الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

الأخلاق بين الطبع والتطبع




وكما يكون الخُلقُ طبيعة, فإنه قد يكون كسباً, بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعاً على الخلق الحسن الجميل, فإنه أيضاً يمكن أن يتخلق بالأخلاق الحسنة عن طريق الكسب والمرونة

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة" قال يا رسول الله, أهما خلقان تخلقت بهما, أم جبلني الله عليهما,
قال:"بل جبلك الله عليهما".فقال:"الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله"

فهذا دليل على أن الأخلاق الحميدة الفاضلة تكون طبعاً وتكون تطبعا, ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع



لأن الخلق الحسن إذا كان طبيعياً صار سجية للإنسان وطبيعة له, لا يحتاج في ممارسته إلى تكلف, ولا يحتاج في استدعائه إلى عناء ومشقة,
ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء, ومن حُرم هذا – أي حُرم الخلق عن سبيل الطبع – فإنه يمكنه أن يناله
عن سبيل التطبع, وذلك بالمرونة, والممارسة كما سنذكر إن شاء الله تعالى فيما بعد


من الأفضل؟
وهنا مسألة وهي:
أيهما أفضل رجل جُبل على خلق حميد, ورجل يجاهد نفسه على التخلق به, فأيهما أعلى منزلة من الآخر؟
ونقول جواباً على هذه المسألة: إنه لاشك أن الرجل الذي جُبل على الخلق الحسن أكمل من حيث تخلقه بذلك, أو من حيث وجود هذا الخلق الحسن فيه



لأنه لا يحتاج إلى عناء ولا إلى مشقة في استدعائه, ولا يفوته في بعض الأماكن والمواطن, إذ أن حسن الخلق فيه سجيه وطبع

ففي أي وقت تلقاه تجده حَسَن الخلق, وفي أي مكان تلقاه حَسَن الخلق, وعلى أي حالٍ تلقاه حَسَن الخلق, فهو من هذه الناحية أكمل بلا شك



وأما الآخر الذي يجاهد نفسه ويروضها على حسن الخلق, فلا شك أنه يؤجر على ذلك من جهة مجاهدة نفسه, وهو أفضل من هذه الجهة, لكنه من حيث كمالُ الخلق أنقص بكثير من الرجل الأول

فإذا رزق الإنسان الخلقين جميعاً, طبعاً وتطبعاً كان ذلك أكمل, الأقسام هي:
1 - من حرُم حسن الخلق طبعاً وتطبعاً
2 – من حرمه طبعاً لا تطبعاً 
3 - من رُزقه طبعاً لا تطبعا
ولا شك أن القسم الثالث هو أفضل الأقسام لأنه مع بين الطبع والتطبع في حسن الخلق

 
ويروي ابن القيم رحمه الله أن جميع الأخلاق الفاضلة تنشأ عن أمرين:
الأول: الخشوع.
الثاني: علو الهمة

قال رحمه الله في كتاب الفوائد ص 210, 211: "وأما الأخلاق الفاضلة كالصبر , والشجاعة, والعدل, والمروءة, والعفة, والصيانة, والجود, والحلم, والعفو, والصفح, والاحتمال 
والإيثار, وعزة النفس عن الدناءات, والتواضع, والقناعة, والصدق, والإخلاص, والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل والتغافل عن زلات الناس, وترك الاشتغال بما لا يعنيه



ولامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك, فكلها ناشئه عن الخشوع وعلو الهمة. والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة, ثم ينزل عليها الماء فتهتز, وتأخذ زينتها وبهجتها, فذلك المخلوق منها إذا أصابه حظه من التوفيق. أ.هـ

مجالات حسن الخلق
إن كثيراً من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق خاص بمعاملة الخلق دون معاملة الخالق ولكن هذا الفهم قاصر



فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق, يكون أيضاً في معاملة الخالق, فموضوع حسن الخلق إذن: معاملة الخالق جل وعلا, ومعاملة الخلق أيضاً وهذه المسألة ينبغي أن يتنبه لها الجميع
أولاً: حسن الخلق في معاملة الخالق:
حسنُ الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاثة أمور:
1 - تلقي أخبار الله بالتصديق.
2 - وتلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق.
3 - وتلقي أقداره بالصبر والرضا. 
هذه ثلاثة أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله تعالى

أولاً - تلقي أخبار بالتصديق: بحيث لا يقع عند الإنسان شك, أو تردد في تصديق خبر الله تبارك وتعالى, لأن خبر الله تعالى صادر عن علم, وهو سبحانه أصدق القائلين كمال قال تعالى عن نفسه:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}

ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان واثقاً بها, مدافعاً عنها, ومجاهداً بها وفي سبيلها, بحيث لا يداخله شك أو شبهة في أخبار الله عز وجل وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم


وإذا تخلق العبد بهذا الخلق أمكنه أن يدفع أي شبهة يوردها المغرضون على أخبار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه, أم كانوا من غير المسلمين الذين يلقون الشبه في قلوب المسلمين بقصد فتنتهم وإضلالهم

ولنضرب لذلك مثلاً [حديث الذباب] :
ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء"

هذا خبر صادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب لا ينطق عن الهوى, لا ينطق إلا بما أوحى الله تعالى إليه لأنه بشر, والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}


هذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن الخلق وحسن الخلق نحو هذا الخبر يكون بأن نتلقاه بالقبول والانقياد, فنجزم بأن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فهو حق وصدق,

ونعلم علم اليقين أن كل ما خالف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه باطل, لأن الله تعالى يقول: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}

ومثال آخر [من أخبار يوم القيامة] :
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل"


وسواء كان هذا الميل ميلَ المكحَلة أم كان ميل المسافة, فإن هذه المسافة بين الشمس ورءوس الخلائق قليلة ومع هذا فإن الناس لا يحترقون بحرها

أن الشمس لو تدنو الآن في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الأرض ومن عليها.
قد يقول قائل: كيف تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة

ثم يبقى الناسُ لحظةً واحدةً دون أن يحترقوا؟! نقول لهذا القائل: عليك أن تكون حسن الخلق نحو هذا الحديث.

وحسنُ الخلق نحو هذا الحديث الصحيح يكون أن نقبله ونصدق به, وأن لا يكون في صدورنا حرج منه ولا ضيق ولا تردد
وأن نعلم أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا فهو حق, ولكن هناك فارقاً عظيماً بين أحوال الناس في الدنيا, وأحوالهم في الآخرة 
بحيث لا يمكن أن نقيس أحوال الدنيا بأحوال الآخرة, لوجود هذا الفارق العظيم

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق