاجة النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
صفة الحج ٩
المجالسة وجواهر العلم للدينوري رحمه الله
[١٤/٩ ٧:٣٦ ص] بدرية العسبلي:
ولنقف هنا لننظر ماذا فعل الحاج يوم العيد؟
فالحاج يوم العيد:
رمى جمرة العقية،
ثم نحر هديه،
ثم حلق أو قصر،
ثم طاف،
ثم سعى،
فهذه خمسة أنساك يفعلها على هذا الترتيب،
فإن قدم بعضها على بعض فلا حرج،
إن النبي كان يُسأل يوم العيد عن التقديم
والتأخير، فما سئل عن شيء قُدّم ولا أُخر يومئذ إلا قال: { افعل ولا حرج } [متفق عليه].
فإذا نزل من مزدلفه إلى مكة، وطاف وسعى،
ثم رجع إلى منى ورمى فلا حرج،
ولو رمى ثم حلق قبل أن ينحر، فلا حرج،
ولو رمى، ثم نزل إلى مكة وطاف وسعى فلا
حرج،
ولو رمى ونحر وحلق، ثم نزل إلى مكة وسعى
قبل أن يطوف فلا حرج. المهم أن تقديم هذه الأنساك الخمسة بعضها على بعض لا بأس به،
لأن رسول الله
ما سئل عن شيء قدم و لا أخر يومئذ إلا قال:
{ افعل ولا حرج } وهذا من تيسير الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده.
أيام التشريق (١١-١٢-١٣)
ويبقى من أفعال الحج بعد ذلك: المبيت في
منى ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر لمن تأخر، لقول الله تعالى: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ
فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
[البقرة:203]
فيبيت الحاج بمنى ليلة الحادي عشر، وليلة
الثاني عشر، ويجزيء أن يبيت في هاتين الليلتين معظم الليل.
فإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر، رمى
الجمرات الثلاث، يبدأ بالصغرى التي تعتبر شرقية بالنسبة للجمرات الثلاث،
فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل
حصاة،
ثم يتقدم عن الزحام قليلا،
فيقف مستقبل القبلة، رافعاً يديه، يدعو
الله تعالى دعاءً طويلاً،
ثم يتجه إلى الوسطى فيرميها بسبع حصيات
متعاقبات،
يكبر مع كل حصاة،
ثم يتقدم قليلاً عن الزحام،
ويقف مستقبل القبلة، رافعاً يديه، يدعو
الله تعالى دعاءً طويلاً،
ثم يتقدم إلى جمرة العقبة، فيرميها بسبع
حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ولا يقف عندها، إقتداءً برسول الله
وفي ليلة الثاني عشر، يرمي الجمرات الثلاث
كذلك،
فإذا أتم الحاج رمي الجمار في اليوم الثاني
عشر، فإن شاء تعجّل ونزل من منى، وإن شاء تإخّر، فبات بها ليلة الثالث عشر، ورمى الجمار
الثلاث بعد الزوال كما سبق،
والتأخر أفضل، ولا يجب إلا بعد أن تغرب
الشمس من اليوم الثاني عشر وهو بمنى، فإنه يلزمه التأخر حتى يرمي الجمار الثلاث بعد
الزوال.
لكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني
عشر بغير إختياره، فإنه لا يلزمه التأخر، لأن تأخره إلى الغروب كان بغير اختياره.
ولا يجوز للإنسان أن يرمي الجمرات الثلاث
في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر قبل الزوال،لأن النبي
لم يرم إلا بعد الزوال، وقال: { خذوا عني
مناسككم } [مسلم]، وكان الصحابه يتحينون الزوال، فإذا زالت الشمس رموا، ولو كان الرمي
قبل الزوال جائزاً، لبينه النبي
لأمته، إما بفعله، أو قوله، أو إقراره..
ولكن يمكنه إذا كان يشق عليه الزحام، أو
المضي إلى الجمرات في وسط النهار، أن يؤخر الرمي إلى الليل، فإن الليل وقت للرمي، إذ
لا دليل على أن الرمي لا يصح ليلاً، فالنبي
وقّت أول الرمي ولم يوقّت آخره، والأصل
فيما جاء مطلقاً، أن يبقى على إطلاقه، حتى يقوم دليل على تقييده بسبب أو وقت.
وليحذر الحاج من التهاون في رمي الجمرات،
فإن من الناس من يتهاون فيها، فيوكّل من يرمي عنه، وهو قادر على الرمي بنفسه، وهذا
لا يجوز ولا يجزيء، لأن الله تعالى يقول في كتابه:
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [البقرة:196] والرمي من أفعال الحج، فلا
يجوز الإخلال به، ولأن النبي
لم يأذن لضعفة أهله أن يوكلوا من يرمي عنهم،
بل أذن لهم بالذهاب من مزدلفة في آخر الليل، ليرموا بأنفسهم قبل زحمة الناس، ولكن عند
الضرورة لا بأس بالتوكيل، كما لو كان الحاج مريضاً أو كبيراً لا يمكنه الوصول إلى الجمرات،
أو كانت امرأة حاملاً تخشى على نفسها أو ولدها، ففي هذه الحال يجوز التوكيل.
فيجب علينا أن نععظم شعائر الله، وألا نتهاون
بها، وأن نفعل ما يمكننا فعله بأنفسنا لأنه عبادة، كما قال النبي:{ إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمرات
لإقامة ذكر الله } [أبو داود والترمذي].
وإذا أتم الحج رمي الجمرات، فإنه لا يخرج
من مكة إلى بلده، حتى يطوف للوداع، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينفرون من كل وجه فقال النبي:{ لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت } [مسلم]،
إلا إذا كانت المرأة حائضاً أو نفساء، وقد طافت طواف الإفاضة، فإن طواف الوداع يسقط
عنها، لحديث ابن عباس:{ أمر الناس أن يكونآخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفف عن الحائض
} [متفق عليه]، ولأن النبي
لما قيل له: إن صفية قد طافت طواف الإفاضة
قال:{ فلتنفر إذن } [متفق عليه] وكانت حائضاً.
ويجب أن يكون هذا الطواف آخر شيء، وبه نعرف
أن مايفعله بعض الناس، حين ينزلون إلى مكة، فيطوفون طواف الوداع، ثم يرجعون إلى منى،
فيرمون الجمرات، ويسافرون من هناك، فهذا خطأ، ولا يجزئهم طواف الوداع، لأن هؤلاء لم
يجعلوا آخر عهدهم بالبيت، وإنما جعلوا آخر عهدهم بالجمرات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق