الأحد، 14 فبراير 2016

" ما مقدرا حبك للدنيا"



قف أريدك لحظة
" ما مقدرا حبك للدنيا1 ؟
 حب الدنيا
حبُّ مَلذَّات الدُّنيا هو الوسيلةُ المؤثِّرة التي يستخدمها الشيطانُ لإيقاع بني آدم في شَرَكه؛ وذلك بتزيينها لهم، وقد حذَّرنا القرآن الكريم من الدنيا وما فيها كثيرًا، قال تعالى:(  فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ )

وعن سعيد بن جبير: أنَّ هذا في حق من آثَر الدنيا على الآخرة، وأما من طلب الآخرة بها، فإنها نِعْم المتاع، والله أعلم"[1]، وقال تعالى:﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾

ومن أَجل أن نضعَ معيارًا واضحًا لنحكم على هذه الدنيا التي نعيشُها؛ لا بدَّ من تفسيرها أولاً، فالفعل الماضي للدنيا هو "دنا"، وللمؤنث "دنَتْ"، فيُطلق على حياتنا التي نعيشها "الحياة الدُّنيا"،

َدنُؤَ يَدْنُؤُ دَناءةً فهو دَنيءٌ؛ أي: حقيرٌ قريبٌ من اللُّؤْم، والدُّنُوُّ، غير مهموز، دَنَا فهو دانٍ ودَنيٌّ، وسُمِّيَت الدُّنيا لأنَّها دَنَتْ وتأخَّرَتِ الآخِرةُ، وكذلك السَّماءُ الدُّنيا هي القُرْبَى إلينا، والآجلة: الآخرة، والعاجلة: الدُّنيا

فالدنيا إذًا: إما أنها القريبةُ الأجل؛ أي: إنها قصيرةُ الأمد ستنتهي بسرعة، أو أنها قريبة منَّا قربًا مكانيًّا؛ على أساس أننا نعيش فيها وعلى أرضها، أو أنها قريبةٌ في متناول اليد، أو هي واطئة المكانة "دنية" أو "دنيئة"؛ بمعنى حقيرة خسيسة لا قيمة لها،

وأيًّا كان المعنى فالأمرُ واضحٌ فيها وجَلِي، فهي أمد وليس أبدًا، نحن نعيشُها لنقدم ما نستطيع وصولاً إلى الحياة "الآخرة"؛ التي هي أبديَّة، وإنَّ أحقَّ ما قيل في وصف هذه الحياة الدنيا، هو قول بديعها[5] الله جل جلاله: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32].

الناس يقعون في حبائلَ كثيرة في هذه الدنيا، والقرآنُ الكريم صنَّف من يحب الدنيا من الناس أنهم قومٌ كافرون،

وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴾ [إبراهيم: 3]، يقول ابن الجوزي رحمه الله: "الدنيا فخ، والجاهل بأول نظرة يقع.
قف أريدك لحظة
ما مقدرا حبك للدنيا2 ؟
 إنَّ الله تعالى قد أمر المؤمنين بالابتعادِ عن طاعة طالب الدنيا؛ لأنه يجرُّ العبدَ المؤمن للسوء والشـر، ويبعدهُ عن ذكر الله جل جلاله، فقال تعالى: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ 

واتَّصف حبهم للدنيا بمجموعةٍ من الصفات، هي:
1- أنَّ هذا الحبَّ قد فاق حُبَّهم للنعيم المقيم الذي في الآخرة، هذا القياس قياسٌ فاسد، وإنَّ سببه هو ضعف الإيمان في الأصل؛ لأنَّ أقل نعيمٍ في الآخرة لا يمكن أنْ يُقارَن بأعظم ما في الدنيا، وإنَّ القرآن الكريم وصفَ ما في الدنيا بأنه متاعٌ بالنسبة لما في الآخرة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38].

ولأنَّ متاع الدنيا الخادع مادِّي؛ تلمسه اليد، وتراه العين، وتسمعه الأُذُن، فمع ضعف الإيمان وغياب التقوى يراه المرءُ جميلاً جمالاً حقيقيًّا فيتمسك به، ويبذل الجهد لنَيله، فإنْ نالَه تمسَّك به حتى الموت،

في حين يرى المؤمنون أنها متاع مزيَّف زائلٌ، وأنَّ النعيم الحقيقيَّ هو في الجنة، ويتفاوت هذا الشعورُ بحسَب الإيمان؛ حيث يزداد مع ازدياده، وينقص بنقصانه

2- أنَّ من حبِّهم للحياة الدنيا أنهم رَضُوا واطمئنُّوا بها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾ 

3- أنَّ الحياة الدنيا وبالرغم من أنَّها متاعٌ قليل زائل، وأنها لا تساوي شيئًا لقلَّة شأنها قياسًا بالآخرة، فإنها زُيِّـنت لهؤلاء الذين أحَبوها، قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾

وهذا التزيينُ يجعل مُحِبَّ الدنيا يراها غايةَ مناه، ومنتهى هواه، وعِزَّ طلبِه، قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ و َيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
قف أريدك لحظة 
🏻" ما مقدرا حبك للدنيا3 ؟
 أنَّ الحياةَ الدُّنيا تغرُّهم من شدَّة حُبِّهم لها، قال تعالى: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾

 شبَّههم القرآنُ الكريم بأنهم كمن يشتري شيئًا حقيرًا بثمنٍ غالٍ؛ فقد باعوا آخرتهم بدنياهم، فيا لها من صفقةٍ خاسـرةٍ! قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 86]،

 الذين يحبون الحياة الدنيا تبقى قلوبُهم متعلقة بها وبأهلها، فكلَّما رأوا عبدًا من عباد الله في نعمة تمنَّوا لو أنَّ لهم مِثلَها، ويرون أنَّ حظَّه في الدنيا أفضل منهم، قال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾

 ظاهر مَن يُحب الدنيا أنه مُنعَّم بما لديه من الأموال والأولاد والجاه، وأنه يعيش حياةً هنيئةً رغيدةً، والأمرُ عكس ذلك تمامًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ 

 أنه يحب العاجلة، قال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﴾ [القيامة: 20]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾

 وأما المؤمنون فلم يذكر القرآنُ أنهم يحبون الدنيا؛ لأنه حُبٌّ مُزيف؛ حب ليس بحقيقي ولا واقعي، ولكنهم ربما طلبوا بعضَ الأمور في الدنيا، التي تعينهم على العمل للآخرة،

 ومن شدَّة ما يحب غير المؤمنين شهوات الدنيا وملذاتها، فإنهم لا يحبون كلَّ من ينصحهم ويذكِّرهم بواجباتهم، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فمن ذلك أنهم لا يحبون الناصحين

 ويصف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الدنيا بقوله: ((ما لي وللدُّنيا، ما أنا والدُّنيا، إنما أنا والدنيا كَراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ ثُمَّ راحَ وتركها))[12].

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق