الثلاثاء، 17 مايو 2016

شرح العقيدة الطحاوية لعلي بن علي بن أبي العز الدمشقي




 شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الأولى 
 بسم الله الرحمن الرحيم .
حسبي الله ونعم الوكيل . 
الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع ، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: " الفقه الأكبر " وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، [ ص: 6 ]

 وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة، إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها ، بأسمائه وصفاته وأفعاله. ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه.
 شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثاني 
قوله:( نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله : إن الله واحد لا شريك له )
ش: اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل ، وأول منازل الطريق ، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل . قال تعالى: لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
 ( الأعراف : 59 ).

 وقال هود عليه السلام لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( الأعراف : 65 ).
وقال صالح عليه السلام لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( الأعراف : 73 ).
وقال شعيب عليه السلام لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( الأعراف : 85 ). وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ( النحل : 36 )

وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون  الأنبياء:25 ).
 وقال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل [ ص: 22 ] الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثالث 
قوله: ( ولاشيء مثله )  
ش: اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله . ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظا مجملا يراد به المعنى الصحيح ، وهو ما نفاه القرآن ودل عليه العقل ، من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات ، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته : ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 ) ، رد على الممثلة المشبهة وهو السميع البصير، رد على النفاة المعطلة، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق، فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق، فهو نظير النصارى في كفرهم. 

ويراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال: له قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات ! ولازم هذا القول أنه لا يقال له: حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذلك كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك .
 وهم يوافقون أهل السنة على أنه موجود، عليم قدير، حي. والمخلوق يقال له: موجود حي عليم قدير ، ولا يقال: هذا تشبيه يجب نفيه، وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل، ولا يخالف فيه [ ص: 58 ] عاقل، فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بها، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمي فسمى نفسه: حيا، عليما، قديرا، رؤوفا، رحيما، عزيزا، حكيما، سميعا، بصيرا، ملكا ، مؤمنا، جبارا، متكبرا .
وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقال: يخرج الحي من الميت ( الأنعام: 95، والروم: 19 ). وبشروه بغلام عليم ( الذاريات: 28 ).
 فبشرناه بغلام حليم ( الصافات: 101 ) بالمؤمنين رءوف رحيم ( التوبة: 128 ).
 فجعلناه سميعا بصيرا ( الدهر: 2 ) .
 قالت امرأة العزيز ( يوسف: 51 ).
وكان وراءهم ملك ( الكهف : 79 ).
أفمن كان مؤمن ( السجدة: 18 ).
 كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ( المؤمن: 35 ).
ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي، ولا العليم العليم، ولا العزيز العزيز، وكذلك سائر الأسماء.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الرابع 
قوله:( ولا شيء يعجزه )  
ش: لكمال قدرته.
قال تعالى: إن الله على كل شيء قدير ( البقرة : 20 ) .
 وكان الله على كل شيء مقتدرا ( الكهف : 45 ). وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ( فاطر : 44 ) .
 وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم ( البقرة : 255 ).
لا يؤوده أي : لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه. فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده،
كقوله تعالى : ولا يظلم ربك أحدا ( الكهف : 49 )، لكمال عدله.
 لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ( سبإ : 3 )، لكمال علمه.
 وقوله تعالى: وما مسنا من لغوب ( ق : 38 ) ، لكمال قدرته .
 لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) لكمال حياته وقيوميته .
لا تدركه الأبصار ( الأنعام : 103 ) ، لكمال جلاله وعظمته [ ص: 69 ] وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه ، ألا يرى أن قول الشاعر : 

قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله : قبيلة علم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم.

وقول الآخر: 
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد     ليسوا من الشر في شيء وإن هانا 
لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم ، علم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضا


شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الخامسة 
قوله:( ولا يكون إلا ما يريد )
ش: هذا رد لقول القدرية والمعتزلة ، فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم والكافر أراد الكفر . وقولهم فاسد مردود، لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة ، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى. 
[ ص: 79 ] وسموا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضا . والتسمية على الطائفة الأولى أغلب.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة السادسة 
قوله: ( لا تبلغه الأوهام ، ولا تدركه الأفهام ] ش : قال الله تعالى : ولا يحيطون به علما ( طه : 110 ).
 قال في الصحاح: توهمت الشيء: ظننته ، وفهمت الشيء: علمته.
 فمراد الشيخ رحمه الله: أنه لا ينتهي إليه وهم ، ولا يحيط به علم.
 قيل: الوهم ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به. 

والله تعالى لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض ( البقرة : 255 ).

هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( الحشر : 23 - 24 ) .


شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة السابعة: 
🏝🏝🏝
قوله : ( ولا يشبهه الأنام ) . 
ش : هذا رد لقول المشبهة ، الذين يشبهون الخالق بالمخلوق ، سبحانه [ ص: 85 ] وتعالى ، قال عز وجل : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( الشورى : 11 ) . وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر : لا يشبه شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه . ثم قال بعد ذلك : وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا . انتهى . 

وقال نعيم بن حماد : من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه . وقال إسحاق بن راهويه : من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم . وقال : علامة جهم وأصحابه ، دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب : أنهم مشبهة ، بل هم المعطلة .



شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثامنة: 
🏝🏝🏝
قوله : ( لا تبلغه الأوهام ، ولا تدركه الأفهام ] ش : قال الله تعالى : ولا يحيطون به علما ( طه : 110 ) . قال في الصحاح : توهمت الشيء : ظننته ، وفهمت الشيء : علمته . فمراد الشيخ رحمه الله : أنه لا ينتهي إليه وهم ، ولا يحيط به علم . قيل : الوهم ما يرجى كونه ، أي : يظن أنه على صفة كذا ، والفهم : هو ما يحصله العقل ويحيط به . والله تعالى لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى ، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته ، وهو أنه أحد ، صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض ( البقرة : 255 ) . هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( الحشر : 23 - 24 ) .


شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة التاسعة: 
قوله: ( ولا يشبهه الأنام ) 
ش: هذا رد لقول المشبهة، الذين يشبهون الخالق بالمخلوق، سبحانه [ ص: 85 ] وتعالى، قال عز وجل: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( الشورى: 11 ).
 وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه. ثم قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا. انتهى . 

وقال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم. وقال: علامة جهم وأصحابه، دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب: أنهم مشبهة، بل هم المعطلة.


شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة العاشرة: 
قوله: ( حي لا يموت قيوم لا ينام ) 
ش: قال تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 )، فنفي السنة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته 
وقال تعالى: الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق ( آل عمران: 1 - 3 ).
وقال تعالى: وعنت الوجوه للحي القيوم ( طه : 111 ).
 وقال تعالى: وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ( الفرقان : 58 ).
 وقال تعالى: هو الحي لا إله إلا هو.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، الحديث. 

لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه، أشار إلى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه، بما يتصف به تعالى دون خلقه: فمن ذلك: أنه حي لا يموت، لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى، دون خلقه ، فإنهم يموتون. [ ص: 90 ] ومنه: أنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة، دون خلقه، فإنهم ينامون. وفي ذلك إشارة إلى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف، بصفات الكمال ، لكمال ذاته. 

فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعا ولهوا ولعبا وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقال: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق: لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها ، هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها ، بخلاف حياة الرب تعالى. وكذلك سائر صفاته ، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به

و اعلم أن هذين الاسمين، أعني: الحي القيوم مذكوران في القرآن معا في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم ، فإنهما يتضمنان إثبات [ ص: 91 ] صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه ، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم. ويدل أيضا على كونه موجودا بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود . والقيوم أبلغ من القيام لأن الواو أقوى من الألف ، ويفيد قيامه بنفسه، باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه ؟ فيه قولان، أصحهما: أنه يفيد ذلك. وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه، لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول لا يأفل ، فإن الآفل قد زال قطعا، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، موصوفا بصفات الكمال . واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على بقائها ودوامها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلا وأبدا .
 ولهذا كان قوله: الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( البقرة: 255 ). أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.


شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الحادية عشر: 
قوله: ( خالق بلا حاجة ، رازق بلا مؤونة )
ش: قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين( الذاريات: 56 - 58 ).
 ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( فاطر: 15 ).
والله الغني وأنتم الفقراء ( محمد: 38 ). قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم ( الأنعام : 14 ).
وقال صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي ذر رضي الله عنه: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته - ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر الحديث. رواه مسلم . [ ص: 93 ] وقوله بلا مئونة: بلا ثقل ولا كلفة.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثانية عشر: 
قوله: ( مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة )
ش: الموت صفة وجودية، خلافا للفلاسفة ومن وافقهم.
 قال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ( الملك : 2 ) .
 والعدم لا يوصف بكونه مخلوقا.
وفي الحديث: أنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار.
 وهو وإن كان عرضا فالله تعالى يقلبه عينا، كما ورد في العمل الصالح: أنه [ ص: 94 ] يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة
 وورد في القرآن: أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون، الحديث أي قراءة القارئ وورد في الأعمال: أنها توضع في الميزان، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض. [ ص: 95 ]
وورد في سورة البقرة وآل عمران: أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف.
وفي الصحيح: أن أعمال العباد تصعد إلى السماء وسيأتي الكلام على البعث والنشور . إن شاء الله تعالى.
 
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثالثة عشر: 
قوله:( ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزليا، كذلك لا يزال عليها أبديا ).
ش: أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفا بصفات الكمال: صفات الذات وصفات الفعل. ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفا بها، لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفا بضده.
ولا يرد على هذه صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها، كالخلق والتصوير، والإماتة والإحياء، والقبض والبسط والطي، والاستواء والإتيان والمجيء، والنزول، والغضب والرضا، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه، لما سئل عن قوله تعالى: ثم استوى على العرش( الأعراف : 54 )
كيف استوى؟
فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
 وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت ، كما في حديث الشفاعة: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله.
لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، [ ص: 97 ] ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلما بالأمس لا يقال: إنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس، ثم تكلم يقال: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى متكلما بالقوة، بمعنى أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى متكلما بالفعل، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتبا في حال عدم مباشرته للكتابة.
 

شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الرابعة عشر:  
قوله:( ذلك بأنه على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
ش: ذلك إشارة إلى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه . والكلام على ( كل ) وشمولها وشمول كل
[ في كل ] مقام بحسب ما يحتف به من القرائن، يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى.

وقد حرفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: والله على كل شيء قدير ( البقرة : 284 ) ، فقالوا: إنه قادر على كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها عندهم، وتنازعوا: هل يقدر على مثلها أم لا ؟ ! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال: هو عالم بكل ما يعلمه، وخالق لكل ما يخلقه، ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها. فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء.

وأما أهل السنة، فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذ.
وأما المحال لذاته، مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما في حال واحدة، فهذه لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئا، باتفاق العقلاء.
ومن هذا الباب: خلق مثل نفسه، وإعدام نفسه وأمثال ذلك من المحال.

وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير.


شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الخامسة عشر:  
قوله:( خلق الخلق بعلمه ) 
ش: خلق: أي: أوجد وأنشأ وأبدع . ويأتي خلق أيضا بمعنى: قدر. والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق.
 وقوله: بعلمه في محل نصب على الحال، أي: خلقهم عالما بهم، قال تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( الملك : 14 ) 
وقال تعالى:[ ص: 125 ] وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ( الأنعام : 59 - 60 ). وفي ذلك رد على المعتزلة.

قال الإمام عبد العزيز المكي صاحب الإمام الشافعي رحمه الله وجليسه، في كتاب الحيدة، الذي حكى فيه مناظرته بشرا المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فقال بشر: أقول: لا يجهل، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم، تقريرا له، وبشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فقال الإمام عبد العزيز: نفي الجهل لا يكون صفة مدح، فإن [ قولي ]: هذه الأسطوانة لا تجهل [ ليس هو إثبات العلم لها ] وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم، لا بنفي الجهل.
فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه، وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه.

والدليل العقلي على علمه تعالى: أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع [ ص: 126 ] الجهل، ولأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد: هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزما للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالإيجاد مستلزم للعلم.
ولأن المخلوقات فيها من الأحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها، لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم، ولأن من المخلوقات ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالما.
وهذا له طريقان: أحدهما: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين، أحدهما عالم والآخر غير عالم - كان العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالما لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع. الثاني: أن يقال: كل علم في الممكنات، التي هي المخلوقات - فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عاريا منه بل هو أحق به.
والله تعالى له المثل الأعلى، ولا يستوي هو والمخلوقات، لا في قياس تمثيلي، ولا في قياس شمولي، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى. 
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة السادسة عشر:  
قوله:( وقدر لهم أقدارا ) .
ش: قال تعالى: وخلق كل شيء فقدره تقديرا ( الفرقان : 2 ) وقال تعالى: إنا كل شيء خلقناه بقدر ( القمر : 49 ) . وقال تعالى: وكان أمر الله قدرا مقدورا ( الأحزاب : 38 ).
 وقال تعالى: الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ( الأعلى : 2 - 3 ) . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 127 ] أنه قال: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء .

قوله: ( وضرب لهم آجالا )
ش: يعني: أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
قال تعالى: إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( يونس : 49 ).
وقال تعالى: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ( آل عمران : 145 ).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئا قبل أجله، ولن يؤخر شيئا عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار وعذاب في القبر - : كان خيرا وأفضل.

فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تعالى وقدر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل ، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق، وهذا بالغرق، إلى غير ذلك من الأسباب. والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة.

[ ص: 128 ] وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إلى أجله فكأن له أجلان وهذا باطل ، لأنه لا يليق أن ينسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلا يعلم أنه لا يعيش إليه البتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين ، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان على القاتل، لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور.
 وعلى هذا يخرج قوله صلى الله عليه وسلم: صلة الرحم تزيد في العمر أي: سبب طول [ ص: 129 ] العمر.
 وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إلى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية ، ولكن قدر هذا السبب وقضاه ، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا، كما قلنا في القتل وعدمه


شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة السابعة عشر:  
قوله:( ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم ، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم ) 
ش: فإنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ( الأنعام : 28 ).
وإن كان يعلم أنهم لا يردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا ، كما قال تعالى: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ( الأنفال : 23 ).
وفي ذلك رد على الرافضة والقدرية، والذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده.
وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى .

قوله:( وأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ) .
ش: ذكر الشيخ الأمر والنهي، بعد ذكره الخلق والقدر، إشارة [ ص: 133 ] إلى أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات : 56 )، وقال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ( الملك : 2 ).

شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثامنة عشر:  
قوله: ( وقدر لهم أقدارا )
ش: قال تعالى: وخلق كل شيء فقدره تقديرا ( الفرقان : 2 ) وقال تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر ( القمر : 49 ).وقال تعالى: وكان أمر الله قدرا مقدورا ( الأحزاب : 38 ).وقال تعالى: الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ( الأعلى : 2 - 3 ).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 127 ] أنه قال: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء .

قوله: ( وضرب لهم آجالا )
ش: يعني: أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق ، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.قال تعالى: إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( يونس : 49 ). وقال تعالى: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ( آل عمران : 145 ).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان ، وبأخي معاوية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة ، لن يعجل شيئا قبل أجله، ولن يؤخر شيئا عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار وعذاب في القبر -: كان خيرا وأفضل.

فالمقتول ميت بأجله ، فعلم الله تعالى وقدر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل ، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق ، وهذا بالغرق، إلى غير ذلك من الأسباب. والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة.

[ ص: 128 ] وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إلى أجله فكأن له أجلان وهذا باطل، لأنه لا يليق أن ينسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلا يعلم أنه لا يعيش إليه البتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان على القاتل، لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور. وعلى هذا يخرج قوله صلى الله عليه وسلم: صلة الرحم تزيد في العمر أي: سبب طول [ ص: 129 ] العمر. وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إلى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية ، ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا 

شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة التاسعة عشر:  
قوله: ( وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد، إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان ، وما لم يشأ لم يكن )
ش: قال تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ( الدهر : 30 ) وقال: وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ( التكوير : 23 ) . وقال تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ( الأنعام: 111 ). وقال تعالى: ولو شاء ربك ما فعلوه ( الأنعام : 112 ). وقال تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ( يونس : 99 ) وقال تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ( الأنعام : 125 ) . وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام إذ قال لقومه: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ( هود: 34 ). وقال تعالى: من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( الأنعام : 39 ). إلى غير ذلك من الأدلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكيف يكون في ملكه ما لا يشاء ! ومن أضل سبيلا وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر، والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله ! ! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. 

شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة العشرون:  
قوله:( يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي فضلا . ويضل من يشاء ، ويخذل ويبتلي عدلا
ش: هذا رد على المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله، وهي مسألة الهدى والضلال. قالت المعتزلة: الهدى من الله : بيان طريق الصواب، والإضلال: تسمية العبد ضالا، أو حكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه. وهذا مبني على أصلهم الفاسد: أن أفعال العباد مخلوقة لهم. والدليل على ما قلناه قوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( القصص : 56 ). ولو كان الهدى بيان الطريق - لما صح هذا النفي عن نبيه، لأنه صلى الله عليه وسلم بين الطريق لمن [ ص: 138 ] أحب وأبغض . وقوله تعالى: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ( السجدة : 13 ). يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ( المدثر : 31 ). ولو كان الهدى من الله البيان ، وهو عام في كل نفس - لما صح التقييد بالمشيئة. وكذلك قوله تعالى: ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ( الصافات : 57 ). وقوله من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( الأنعام : 39 ) .

قوله: ( وكلهم يتقلبون في مشيئته ، بين فضله وعدله ) 
ش: فإنهم كما قال تعالى: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( التغابن : 2 ). فمن هداه إلى الإيمان فبفضله، وله الحمد، ومن أضله فبعدله، وله الحمد. وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح، إن شاء الله تعالى، فإن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد، بل فرقه، فأتيت به على ترتيبه.

قوله: ( وهو متعال عن الأضداد والأنداد
ش: الضد : المخالف، والند: المثل. فهو سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا مثل له، كما قال تعالى: ولم يكن له كفوا أحد ( الإخلاص : 4 ). ويشير الشيخ رحمه الله - بنفي الضد والند - إلى الرد على المعتزلة ، في زعمهم أن العبد يخلق فعله.

قوله: ( لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا غالب لأمره ) 
ش: أي: لا يرد قضاء الله راد، ولا يعقب، أي لا يؤخر حكمه، مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل هو الله الواحد القهار.

[ ص: 139 ] قوله: ( آمنا بذلك كله ، وأيقنا أن كلا من عنده )
ش: أما الإيمان فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. والإيقان: الاستقرار، من يقن الماء في الحوض إذا استقر . والتنوين في ( كلا ) بدل الإضافة، أي: كل كائن محدث من عند الله، أي: بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وتكوينه. وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى


  
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الواحدة و العشرون:  
قوله: ( يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي فضلا . ويضل من يشاء ، ويخذل ويبتلي عدلا ) 
ش: هذا رد على المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله، وهي مسألة الهدى والضلال.
 قالت المعتزلة: الهدى من الله: بيان طريق الصواب، والإضلال: تسمية العبد ضالا، أو حكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه.
 وهذا مبني على أصلهم الفاسد: أن أفعال العباد مخلوقة لهم . والدليل على ما قلناه قوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( القصص: 56 ). ولو كان الهدى بيان الطريق - لما صح هذا النفي عن نبيه، لأنه صلى الله عليه وسلم بين الطريق لمن [ ص: 138 ] أحب وأبغض. وقوله تعالى: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ( السجدة: 13 ). يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ( المدثر: 31 ). ولو كان الهدى من الله البيان، وهو عام في كل نفس - لما صح التقييد بالمشيئة. وكذلك قوله تعالى: ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ( الصافات : 57 ). وقوله من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( الأنعام: 39 ).

قوله: ( وكلهم يتقلبون في مشيئته ، بين فضله وعدله )
ش: فإنهم كما قال تعالى: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( التغابن: 2 ). فمن هداه إلى الإيمان فبفضله، وله الحمد ، ومن أضله فبعدله ، وله الحمد. وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح ، إن شاء الله تعالى، فإن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد، بل فرقه ، فأتيت به على ترتيبه. 

قوله: ( وهو متعال عن الأضداد والأنداد ) 
ش: الضد: المخالف، والند: المثل . فهو سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا مثل له، كما قال تعالى: ولم يكن له كفوا أحد ( الإخلاص: 4 ). ويشير الشيخ رحمه الله - بنفي الضد والند - إلى الرد على المعتزلة، في زعمهم أن العبد يخلق فعله. 

قوله: ( لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا غالب لأمره )  
ش: أي: لا يرد قضاء الله راد، ولا يعقب، أي لا يؤخر حكمه، مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل هو الله الواحد القهار.[ ص: 139 ] 

 قوله: ( آمنا بذلك كله ، وأيقنا أن كلا من عنده )
ش: أما الإيمان فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. والإيقان: الاستقرار، من يقن الماء في الحوض إذا استقر. والتنوين في ( كلا ) بدل الإضافة، أي: كل كائن محدث من عند الله ، أي: بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وتكوينه. وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى .
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثانية و العشرون:  
قوله: ( وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى )
ش: الاصطفاء والاجتباء والارتضاء: متقارب المعنى. واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى. وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، وأن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق وأضلهم، قال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ( الأنبياء: 29 ). إلى غير ذلك من الآيات. وذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم باسم العبد في أشرف المقامات، فقال في ذكر الإسراء: سبحان الذي أسرى بعبده ( الإسراء : 1 ). وقال تعالى: وأنه لما قام عبد الله يدعوه ( الجن: 19 ). وقال تعالى: فأوحى إلى عبده ما أوحى ( النجم: 10 ). وقال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا 
( البقرة: 23 ). وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة. ولذلك يقول المسيح عليه السلام يوم القيامة، إذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر له ما [ ص: 140 ] تقدم من ذنبه وما تأخر. فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى. 

وقوله: وإن محمدا بكسر الهمزة، عطفا على قوله: إن الله واحد لا شريك له. لأن الكل معمول القول ، أعني: قوله ( نقول في توحيد الله ).

شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثالثة و العشرون:  
قوله: ( وحبيب رب العالمين ) 
ش: ثبت له صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة، وهي الخلة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. وقال: ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الرحمن. والحديثان في الصحيح وهما يبطلان [ ص: 165 ] قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه . وفي الصحيح أيضا: إني أبرأ إلى كل خليل من خلته . والمحبة قد ثبتت لغيره. قال تعالى: والله يحب المحسنين ( آل عمران: 134 ). فإن الله يحب المتقين ( آل عمران : 76 ). إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ( البقرة: 222 ). 

فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد، بل الخلة خاصة بهما ، والمحبة عامة. وحديث ابن عباس رضي الله عنهم الذي رواه الترمذي الذي فيه: إن إبراهيم خليل الله، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر : لم يثبت.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الرابعة و العشرون:  
قوله:( وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى )
ش: لما ثبت أنه خاتم النبيين، علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب. ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول: هذا لا يتصور أن يوجد ، وهو من باب فرض المحال، لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين، فمن المحال أن يأتي مدع يدعي النبوة ولا يظهر إمارة كذبه في دعواه. والغي : ضد الرشاد . والهوى: عبارة عن شهوة النفس. أي: أن تلك الدعوى بسبب هوى النفس، لا عن دليل، فتكون باطلة.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الخامسة و العشرون:  
قوله:( وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى ، بالحق والهدى ، وبالنور والضياء ). 
ش: أما كونه مبعوثا إلى عامة الجن، فقال تعالى حكاية عن قول الجن: ياقومنا أجيبوا داعي الله
( الأحقاف: 31 )، الآية. وكذا [ ص: 168 ] سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضا. قال مقاتل : لم يبعث الله رسولا إلى الإنس والجن قبله. وهذا قول بعيد. فقد قال تعالى: يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ( الأنعام : 130 ) الآية، والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ( الأحقاف: 30 ) الآية: يدل على أن موسى مرسل إليهم أيضا. والله أعلم. 

وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلا ، واحتج بهذه الآية الكريمة. وفي الاستدلال بها على ذلك نظر لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( الرحمن: 22 ) والمراد: من أحدهما. 

[ ص: 169 ] وأما كونه مبعوثا إلى كافة الورى، فقد قال: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ( سبإ: 28 ). وقد قال تعالى: قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ( الأعراف: 128 ). وقال تعالى: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ( الأنعام : 19 ). أي: وأنذر من بلغه. وقال تعالى: وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ( النساء: 39 ) وقال تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ( يونس: 2 )، الآية. وقال تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ( الفرقان: 1 ). وقد قال تعالى: وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ( آل عمران: 20 ). وقال صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه [ خاصة ] وبعثت إلى الناس عامة، أخرجاه في الصحيحين. 

[ ص: 170 ] وقال صلى الله عليه وسلم: لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار، رواه مسلم. وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة. 

وأما قول بعض النصارى أنه رسول إلى العرب خاصة: فظاهر البطلان، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال أنه رسول الله إلى الناس عامة، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتما، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف، يدعو إلى الإسلام.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة السادسة و العشرون:  
قوله: و ( وإن القرآن كلام الله ، منه بدا بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر ، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى: سأصليه سقر ( المدثر : 26 ) - فلما أوعد الله بسقر لمن قال: إن هذا إلا قول البشر ( المدثر : 25 ) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر ). 
ش: هذه قاعدة شريفة ، وأصل كبير من أصول الدين، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس. وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة.


شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة السابعة و العشرون:  
قوله: ( ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر. من أبصر هذا اعتبر. وعن مثل قول الكفار انزجر. وعلم أن الله بصفاته ليس كالبشر )
ش: لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة، منه بدا، نبه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر، نفيا للتشبيه عقيب الإثبات، يعني أن الله تعالى وإن وصف بأنه متكلم، لكن لا يوصف بمعنى من [ ص: 207 ] معاني البشر التي يكون الإنسان بها متكلما، فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل، باللبن الخالص السائغ للشاربين ، يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه. والمعطل يعبد عدما، والمشبه يعبد صنما. وسيأتي في كلام الشيخ،( ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه ). وكذا قوله:( وهو بين التشبيه والتعطيل) أي: دين الإسلام، ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه، بما سأذكره إن شاء الله تعالى . وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها، بل صفات الخالق كما يليق به ، وصفات المخلوق كما يليق به. 

وقوله: (  فمن أبصر هذا اعتبر ). أي : من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف ونفي التشبيه ووعيد المشبه اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار .
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثامنة و العشرون:  
قوله: ( ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر ، فقد كفر . من أبصر هذا اعتبر . وعن مثل قول الكفار انزجر . وعلم أن الله بصفاته ليس كالبشر )
ش: لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة، منه بدا، نبه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر، نفيا للتشبيه عقيب الإثبات، يعني أن الله تعالى وإن وصف بأنه متكلم، لكن لا يوصف بمعنى من [ ص: 207 ] معاني البشر التي يكون الإنسان بها متكلما، فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل، باللبن الخالص السائغ للشاربين، يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه. والمعطل يعبد عدما، والمشبه يعبد صنما. وسيأتي في كلام الشيخ،( ومن لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه ). وكذا قوله: ( وهو بين التشبيه والتعطيل ) أي: دين الإسلام، ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه ، بما سأذكره إن شاء الله تعالى. وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها ، بل صفات الخالق كما يليق به ، وصفات المخلوق كما يليق به. 

وقوله:( فمن أبصر هذا اعتبر ). أي: من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف ونفي التشبيه ووعيد المشبه اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة التاسعة و العشرون:  
قوله: ( والرؤية حق لأهل الجنة ، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( القيامة : 22 - 23 ) وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه ). 

ش: المخالف في الرؤية: الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية. وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة. وقد قال بثبوت الرؤية [ ص: 208 ] الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة. 

وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها ، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودون. 

وقد ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( القيامة : 22 - 23 ). وهي من أظهر الأدلة. وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلا، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب، أسهل من تأويلها على أرباب التأويل. ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثلاثون: 
ص: 231 ] قوله : ( ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام )
ش: هذا من باب الاستعارة، إذ القدم الحسي لا تثبت إلا على ظهر شيء. أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه. روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم . وهذا كلام جامع نافع. 

وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالما ، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسولا، فإذا عرف العامي المقلد عالما، فدل عليه عاميا آخر. ثم اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي، دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي، لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت ، فلزم القدح في فرعه ! فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له [ ص: 232 ] بأنه مفت، ودللت عليه ، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين، لا تستلزم موافقتك في كل مسألة ، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ. 

والعاقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره، وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان قدحا في ما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه، لا نتلقى منه هديا ولا علما، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنا بما جاء به الرسول، ولم يرض منه الرسول بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوساوس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به ! ! وقد قال تعالى: وما على الرسول إلا البلاغ ( النور : 54 ). وقال: فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( النحل : 35 ). وقال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ( إبراهيم: 4 ). قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( المائدة : 15 ). حم والكتاب المبين ( الدخان: 1 - 2، والزخرف: 1 - 22 ) . تلك آيات الكتاب المبين ( يوسف : 2 ) . ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( يوسف : 111 ). [ ص: 233 ] ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ( النحل : 89 ). ونظائر ذلك كثيرة في القرآن . 

فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أم لا ؟ الثاني باطل ، وإن كان قد تكلم على الحق بألفاظ مجملة محتملة، فما بلغ البلاغ المبين، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين، فقد افترى عليه صلى الله عليه وسلم.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الواحدة و الثلاثون: 
قوله: ( فيتذبذب بين الكفر والإيمان ، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسا تائها، شاكا زائغا ، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا ) .
ش: يتذبذب: يضطرب ويتردد. وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام [ ص: 243 ] المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة ، فيئول أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد، وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم، في كتابه ( ( تهافت التهافت ) ): ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به ؟. وكذلك الآمدي، أفضل أهل زمانه، واقف في المسائل الكبار حائر . وكذلك الغزالي رحمه الله، انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات [ ص: 244 ] والبخاري على صدره. وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات : 

نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال     وأرواحنا في وحشة من جسومنا 
وحاصل دنيانا أذى ووبال     ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا 
سوى أن جمعنا فيه : قيل وقالوا     فكم ند رأينا من رجال ودولة 
فبادوا جميعا مسرعين وزالوا     وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال 
، فزالوا والجبال جبال
 لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: الرحمن على العرش استوى ( طه : 5 ). إليه يصعد الكلم الطيب ( فاطر : 10 ). واقرأ في النفي: ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 ) ولا يحيطون به علما ( طه : 110 ). ثم قال: ( ( ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ) ). 

وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال: 
[ ص: 245 ] 
لعمري لقد طفت المعاهد كلها     وسيرت طرفي بين تلك المعالم 
فلم أر إلا واضعا كف حائر     على ذقن أو قارعا سن نادم
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثانية و الثلاثون: 
الموضوعي
[ ص: 249 ] قوله:( ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم ، إذ كان تأويل الرؤية - وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية - ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين، ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه )

ش: يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية ، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، الحديث: أدخل ( كاف) التشبيه على (ما) المصدرية أو الموصولة بـ " ترون " التي تنحل مع صلتها إلى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي . وهذا بين واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها، ودفع الاحتمالات عنها. وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح ؟ ! فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص، كيف يستدل بنص من النصوص ؟ ! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر ؟ ! ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( الفيل: 1 ). ونحو ذلك مما استعمل فيه ( رأى) التي من أفعال القلوب ! ! ولا شك أن رأى تارة تكون بصرية ، وتارة تكون قلبية ، وتارة تكون من رؤيا الحلم، وغير ذلك ، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلص أحد معانيه من الباقي . وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني لكان [ ص: 250 ] مجملا ملغزا، لا مبينا موضحا . وأي بيان وقرينة فوق قوله: ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب ؟ فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر، أو برؤية القلب ؟ وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه ؟ فإن قالوا: ألجأنا إلى هذا التأويل، حكم العقل بأن رؤيته تعالى محال لا يتصور إمكانها ! فالجواب: أن هذه دعوى منكم ، خالفكم فيها أكثر العقلاء، وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال. 

وقوله:( لمن اعتبرها منهم بوهم )، أي توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا، فيتوهم تشبيها، ثم بعد هذا التوهم - إن أثبت ما توهمه من الوصف - فهو مشبه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم - فهو جاحد معطل . بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده، ولا يعم بنفيه الحق والباطل، فينفيهما ردا على من أثبت الباطل ، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق. 

وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله بقوله: ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي ! وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال؟ فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال، إذ المعدوم لا يرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة، كما في [ ص: 251 ] العلم، فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علما. فهو سبحانه لا يحاط به رؤية، كما لا يحاط به علما.

شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الثالثة و الثلاثون: 
قوله: ( ومن لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه )  
ش: النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب، فإن أمراض القلوب نوعان: مرض شبهة، ومرض شهوة ، وكلاهما مذكور في القرآن، قال تعالى: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ( الأحزاب: 32 ). فهذا مرض الشهوة، وقال تعالى: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ( البقرة: 10 ). وقال تعالى: وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ( التوبة: 125 ). فهذا مرض الشبهة، وهو أردأ من مرض الشهوة، إذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة ، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته. 

[ ص: 259 ] والشبهة التي في مسألة الصفات نفيها وتشبيهها، وشبهة النفي أردأ من شبهة التشبيه ، فإن شبهة النفي رد وتكذيب لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشبهة التشبيه غلو ومجاوزة للحد فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وتشبيه الله بخلقه كفر فإن الله تعالى يقول: ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 )، ونفي الصفات كفر، فإن الله تعالى يقول: وهو السميع البصير ( الشورى : 11 ). وهذا أحد نوعي التشبيه، فإن التشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق ، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في رده وإبطاله، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني، الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق، كعباد المسيح، وعزير، والشمس والقمر، والأصنام، والملائكة، والنار، والماء ، والعجل، والقبور، والجن، وغير ذلك. وهؤلاء هم الذين أرسلت لهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الرابعة و الثلاثون: 
قوله: ( فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية )
ش: يشير الشيخ رحمه الله إلى تنزيه الرب تعالى بالذي هو وصفه كما وصف نفسه نفيا وإثباتا. وكلام الشيخ مأخوذ من معنى سورة الإخلاص. فقوله: موصوف بصفات الوحدانية مأخوذ من قوله تعالى: قل هو الله أحد. وقوله: منعوت بنعوت الفردانية، من قوله تعالى: الله الصمد لم يلد ولم يولد . وقوله: ليس في معناه أحد من البرية من قوله تعالى: ولم يكن له كفوا أحد. وهو أيضا مؤكد لما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه. والوصف والنعت مترادفان ، [ ص: 260 ] وقيل: متقاربان. فالوصف للذات، والنعت للفعل، وكذلك الوحدانية والفردانية. وقيل في الفرق بينهما: إن الوحدانية للذات، والفردانية للصفات، فهو تعالى متوحد في ذاته، متفرد بصفاته. وهذا المعنى حق ولم ينازع فيه أحد، ولكن في اللفظ نوع تكرير. وللشيخ نظير هذا التكرير في مواضع من العقيدة، وهو بالخطب والأدعية أشبه منه بالعقائد، والتسجيع بالخطب أليق. و ليس كمثله شيء ( الشورى: 11 ) . أكمل في التنزيه من قوله: ليس في معناه أحد من البرية.

شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة الخامسة و الثلاثون: 
قوله:( وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ). 
ش: أذكر بين يدي الكلام على عبارة الشيخ رحمه الله مقدمة، وهي: أن الناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: فطائفة تنفيها ، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل، وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا بين ما أثبت بها فهو ثابت، وما نفي بها فهو منفي. لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي. ولهذا كان النفاة ينفون بها حقا وباطلا، ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلا، مخالفا لقول السلف، ولما دل عليه الكتاب والميزان. ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها، وليس لنا أن [ ص: 261 ] نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفيا ولا إثباتا، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون. 

فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني. وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كان معنى صحيحا قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، دون الألفاظ المجملة، إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها، ونحو ذلك. 

والشيخ رحمه الله أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة، كداود الجواربي وأمثاله القائلين: إن الله جسم، وإنه جثة وأعضاء وغير ذلك، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. [ ص: 262 ] فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق، لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقا وباطلا، فيحتاج إلى بيان ذلك. وهو: أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حدا، وأنهم لا يحدون شيئا من صفاته.
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة السادس و الثلاثون: 
قوله: ( والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة، إلى السماء. ثم إلى حيث شاء الله من العلا وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى. فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى )
ش: ( المعراج ): مفعالذ، من العروج ، أي الآلة التي يعرج فيها، أي يصعد ، وهو بمنزلة السلم، لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته. 

وقوله: وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة - اختلف الناس في الإسراء. 

فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، نقله ابن إسحاق [ ص: 271 ] عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه . لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناما، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم. فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناما، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء، وذهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال. فما أراد أن الإسراء مناما، وإنما أراد أن الروح ذاتها أسري بها، ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت. 

وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة، ومرة مناما. وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: ( ثم استيقظت )وبين سائر الروايات. [ ص: 272 ] وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين، مرة قبل الوحي، ومرة بعده. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحي، ومرتين بعده. وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة، للتوفيق! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة، بعد البعثة ، قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين ، ذكره ابن عبد البر.قال شمس الدين ابن القيم: يا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير [ ص: 273 ] خمسا، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها إلى خمس؟ ! وقد غلط الحفاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال : فقدم وأخر وزاد ونقص. ولم يسرد الحديث. وأجاد رحمه الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله .
شرح العقيدة الطحاوية 
الحلقة السابعة و الثلاثون: 
قوله: ( والحوض - الذي أكرمه الله تعالى به غياثا لأمته - حق ). 
ش: الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابيا، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير، تغمده الله برحمته، في آخر تاريخه الكبير ، المسمى ب " البداية والنهاية ". 

[ ص: 278 ] فمنها: ما رواه البخاري رحمه الله تعالى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء. وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليردن علي ناس من أصحابي، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصيحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك. رواه مسلم. 

[ ص: 279 ] وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك، قال: أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاة، فرفع رأسه مبتسما، إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر، حتى ختمها، ثم قال لهم: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم ، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. ورواه مسلم، ولفظه: هو نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، والباقي مثله. 

ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض، والحوض في العرصات قبل الصراط، لأنه يختلج عنه ، ويمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط. وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله [ ص: 280 ] عنه، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا فرطكم على الحوض . والفرط : الذي يسبق إلى الماء. 

وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم. قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش[ وأنا أحدثهم هذا ] فقال: هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت: نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد: فأقول: إنهم من أمتي فقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فقال: سحقا سحقا لمن غير بعدي. سحقا: أي بعدا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق