نبذة عن الشيخ
معالي الشيخ الدكتور يوسف بن محمد بن علي
الغفيص من مواليد 1391 هـ،
عضو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء سابقا،
والمدرس بالمعهد العالي للقضاء
والدراسات العليا في جامعة الإمام محمد
بن سعود الإسلامية.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [1]
الدرس الأول :
لمعة الاعتقاد للإمام ابن قدامة المقدسي
رحمه الله من الرسائل المهمة في تحقيق عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد بدأها المصنف
بمقدمة قرر فيها مسألة الربوبية، ثم ذكر عقيدة أهل السنة في صفات الله تعالى، مستدلاًعلى
ذلك بجملة من الآيات والأحاديث الدالة على إثبات الصفات، وقد ذكر هذه المسألة لكثرة
المخالفين لأهل السنة فيها، من جهمية، ومعتزلة، وأشعرية، وماتريدية، ونحوهم من الفرق
الضالة. ثم ذكر رحمه الله عقيدة أهل السنة في مسائل الاعتقاد الأخرى؛ كالقضاء والقدر،
والإيمان، واليوم الآخر، وأشراط الساعة، وغيرها من المسائل.
الدرس الثاني :
ما هي هذه الرسالة ؟
وأما هذه الرسالة -وهي اللمعة في الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد- فهي رسالة فاضلة،
جامعة لجملة من مسائل أصول الدين التي تنازع فيها أهل القبلة، وإذا ذكر أهل القبلة فالمراد بهم: سواد المسلمين من أهل السنة وغيرهم.
وقد ذكر فيها المؤلف رحمه الله في رسالته هذه جملة من مسائل أصول الدين على طريقة مقاربة لطريقة الأئمة السالفين، حيث ذكر جملاً من أقوال السلف والأئمة، فضلاً عما يذكره من الدلائل الشرعية من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ما هو منهج ابن تيمية في العقيدة الواسطية ؟
والرسالة الواسطية المعروفة لـ شيخ الإسلام ابن تيمية قد وضعها الإمام ابن تيمية،
على محاكاة هذه الرسالة للموفق، وإن كان شيخ الإسلام قد استظهر فيها أكثر في باب الاستدلال بالنصوص، وزاد عليها جملاً وأصولاً، كمسألة العلو والقدر فإنه أطال فيهما وفصل أكثر من الموفق رحمه الله.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
الدرس الثالث :
شرح مقدمة لمعة الاعتقاد
قال الموفق رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:5 - 8]، أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110]].
الدرس الرابع /
مواضع الاتفاق والافتراق بين طوائف المسلمين في مسائل الاعتقاد
لقد بدأ المصنف بذكر مسألة الصفات، وهي فرع عن مسألة الربوبية؛ لأهميتها وحصول النزاع فيها،
ولهذا فإن العلماء يقولون: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات،
رغم أن توحيد الأسماء والصفات هو من جملة توحيد الربوبية، والذي درج عليه كثير من أهل العلم قبل ذكر هذا التقسيم، أنهم يقسمون التوحيد إلى: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، ويجعلون توحيد المعرفة هو توحيد الربوبية، وباب الأسماء والصفات متضمن له.
وسواء قسموا التوحيد إلى قسمين أو إلى ثلاثة أقسام، فهذا كله اصطلاح لا مشاحة فيه،
إذا صحت المعاني واتفقت، فمثل هذه المصطلحات ليست من السنة اللازمة التي يجب على جميع المسلمين الالتزام بها،
وإنما الذي يجب على المسلمين أن يلتزموا به هو: تحقيق التوحيد.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [2]
الدرس الخامس /
عقيدة أهل السنة في صفات الباري جل وعلا
تعتبر من أخص أصولهم، فهم يؤمنون بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مخالفين في ذلك مسلك المعطلة الذين عطلوا صفات الله وتأولوها على معان مجازية، ومخالفين -ثانياً- مسلك المشبهة الذين يشبهون صفات الله بصفات خلقه، ومخالفين -ثالثاً- مسلك المفوضة الذين يقولون بالعمل بالألفاظ مع السكوت عن معانيها.
عقيدة أهل السنة في صفات الباري سبحانه وتعالى
قال الموفق رحمه الله: [موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم].
أي أن الله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولهذا كان من أخص أصول أهل السنة والجماعة في هذا الباب هو: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام أحمد: «نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث».
وأحياناً يقع إشكال لدى بعض طلبة العلم في بداية الطلب؛ فإنهم تارة يقولون: يوصف الله بما وصف به نفسه في كتابه أو سنة نبيه، وتارة يقولون: الكتاب والسنة والإجماع.لسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شرح لمعة الاعتقاد [2]
الدرس السادس / تابع شرح أسماء الله الحسنى .
وقد جاءت صفات الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة بالنفي والإثبات؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]
فهذا نفي ..
{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وهذا إثبات، ومن قواعد باب الأسماء والصفات: أن الله موصوف بالنفي والإثبات.
فإن قيل: ما الفرق بين المقامين؟
قيل: مقام الإثبات أصل ذكره في القرآن والحديث على التفصيل، وأما مقام النفي فإن الأصل في ذكره الإجمال، ولهذا فإن الله تعالى فصل ذكر الأسماء والصفات، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في القرآن في هذا الباب إثبات مجمل، ونفي مفصل، لكننا نقول: إن الأصل في النفي هو الإجمال ..
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإنما أُجمل النفي كهذا الحرف من كتاب الله؛ لأنه أبلغ في تحقيق الكمال والتنزيه من المفصل،
فإن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: ليس كمثله شيء موجود أو متخيل أو مفروض في الذهن، تعالى سبحانه وتعالى عن كل شيء، فهذا عموم تام في النفي.
شرح لمعة الاعتقاد [2]
الدرس السابع
استخلص العلماء قاعدة وهي: (أن كل إثبات يتضمن نفي ضده) وهذه قاعدة مطردة؛ لأن المتقابلين
ولهذا إذا قال قائل: لِمَ لَمْ يذكر الرب سبحانه وتعالى في كتابه تنزهه عن الجهل وغيره من صفات النقص؟
قيل: هذا مذكور على طريقة من التمام والبلاغة، وهو أنه ذكر إثبات المقابل،
فعلم أن ضده يلزم أن يكون منفياً عنه، ومبايناً له سبحانه وتعالى.
إذاً: نخلص إلى قاعدة وهي: أن باب الأسماء والصفات باب توقيفي، وأنه متحصل بالإثبات والنفي على القاعدة السالفة.
طريقة أهل السنة في إثبات الصفات
قال الموفق رحمه الله: [وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل].
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [2]
الدرس الثامن
هل المتواتر يفيد العلم، والآحاد لا يفيد إلا الظن؟
الجواب: هذه مسألة نظرية، وفيها تفصيل وخلاف، ذكره ابن حزم وابن تيمية وجماعة، ولكن الذي يصح أن يقال عنه: إنه متواتر
-وهو مراد الشافعي وأمثاله من المتقدمين- هو ما اتفق المحدثون عليه،
أو استفاض ذكره في السنة، واستقر قبوله عند أهل العلم؛ فهذا كله يسمى متواتراً،
كحديث جبريل، فإنه حديث تُلقي بالقبول، وكحديث: (إنما الأعمال بالنيات ...)،
فإنه غريب في مبدئه، وإن كانت الأمة قد تلقته بالقبول، وأجمع المحدثون على ثبوته.
فما استفاض ذكره من النصوص، وتوارد القبول عليه عند أئمة أهل الحديث، فهذا يسمى: متواتراً، وهذه التسمية -بهذا الاعتبار وعلى هذا التعريف- مناسبة للشرع واللغة والعقل،
وأما النظرية التي وضعها المتكلمون، ودخلت على بعض المتأخرين، فهي نظرية باطلة،
لا يمكن أن يعتبر بها شيء؛ لأن محصلها ترك الاحتجاج بالسنة في مسائل العقائد، وهذا هو مذهب الغلاة من أهل البدع.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [2]
الدرس التاسع:
وجوب الإيمان بنصوص الكتاب والسنة
قوله رحمه الله: «وجب الإيمان به» أي: بما جاء في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، الإيمان بهذه النصوص وما دلت عليه، والإيمان: هو التصديق والقبول المستلزم للعمل، أو المتضمن للأعمال، وهذا هو معنى الإيمان الشرعي، وليس مجرد المعرفة فقط، فإن المعرفة تقع من غير المسلمين؛
فقد قال الله تعالى حاكياً عن اليهود: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وإن سمَّى الله سبحانه وتعالى اتِّباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام علماً ومعرفة، إلا أن الغالب -وهو الأصل- أن هذا يسمَّى إيماناً؛ فالإيمان إن لم يكن متضمناً للأعمال الظاهرة والباطنة، فإنه مستلزم لها؛ إذا ما قيل: إن الإيمان من جهة أصله يسمَّى التصديق.
ولهذا فإن السلف رحمهم الله لما عرفوا الإيمان قالوا: هو قول وعمل، وهذا لازم من جهة الشرع، ومن جهة الدلائل فإنه لا يكون مؤمناً بمحض التصور الذي هو المعرفة فقط، بل ولا بد أن ينقاد القلب، ويحصل بذلك أثر على الظاهر.
قوله رحمه الله: «وتلقيه بالتسليم والقبول» أي: لا يتعرض لتأويله، ففي إشارة إلى الرد على من اشتغل بتأويل نصوص الأسماء والصفات، فإن هذا نوع من ترك التسليم والقبول، ولهذا قال: «وترك التعرض له بالرد» وكأنه أشار بمسألة الرد إلى طعن خلق من المتكلمين فيما يسمونه من الأحاديث آحاداً، وإلا فليس من المسلمين من رد شيئاً من كلام الله أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم أو طعن فيه؛ إذا بان له أنه صح عنه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا الرد لا يكون إلا كفراً وزندقة وخروجاً من الملة.
شرح لمعة الاعتقاد [2]
الدرس العاشر:
التأويل في اصطلاح المتكلمين
قوله رحمه الله: «والتأويل» أي: ترك التأويل له، والتأويل: لفظ مجمل ذكر في الكتاب والسنة على معنى الحقيقة، وذكر على معنى التفسير، وأما التأويل الذي قصد المصنف إلى إبطاله، فهو: ما اصطلح المتكلمون عليه، من صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة، أو صرف اللفظ عن ظاهره إلى مؤوله لقرينة أو صارف ..وهذا هو التأويل في اصطلاح المتكلمين.
ولفظ التأويل الذي ذكر في الكتاب والسنة على غير هذا المعنى، بل على معنى الحقيقة، كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53] أي: حقيقته، أو يراد بالتأويل التفسير، كقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] في حالة الوقف على كلمة (العلم)، ومنه قول ابن جرير وأمثاله: (القول في تأويل قوله تعالى).
ومنه قول الإمام أحمد: (ويتأولون القرآن على غير تأويله).
وقالت عائشة رضي الله عنها -كما في الصحيحين-: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن)، وقال سفيان بن عيينة: (السنة تأويل الأمر والنهي)، أي: تحقيقها.
فالتأويل على المعنى الشرعي: إما الحقيقة، وإما التفسير للكلام.
وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة فهو تعريف المتكلمين، وهو مبني على مسألة الحقيقة والمجاز.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [3]
الدرس الحادي عشر
عقيدة أهل السنة في صفات الله: أن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويعتقدون أن آيات الصفات آيات محكمة يجب الإيمان بما دلت عليه من الصفات، وأنها صفات حقيقية لله تعالى تليق بجلاله سبحانه، ويثبتون ما دلت عليه من المعاني اللائقة بالله تعالى، وعليه فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الصفات فقد أخطأ عليهم، إنما كانوا يفوضون كيفية الصفات لا معانيها.
هل آيات الصفات من المحكم أو المتشابه؟
قال الموفق رحمه الله: [اتباعاً لطريقة الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]].
ألحق المصنف بعد ذلك ذكر ما يتعلق بالمحكم والمتشابه، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن القرآن كله محكم، وذكر أنه متشابه، وذكر أن منه آيات محكمات وأخر متشابهات.
فأما إحكامه العام فهو ضبطه واستقامة معناه، وأنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأما تشابهه العام، فالمراد به أن بعض القرآن يُصدِّق بعضاً ويشبه بعضاً، كما تقول: هذه المسائل أشباه؛ لما بينها من التوافق والاشتراك.
شرح لمعة الاعتقاد [3]
الدرس الثاني عشر
هل آيات الصفات من المحكم أو المتشابه؟
وأما المحكم الخاص والمتشابه الخاص المذكوران في سورة آل عمران في الآيات التي ذكرها المصنف هنا، فهما محل خلاف بين المفسرين.
مسألة: هناك جملة من المتكلمين اعتبروا آيات الصفات هي المتشابه، ومنهم -وهم قلة من المتكلمين- من جعل آيات الصفات من المتشابه، وفرق بين الطريقتين، فأما من قصر التشابه على آيات الصفات فهم المتكلمون من أهل البدع،
وأما من قال: إن آيات الصفات من المتشابه، فكلامه أيضاً لا أصل له، فآيات الصفات لا يجوز أن تُعد من المتشابه، وابن قدامة هنا وَهِمَ رحمه الله، لكن هذا الوهم ليس عقدياً، وإنما هو وهم تفسيري؛ لأنه لم يجعله مطرداً في سائر الصفات، إنما يقول: إن المشكل يكون متشابهاً فقط، والمتشابه يجب تفويضه إلى الله اعتماداً على هذه الآية.
والصحيح أن آيات الصفات من المحكم، وليست من المتشابه، وإنما المتشابه ما أشكل أو تردد معناه، وعليه فقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] إذا كان الوقف على ذلك، فإن المتشابه: هو ما يمكن طائفة من أهل العلم فهمه، ويكون من جنس قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان: (الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس).
شرح لمعة الاعتقاد [3]
الدرس الثالث عشر
هل آيات الصفات من المحكم أو المتشابه؟
وأما إذا كان الوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] وقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ابتداء جملة خبرها: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] فإن المتشابه حينئذٍ يراد به: الحقائق الغيبية التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها، كحقيقة العذاب والنعيم، وكحقائق كيفية صفاته سبحانه وتعالى، فهذه لا يعلمها إلا الله، وهي شيء مجهول للمخاطبين.
ثم قال المصنف رحمه الله: [وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] فجعل ابتغاء التأويل علامةً على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمَّلوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7]].
لم يقصد المصنف بهذا الكلام أن سائر آيات الصفات هي من المتشابه الذي يفوض عن معناه، والدليل على أنه لم يرد ذلك: أنه فصَّل في رسالته هذه -كما فصل في غيرها- ذكر الأسماء والصفات ومعانيها
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [3]
الدرس الرابع عشر
هل آيات الصفات من المحكم أو المتشابه؟
وما إلى ذلك، ولهذا لما ذكر الإمام ابن تيمية الحنابلة قال: "إنهم ثلاثة أقسام:
قسم يميل إلى شيء من طرق المتكلمين كبعض التميميين كـ ابن عقيل وأمثاله.
وقسم يبالغون في الإثبات ويزيدون فيه، كـ أبي عبد الله بن حامد ".
ثم قال: "وقسم من أصحابنا محققون لطريقة الأئمة كـ أحمد وغيره، وطريقته هي طريقة أهل الحديث المحضة؛ كالشيخ أبي محمد "، ويقصد بالشيخ أبي محمد الموفق ابن قدامة صاحب هذه الرسالة، فحكم شيخ الإسلام عليه حكم عادل، ولهذا لو كان الموفق مفوضاً لما فات شيخ الإسلام ذلك، ولا سيما أن هذه الرسالة: "اللمعة" قد وضع ابن تيمية نفسه رسالته "الواسطية" على نسجها،
ومن يتأمل رسالة الموفق ورسالة الإمام ابن تيمية، يجد تشابهاً بيناً بين الرسالتين، حتى أنه كرر بعض الأحرف، ورتب بعض المسائل على نفس المنوال.
وكذلك العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، فإنه بعدما علّق على قول ابن قدامة: "وجب إثباته لفظاً" قال:"
والمصنف رحمه الله إمام في السنة، وهو أبعد الناس عن مذهب المفوضة وغيرهم من المبتدعة، والله أعلم".اهـ.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [3]
الدرس الخامس عشر
عقيدة الإمام أحمد في آيات الصفات
ثم قال المصنف رحمه الله: [قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)، وإن الله يرى في القيامة، وما أشبه هذه الأحاديث: نؤمن بها ونصدق بها لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم].
هذا الكلام نسبه الموفق للإمام أحمد رحمه الله، وإن ما ينسبه الحنابلة -أو غيرهم ممن ينسبون إلى أئمتهم هذا الكلام أو مثله- يكون على وجهين: فتارة يكون الكلام نصاً، وتارة يكون الكلام فهماً، وفي مذهب الإمام أحمد خاصة إشكال في نقل أصحابه عنه في العقيدة، وهذا الإشكال مُحصَّله أن جملة من الحنابلة فهموا مذهب الإمام أحمد في الصفات على حسب علمهم ومداركهم،
ثم صار بعضهم يلخص فهمه وينقله على أنه من قول الإمام أحمد، ومن هؤلاء -كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية - أبو الحسن التميمي من الحنابلة؛ فقد صنَّف كتاباً في عقيدة الإمام أحمد، وجعل هذا الكتاب على لسان الإمام أحمد، فجعل يقول: وكان أبو عبد الله يقول ..
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [3]
الدرس السادس عشر
عقيدة الإمام أحمد في آيات الصفات
ثم يأتي بجمل من فهمه هو، ويقول: وكان أبو عبد الله يذهب إلى كذا وكذا مما يراه هو، ولم ينقل ذلك بالرواية عن كبار أصحاب أحمد: كـ حنبل وعبد الله وصالح وأمثال هؤلاء، إنما هو فقه فقهه التميمي، فنقله على لسان الإمام أحمد محاكاة، والتميميون من الحنابلة في الجملة متأثرون بالكلاَّبية، بمعنى: أنهم يؤولون صفات الأفعال،
ولهذا لما ذكر قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] قال: وكان أبو عبد الله يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: جاء أمره؛ فهذه الرواية من فقه التميمي في كلام الإمام أحمد، وكذلك الإمام البيهقي وهو شافعي لكنه يميل إلى طريقة الأشاعرة، وقد صنَّف في مناقب الإمام أحمد، فلما ذكر عقيدته نقل هذا الكلام، وجاء من هو أدرى بهذه الأمور ونقلها كما هي؛ كـ ابن كثير في البداية والنهاية؛ فإنه لما ترجم للإمام أحمد
روى عن البيهقي أن الإمام أحمد كان يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: جاء أمره، وهناك أغلاط عند أبي الحسن التميمي أكثر من هذا في نقله لعقيدة الإمام أحمد، فإن مسألة المجيء قد يكون لها استثناء؛ لأن حنبل بن إسحاق روى عن الإمام أحمد أنه قال في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] جاء أمره، لكن جمهور تلامذة الإمام أحمد غلَّطوا حنبلاً في هذا؛ لتواتر النقل عن أحمد في إثبات الصفات الفعلية.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [3]
الدرس السابع عشر
إثبات المراد لله ورسوله في نصوص الصفات دليل على إثبات المعنى
قال الموفق رحمه الله: [قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله].
من شرف هذه الرسالة أن مؤلفها نقل فيها عن جملة من أئمة السلف؛ كنقله عن الإمام أحمد رحمه الله فيما سلف، وإن كان سبق الإشارة إلى أن النقل السالف عن أحمد رحمه الله ليس بالضرورة أن يكون من منصوصه، وفي الجملة فهو فهم فهمه أصحابه فعبروا به عنه.
وهذا النقل عن الإمام الشافعي هو أيضاً نقل فاضل على ما فيه من الإجمال، فإن الجملة التي قالها الشافعي رحمه الله هي متحققة ابتداءً عند سائر أهل العلم، وليس فيها مادة من الاختصاص، فإنه قال: (آمنت بالله وبما جاء عن الله -أي: مما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم - على مراد الله، وآمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله).
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [3]
الدرس الثامن عشر
إثبات المراد لله ورسوله في نصوص الصفات دليل على إثبات المعنى
وهذه الجملة من الجمل المسلمة ابتداءً عند سائر الأئمة، وإنما ذكرها الشافعي ونقلها من نقلها عنه من أصحاب السنة والجماعة من الفقهاء والمصنفين في أصول الدين؛ لما فيها من الإشارة إلى ترك التأويل، ومخالفة طريقة أهل التأويل من المتكلمين، الذين تأولوا نصوص الصفات، فكأن هذا هو وجه إيرادها.
والشافعي رحمه الله لا يقرر بكلامه هذا وجهاً من أوجه التفويض لمعاني الصفات، كما زعم بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد، أن الشافعي بهذه الجملة يذهب إلى شيء من التفويض.
وكما أسلفت فإن مسألة الصفات أشكلت على كثير من الفقهاء، حتى أنه ما من إمام من الأئمة الأربعة إلا ونسب إليه بعض أصحابه أو غيرهم شيئاً من التفويض، فـ أحمد نسب إليه قوله السالف في التفويض، والشافعي نسب إليه هذا القول ونحوه، ومالك رحمه الله لما قال جملته المعروفة: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، نسب إليه شيء من التفويض.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [3]
الدرس التاسع عشر
إثبات المراد لله ورسوله في نصوص الصفات دليل على إثبات المعنى
وكذلك الجمل المأثورة عن بعض المتقدمين من السلف كقولهم: (أمروها كما جاءت بلا كيف).
وهذه جملة مروية عن مكحول، والزهري، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي ..
وغيرهم.
فهذه الجمل إذا تأملتها لا ترى فيها شيئاً من التفويض، بل قول الشافعي ليس فيه ذكر للتفويض بوجه، وإنما فيه تقرير لكونه رحمه الله يذهب إلى أن الإيمان على مراد الله ورسوله.
بل يصح أن نقول: إن هذه الجملة ترد على المفوضة؛ لأن الشافعي رحمه الله بين أنه آمن بها على مراد الله، وعلى مراد رسول الله، فظهر أن لله ولرسوله مراداً من جهة المعنى في هذه النصوص، وإذا كان له سبحانه وتعالى مراد، ولرسوله مراد في خطابه، لزم أن هذا المراد مما يمكن فقهه وفهمه ووعيه.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس العشرون
التسليم المطلق لا يكون إلا لله ورسوله
قال الموفق رحمه الله: [وقد أُمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنازلهم، وحُذرنا المحدثات، وأُخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)].
مقام السنة والاتباع يعتبر بأصلين:
الأصل الأول: العلم.
والأصل الثاني: التسليم.
وهما المذكوران في قول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فالتسليم الذي لا يبنى على العلم فإنه غير مقصود في الشريعة، ولهذا كان التسليم المطلق للأعيان بدعة حدثت في الإسلام، وأول من أحدثها الشيعة ثم الصوفية، فصاروا يسلِّمون لأئمتهم تسليماً مطلقاً، حتى اعتقد بعض طوائفهم عصمة الأئمة.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الواحد و العشرون
شرح لمعة الإعتقاد فهنا قوله تعالى: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] فلا بد من مقام العلم ومقام التسليم، وهذان الأصلان هما مبنى السنة، فلابد أن يكون صاحب السنة والمقتدي بآثار السلف على علم وتسليم، ولا يمكن أن تقوم الحقائق في القلوب ويعظم شأنه سبحانه وتعالى إلا بالعلم الذي يصاحبه التسليم.
وكذلك مقام العلم وحده الذي ينقطع عن التسليم، بل يقوم على الجدل ليس مقصوداً في الشريعة؛ ولهذا لم يعظم الله سبحانه وتعالى مقام الجدل ولا جعله منهجاً للمؤمنين، بل لم يذكر هذا المقام إلا في حق المجادلة للكفار، كقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ} [النحل:125] أي: جادل الكفار، وقوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فمقام المناظرة والجدل لم يذكر في سياق المؤمنين، إنما ذكر في سياق قوم كفار.
فلا بد من اعتبار هذين المقامين: مقام العلم وهو التحكيم، ومقام التسليم.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الثاني و العشرون
شرح بعض ألفاظ حديث العرباض بن سارية
أما حديث العرباض بن سارية الذي أورده المصنف فهو ثابت صحيح أخرجه الإمام أحمد وغيره، وفيه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) والخلفاء هم الأربعة الراشدون، وإن كان من بعدهم سموا في الإسلام: خلفاء، كخلفاء بني أمية، وخلفاء بني العباس
إلى غير ذلك، وهو مما يسوغ، لكن فرق بين تسمية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي خليفة، وبين تسمية من بعدهم، فهؤلاء الأربعة هم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته، ومعنى أن أبا بكر خليفة، أي: أنه خليفة عن رسول الله، وكذلك عمر من بعده وعثمان وعلي، فكل واحد من هؤلاء عند خلافته هو خليفة عن رسول الله في الأمة.
وأما من بعدهم فإذا سمي خليفة، فهو مستخلف على المسلمين كراع لهم، أو أمير، أو سلطان، فهذا هو الفرق بين الخلافتين، بين الخلافة النبوية، وهي التي لها سُنة، وبين ما جاء بعدها.
وذهب بعض أهل العلم -كما في بعض كتب السير- وهو قول لبعض
أهل العراق: أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله يعتبر خليفةً خامساً ..
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الثالث و العشرون
شرح بعض ألفاظ حديث العرباض بن سارية
وهذا غلط، وقد أنكره جملة من الأئمة الكبار: كالإمام أحمد رحمه الله، وغيره، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: أن عمر بن عبد العزيز بويع الخلافة المقصودة بعد زمن بعيد، والإمام أحمد رحمه الله لما بلغه قول بعض أهل العراق: إن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس، تعجب من ذلك! وقال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)؟
ومقصوده رحمه الله: أن من جعل عمر بن عبد العزيز خليفةً خامساً فقد زاد عن الثلاثين؛ لأن الثلاثين سنة بقي منها أشهر بعد مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهذه الأشهر هي إمارة الحسن، إن كان له إمارة، على خلاف بين أهل العلم.
وعمر بن عبد العزيز صاحب سنة، وأمير عدل، وإمام في العلم والورع
إلخ، لكن لا يجوز أن يسمى خليفة خامساً، بل الخلفاء أربعة، وأما من بعدهم فهم سلاطين وملوك وأمراء.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الرابع و العشرون
شرح بعض ألفاظ حديث العرباض بن سارية
الجهة الثانية: أن معاوية بن أبي سفيان أفضل من عمر بن عبد العزيز بإجماع السلف؛ لأن معاوية صحابي؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هو أفضل ملوك الإسلام بالاتفاق".
فـ معاوية ملك وهو أول ملوك الإسلام وأفضلهم، وإن كان يسمى: خليفة، وهو أفضل من عمر بن عبد العزيز بلا شك، مع أن شيخ الإسلام استدرك وقال: "وإن كان بعض مقامات العدل، استقرت في خلافة عمر بن عبد العزيز، أكثر من استقرارها في خلافة معاوية؛ لكن هذا أوجبه حال السلطان إذ ذاك"، بمعنى: أن معاوية أدرك فتناً وحروباً، فكان لزمنه اختصاص، بخلاف عمر بن عبد العزيز فإن الأمور كانت مستقرة له في الجملة.
ولكن الاعتبار بكليات الأمور واجتماعها وليس بجزء من آحادها.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الخامس و العشرون
حكم زيادة: (وكل ضلالة في النار)
ورد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كل محدثة بدعة) أي: كل إحداث في الدين فإنه بدعة، سواء كانت بدعةً قولية، أو بدعةً عقدية، أو بدعة فعلية.
وفي بعض أوجه الحديث الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبته به، وهو في الصحيح عن جابر بن عبد الله قوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
وفي السنن وغيرها زيادة: (وكل ضلالة في النار) وهذه الزيادة من جهة الإسناد فيها تردد، والإمام ابن تيمية يقول: "إنها شاذة".
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس السادس و العشرون
ويرى أن شذوذها من جهة متنها، قال: لأن الضلالة لا يلزم أن تكون في النار؛ فإن الإنسان قد يضل ويكون ضلاله مغفوراً له، بدليل قول الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في حديث عمرو بن العاص في الصحيحين: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر).
فزيادة: (وكل ضلالة في النار) هذا عموم، والحق أن الضلالة قد يكون صاحبها في النار؛ لكونه متعدياً بعدما تبين له الهدى، وقد لا يكون في النار، لكونه في محل اجتهاد، فيكون خطؤه مغفوراً واجتهاده مأجوراً.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس السابع و العشرون
تحقيق مذهب السلف
قال الموفق رحمه الله: [وقال عبد الله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم].
مقتضى الاتباع: هو الأخذ بآثار السلف، فيجب على كل مسلم أن يتبع سلف هذه الأمة، وإذا ذكر السلف فيراد بهم أهل القرون الثلاثة الفاضلة، الذين ذكر فضلهم النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عمران بن حصين في الصحيحين وغيره.
✒️✒️✒️
وعليه: فصدر السلف وأفضلهم وأجلهم هم المهاجرون والأنصار، وهم الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] فكونه سبحانه وتعالى رضي عنهم ورضوا عنه، دل على أن اتباعهم يكون واجباً، وأن السنة بعد رسول الله في أقوالهم، ولا يمكن أن غيرهم يختص بسنة لا توجد عندهم، فدل ذلك على أن هؤلاء هم أصحاب الهدي والسنة والاقتداء.
أما من جاء بعد القرون الثلاثة الفاضلة فإذا سمي (سلفياً) فباعتبار اقتدائه بهم، فإن كلمة (السلف) تعني: القوم السالفون المتقدمون، وهم القرون الثلاثة الفاضلة.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الثامن و العشرون
تحقيق مذهب السلف ب
مسألة: متى يصح أن يقال عن قول أو فعل ما: إن هذا القول أو الفعل مذهب للسلف؟
الجواب: لقد نبه ابن تيمية على كثرة الغلط في هذه المسألة، وقال: "إنها مسألة عظيمة غلط فيها جملة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم".
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وهنا ثلاث طرق: طريقان معروفان للمحققين من أصحاب السنة، وطريق ثالث ذكره بعض الفقهاء، وأصله عن جملة من المتكلمين المنتسبين للسنة والجماعة.
وهو عند التحقيق -يعني: الثالث- من طرق أهل البدع، وليس من طرق أصحاب السنة والجماعة".
أما الطريقان المحققان لمعرفة أن هذا القول مذهب للسلف هما:
- الطريق الأول: "أن يستفيض هذا القول ذكراً عند الأئمة ولا يذكر غيره".
أي: أنك إذا نظرت أقوال الأئمة السالفين كالتابعين ومن بعدهم كالأئمة الأربعة وأمثالهم وجدت أن قولاً من الأقوال قد استفاض عندهم، ورأوا أنه هو السنة اللازمة، ولم يعرف عنهم خلافه، فإذا وجد مثل هذا واستفاض فإنه يكون مذهباً للسلف، وإذا كان مذهباً للسلف فالنتيجة أنه يجب اتباعه ولا يجوز مخالفته، ومخالفته بدعة وضلالة، كاستفاضة قولهم: إن القرآن ليس مخلوقاً، وأنه كلام الله، منزل من عنده ..
وكاستفاضة قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة لله ..
فهذه جمل مستفيضة عن السلف والأئمة من أهل الحجاز والشام والعراق وغير ذلك".
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس التاسع و العشرون
تحقيق مذهب السلف (ت)
الطريق الثاني: "أن يحكي من عرف بقدر من التحقيق من أهل العلم أن هذا إجماع للسلف، كالإجماع الذي يذكره محمد بن نصر، وأبو عمر بن عبد البر وأمثال هؤلاء، فهؤلاء -أي: من عرف من أصحاب الأئمة بالتحقيق والانضباط في السنة- إذا حكوا إجماعات في مسائل وقالوا: إن هذا إجماع للسلف؛ فإن هذا الإجماع إذا لم يكدر عليه شيء فإنه يكون طريقاً لمعرفة مذهب السلف".
وأنت إذا تأملت الطريقين وجدت أنهما يرجعان في الجملة إلى الإجماع، فإن الإجماع إما أن يكون بتصريح عالم كـ محمد بن نصر أو كـ أبي عمر بن عبد البر أو أمثال هؤلاء، أو باستفاضة كلام من هو أجل من هؤلاء ممن تقدم بلا مخالف أو معارض منهم.
فإذا نص عالم من الأئمة والأكابر المعروفين بالسنة على أن هذا إجماع، ولم يكدر عليه شيء، فهذا مذهب للسلف، أو تواتر هذا القول نقلاً عنهم واستفاض.
فتحصل من هذا أن المعرفة بمذهب السلف ترجع إلى طريق واحد هو انضباط الإجماع، إما تواتراً معنوياً واستفاضةً للكلمة، أو تصريحاً من بعض الأعيان المعتبرين بأن هذا إجماع، ولو لم تستفض الكلمة بينهم.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الثلاثون
تحقيق مذهب السلف (ث)
الطريق الثالث: وهو المزلة، وللأسف فإن بعض المعاصرين من طلبة العلم وغيرهم قد يقعون في شيء منه، وهو طريق الغلط.
يقول شيخ الإسلام: "إن هذا الطريق قد استعمله جملة من الفقهاء المنتسبين للسنة، المعظمين لطريق السلف وهو الفهم لكلام السلف، فإذا فهموا عن السلف كلاماً جعلوه مذهباً للسلف"، إذا فهموا جملة أو أعيان من السلف كلاماً جعلوه مذهباً للسلف.
قال: "وهذا له اطراد في كلام كثير من الفقهاء، فمن فقه من كتاب الله معنىً في أبوب أصول الدين، وتبين له أن هذا ظاهر من كلام الله جعل هذا مذهباً للسلف؛ لأن السلف عنده لا يخرجون عن ظاهر القرآن".
أي أنهم يقولون: عمن يقول عن قول من الأقوال: إنه مذهب للسلف مع أنه ليس فيه إجماع ولا استفاضة عن السلف، إنما فهم فهماً من قبل هذا الناظر، فهذا الفهم لما بان له باجتهاده أنه فهم منضبط، وأنه على وفق ظاهر النصوص، وأن النصوص تؤيده قال: إن هذا مذهب للسلف؛ لأن السلف لا يخرجون عن النصوص، فهو تحصيل لمذهب السلف بطريق الفهم وليس بطريق النقل، ومن هنا حملوا السلف ما لا يحتملوه.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الواحد و الثلاثون
تحقيق مذهب السلف
وهنا تقول: إن الطرق التي استعملت تنقسم إلى طريقين:
الطريق الأول: تحصيل مذهب السلف نقلاً، وهذا صواب.
الطريق الثاني: تحصيل مذهب السلف فهماً؛ لأن من قال عن قول ما: إنه مذهب للسلف؛ فمعناه أن اتباعه يكون واجباً، وأن غيره يكون بدعةً، وأن الاجتهاد ولو كان من عالم كبير وهو مخالف لمذهب السلف فإنه لا يكون سائغاً، بل اجتهاده مخالف للحق ابتداءً ..
فهذا هو وجه التشديد في هذه الجملة.
ومن ذلك مثلاً: لا يصح لقائل أن يقول: إن من السنة السلفية إسبال اليدين بعد الرفع من الركوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع ..
وهذه مسألة خلافية، وكون العالم أو المجتهد أو الناظر أو حتى طالب العلم يذهب إلى أن هذا هو القول الراجح، وأنه ظاهر النصوص عنده ..
هذا لا بأس به، لكن أن يجعله سنةً لازمة فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أيضاً أنه أسبل يديه بعد الركوع.
والفقهاء الكبار: كـ أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم، قالوا بأفهامهم في أقوال كثيرة، ومعهم ظواهر من النصوص قد تصل أحياناً إلى حد التصريح، ومع ذلك لم يعتبروا قولهم سنةً لازمة، بل اعتبروه قولاً، من ظهر له أن هذا القول موافق للقرآن وجب اتباعه، ومن لم يظهر له ذلك فلا يلزم اتباعه، ولا سيما أن مقام الظهور للحق في النصوص المحتملة مقام قد يتأخر ويختلف بحسب المجتهدين.
فالمحصل: أن مذهب السلف الذي ينسب إليهم ليس هو الآحاد الفقهية، فالآحاد الفقهية: هي محل خلاف في الجملة بين السلف، إنما مذهب السلف الذي يجب اتباعه هو ما انضبط بالإجماع أو استفاض نقله عنهم سواء كان في المسائل العلمية أو العملية، وأما إذا لم ينضبط انضباطاً بيناً فلا يجوز نسبته إلى السلف كمذهب، وإنما يذكر على أنه قول لطائفة من السلف، أو أنه محل نزاع بينهم، أو ما إلى ذلك.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الثاني و الثلاثون
التزام وسطية السلف وترك التكلف والتشقيق
قال الموفق رحمه الله: [وقال عمر بن عبد العزيز كلاماً معناه: قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم مُحَسِّر، وما دونهم مقصِّر، لقد قصَّر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم].
الهدى المستقيم هو في وسطية الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال الإمام ابن تيمية في الوصية الجامعة التي كتبها لأصحاب عدي بن مسافر الأموي، يقول فيها: "أنه ما من أمْرٍ أَمَر الله ورسوله به، إلا وصار فيه طرفان ووسط، فالوسط: هم أصحاب السنة والاقتداء، وأما الطرفان فهم: قوم إما أنهم أصحاب إفراط أو أصحاب تفريط، وعليه: فمقام التشقيق ليس من سنن السلف"، أي: مقام التكلف في تشقيق المسائل، والإلزام بما لم يكن إلزاماً عند السالفين، والتضييق لمسائل الخلاف التي كانت شائعةً زمن الأئمة كالصحابة والتابعين وأمثالهم.
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الثالث و الثلاثون
التزام وسطية السلف وترك التكلف والتشقيق
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطائفة المنصورة الناجية، كما في الحديث المتواتر عنه عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ...) وهم: أهل السنة والجماعة.
ولو قال قائل: إن هذه الطائفة تطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكان مصيباً.
ولو قال آخر: هذه الطائفة تطبق الإسلام؛ لكان مصيباً أيضاً.
إذاً: هذه الطائفة ليس فيها زيادة إلا أنها تحافظ على الإسلام كما جاء.
ومن هنا: فمن أخص أسماء هذه الطائفة أنهم أهل السنة، وقبل كونهم أهل السنة هم أهل الإسلام،
ولهذا فإن أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تسموا بالمسلمين، كقول الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128] فالأصل أن الإسلام هو الجامع لهذه الطائفة
شرح لمعة الاعتقاد [4]
الدرس الرابع و الثلاثون
التزام وسطية السلف وترك التكلف والتشقيق
وفي الحديث المروي عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأنس، وهو حديث الافتراق المشهور، وإن كان فيه كلام، لكن الكثير من الحفاظ يقوونه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) لم يكن بالضرورة مقصوداً أن الفرقة الناجية يجب أن تضيق، فالطائفة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وهم أهل السنة والجماعة،
لا ينبغي أن يُقصد إلى تضييقهم، أو أن تضاف قيود كثيرة، وشروط جديدة، لإخراج أكبر عدد من المسلمين من هذه الدائرة، فالسلفي هو: من اقتدى بالسنة النبوية بوجهها العام، واقتدى بإجماعات السلف، واختار ما بان له أقرب إلى الحق في خلاف السلف، فإن السلف كما أنهم مجمعون على مسائل، فإنهم مختلفون في مسائل
إذاً لا ينبغي أن تضاف قيود على تعريف السلفية، بل تبقى كما بقيت زمن الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم، ولا يسمى القول سنةً لازمةً إلا إذا انضبط في كونه إجماعاً.
شرح لمعة الاعتقاد [5]
الدرس الخامس و الثلاثون
دلت نصوص الكتاب والسنة على إثبات الصفات لله تعالى إثباتاً حقيقياً يليق به عز وجل، فيجب إثباتها لله تعالى، مع تنزيهه سبحانه عن المثيل والشبيه والنظير، وعما يتخيله المتخيلون ويتصوره المتصورون، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ذكر بعض آيات الصفات
قال الموفق رحمه الله: [فمما جاء من آيات الصفات قول الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]، وقوله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقوله تعالى إخباراً عن عيسى عليه السلام أنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]، وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ} [البقرة:210]، وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، وقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وقوله تعالى في الكفار: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6]، وقوله تعالى: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28]، وقوله تعالى: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46]].
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [5]
الدرس السادس و الثلاثون
بعدما قرر الموفق رحمه الله المنهج الذي عليه السلف في هذا الباب، وذكر قاعدة السلف في باب أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته؛ ذكر الأدلة التي تصلح أن تكون أمثلة لذلك، وهذا هو الذي درج عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة الواسطية، فإنه حاكى الموفق في ذلك، إذ قرر الإمام ابن تيمية رحمه الله في الواسطية القاعدة والمنهج عند السلف في الأسماء والصفات، ثم قال: "وقد دخل في هذه الجملة ما ذكره الله في سورة الإخلاص"، وما بعد ذلك من سياقه للآيات.
وعليه: فهذه الآيات قاعدتُها واحدة، وهي: أن كل ما ذكر الله سبحانه وتعالى من صفاته في كتابه فإنه حق على ظاهره، ولا يجوز تأويله بما يخالف هذا الظاهر.
شرح لمعة الاعتقاد [5]
الدرس السابع و الثلاثون
تقسيمات المتأخرين للصفات
درج المتأخرون من أهل السنة الذين تكلموا في الصفات إلى تقسيم الصفات إلى قسمين:
صفات ذاتية.
وصفات فعلية.
وقد ذكر المصنف صفة الوجه وصفة العلم، وصفة المجيء في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]، وكذلك صفة الإتيان وغيرها من الصفات.
وبعضهم يقول: إن الصفات تنقسم إلى:
صفات ذاتية.وصفات خبرية. وصفات فعلية.
وهذه التقاسيم هي من الاصطلاح الذي يوسع فيه، إذا كانت المعالم منضبطة بوجه صحيح، وإن كان هذا التقسيم ليس مقصوداً لذاته، أي: ليس هو من الحقائق المطردة، التي يقصد إلى ذكرها في كلام أهل السنة والجماعة.
ولهذا لا يلزم أن يمتحن الناس ويُسألوا عن تقسيم أهل السنة للصفات؟ فإن أهل السنة المتقدمين من أئمة السلف لم يقسموا هذا التقسيم للصفات، لكن هذا تقسيم ذكره من ذكره من علماء السنة والجماعة المتأخرين، فذكره يكون على قدر هذه التوسعة، لا على قدر القصد إليه.
شرح لمعة الاعتقاد [5]
الدرس الثامن و الثلاثون
تقسيمات المتأخرين للصفات
ولهذا من استعمله ليضبط المعاني فلا بأس، ومن تركه وضبط المعاني بدونه فهذا هو الأولى؛ لأن هذا التقسيم فيه ألفاظ إضافية يدخلها شيء من الإشكال، فحين يقولون: الصفات الذاتية، قد يُفهم أن القسم الثاني أو الثالث ليس ذاتياً، وهذا المفهوم ليس مراداً له، ولكنه قد يتبادر إلى الذهن، وحين يقولون: الصفات الاختيارية، فكأنه يفهم أن ثمة صفات خلاف الاختيار.
ولهذا نقول: هذا التقسيم هو اصطلاح، أما أن يقال: إن من قواعد السلف أنهم يقسمون الصفات إلى: ذاتية وفعلية، أو إلى خبرية وما يقابلها، فهذا فيه تردد؛ لأنك إن قلت: إن القسم الأول خبري، والثاني ليس خبرياً؛ أشكل على ذلك أن جميع الصفات خبرية، باعتبار أن الخبر جاء بها، الذي هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي إخبار من الله، وإخبار من رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فإن هذا التقسيم لا يستعمل في كلام التابعين، أو أئمة السنة المتقدمين كالإمام أحمد وأمثاله.
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس التاسع و الثلاثون
إثبات صفة الاستواء لله تعالى
قال: [ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]]
قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ذكر الله تعالى استواءه على عرشه في سبعة مواضع في كتابه، والاستواء على العرش هو من صفاته سبحانه وتعالى الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] المراد بالاستواء العلو؛ وهو علو مضاف في هذا المقام، وإن كان قد ورد ذكر العلو في مقام آخر على الإطلاق، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16].
من هنا فإن علو الرب سبحانه وتعالى صفة أزلية، لم يزل سبحانه وتعالى علياً، وأما الاستواء على العرش المذكور في هذه الآيات، فهو بعد خلق العرش، والعرش مخلوق حادث بعد أن لم يكن، فالمقصود أن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: علا، وهذا هو المعنى الصواب المعروف عند جمهور السلف.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس الأربعون
إثبات صفة الاستواء لله تعالى
وثمة بعض المعاني التي فسر بها الاستواء على العرش، فمنهم من قال: صعد، وهذا ليس بجيد في التفسير، ومنهم من قال: استقر، وهذا أبعد منه، وإن كان بعض أهل العلم من بعض أئمة اللغة كـ معمر بن المثنى يذهب إلى مثل هذا؛ لكنه ليس بفاضل؛ لأنه تعبير فيه توسع في حق الله سبحانه وتعالى، وأشد بعداً من هذين (صعد واستقر) ما قاله بعض متأخري أهل السنة أنه الجلوس على العرش! وهذا غلط، ولا يجوز أن يذكر في حقه سبحانه وتعالى، بل يقال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: علا على العرش.
إثبات صفة العلو لله تعالى
قال الموفق رحمه الله: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك).
وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة].
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله ...) فهو على جهة الدعاء، وقد رواه أبو داود، والحديث مُتَكَلَّم فيه؛ لكن من أهل العلم من قوَّاه، وهذا الحديث والآيتان مِن قبلِه وما ذكره بعده كحديث معاوية بن الحكم، كلها تدل على إثبات علو الرب سبحانه.
وقد قال جملة من علماء السنة كبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد كـ ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية: إن دلائل العلو في القرآن أكثر من ألف دليل
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس الواحد و الأربعون
إثبات صفة العلو لله تعالى
وهناك طريقة عند علماء السنة في الاستدلال على الصفات، وهي طريقة التنوع، فالعلو عندهم يثبت بجملة من الأدلة، منها:
ذكره سبحانه وتعالى أنه في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16].
ذكره سبحانه وتعالى لفوقيته، في مثل قوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50].
ذكره سبحانه وتعالى لعروج الأشياء إليه، وذكره لصعود الأشياء إليه:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج:4]،{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].
ذكره سبحانه وتعالى للنزول كنزول الملائكة من عنده، وإنزاله للكتب، والأمر، والرحمة وغيرها، كقوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4]،{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إبراهيم:1].
فجملة هذه الأدلة بتنوعها تدل دلالة قاطعة مطردة على إثبات العلو لله تعالى، وعلوه سبحانه وتعالى من أخص صفاته، وقد أجمع عليه السلف وكثير من الخلف، حتى من انتسب إلى بعض الطرق الكلامية كـ أبي الحسن الأشعري، وكـ عبد الله بن سعيد بن كلاب، فإن هذين وأمثالهما من المقاربين للسنة من المتكلمين يثبتون العلو، وأما نفي الأشاعرة المتأخرين للعلو فإن هذا مذهب دخل عليهم من المعتزلة، وقد صنف ابن كلاب كتابه: الصفات، ورد فيه على المعتزلة في مسألة العلو بالعقل والنقل.
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس الثاتي و الأربعون
إثبات صفة العلو لله تعالى
ومسألة العلو حكى الإجماع عليها جملة من الأئمة، حتى إن شيخ الإسلام ذكر في درء التعارض هذا الإجماع عن بضعة عشر إماماً من كبار أئمة أهل السنة والجماعة، فهي مسألة متواترة صريحة في كلام الله ورسوله، فضلاً عن كون علوه سبحانه وتعالى يثبت بالعقل، ويثبت بدليل الفطرة، فإن الله فطر الخلق على أنه سبحانه وتعالى في السماء.
ويراد بكونه سبحانه وتعال (في السماء) أي: أنه على السماء، وأما ما قد يتبادر إلى ذهن بعض الجهال أنه في سماء خلقها، كما تقول: إن الملائكة في السماء، فهذا مما ينزه عنه الرب سبحانه وتعالى، فإنه قد قال:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133].
إذاً قوله:{أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: على السماء، أو يراد بالسماء العلو، أي: من في العلو، وليس وسط السماء.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس الثالث و الأربعون
إقرار بعض المشركين بصفة العلو والرد على المعطلة
قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حصين: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: من لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين، فأسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي)].
هذا الحديث داخل في أدلة إثبات العلو لله عز وجل، وفيه إشارة إلى أن المشركين كانوا في الجملة يقرون بأصول الصفات، وهذا من دلائل أهل السنة في ردهم على المعطلة، فالمعطلة تقول: إن إثبات الصفات على ظاهرها مخالف لدليل العقل.
قال علماء السنة: إن القرآن نزل وعارضه المشركون بالتكذيب، وقالوا عن صاحبه الذي نزل عليه: إنه ساحر، وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، إلى غير ذلك، فالقصد أن آيات الصفات لو كان فيها ما يعارض دليل العقل لاعترض به المشركون.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس الرابع و الأربعون
إقرار بعض المشركين بصفة العلو والرد على المعطلة
فإنه لم ينقل عن واحد من المشركين، لا من العرب ولا من اليهود ولا من النصارى؛ الذين بلغهم القرآن، أنه اعترض بدليل عقلي على صفة من الصفات، مع أنهم حاولوا الطعن في بعض أخبار القرآن من جهة العقل، كقول الله تعالى عن كافرهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، فهذا اعتراض بالعقل على مسألة البعث، ولما ذكر سبحانه البعث قال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]؛ لكنه لم يذكر أنهم كذبوا بأسمائه وصفاته، فهذا يدل على أن المشركين لم يقع منهم الإنكار لشيء من أسماء الرب وصفاته في الجملة.
فإن قال قائل: فقد أنكر سهيل بن عمرو اسم الرحمن في صلح الحديبية، كما جاء في الصحيح لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو: أما الرحمن فلا أدري ما هو، ولكن اكتب (باسمك اللهم))، فهذا ليس من باب المعارضة العقلية، بل من باب: أن سهيل بن عمرو ومن في دائرته من المشركين ما كانوا يعرفون أن هذا الاسم مضاف لله سبحانه وتعالى.
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس الخامس و الأربعون
إقرار بعض المشركين بصفة العلو والرد على المعطلة
فهذا نوع من الجهل وليس من المعارضة العقلية، والدليل على ذلك: أن المشركين كان منهم من يسمى بعبد الرحمن، كـ عبد الرحمن الفزاري، الذي قتله أبو قتادة الأنصاري في غزوة ذي قرد - كما في الصحيح- وكان امراً مشركاً، مات على الشرك.
فالقصد أن قول سهيل بن عمرو: أما الرحمن فلا أدري ما هو، هو كما قال لا يدري ما هو، أي: أنه جاهل به وليس معارضاً له بالعقل، ولهذا لم ينكر سهيل أن الله رحيم؛ لأنهم كانوا يقرون بذلك، ولذلك قال عنترة:
يا عبل أين من المنية مهرب ... إن كان ربي في السماء قضاها
وفي الجملة فباب الربوبية قد أقر به المشركون.
وتعلم أن الصفات والأسماء هي من أخص مقامات الربوبية، ولكن القول: إن مشركي العرب كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ليس على إطلاقه، بل الصحيح أنهم ليسوا محققين له، وإنما هم مقرون به في الجملة، وإلا فحال الجاهليين العرب بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته؛ أنهم على قدرٍ من الغلط في توحيد الربوبية.
ومن ذلك مثلاً: الاستقسام بالأزلام، أي: إمضاء الأمر أو عدم إمضائه، على ما يفعلونه في أقداحهم أو أزلامهم، وهذا طعن في توحيد الربوبية.
ومن ذلك أيضاً: الطيرة، فهي لا تحقق توحيد الربوبية، إلى غير ذلك.
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس السادس و الأربعون
إقرار بعض المشركين بصفة العلو والرد على المعطلة
وإن كان هذا في الجملة: من عوائد أهل الجاهلية وإلا فهم غالباً لا يصدقون بمسألة الأزلام.
ولهذا روى البخاري في صحيحه عن عكرمة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام قد وضعوها داخل الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(قاتلهم الله! أما لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط).
ومما يروى عن امرئ القيس الشاعر الجاهلي المعروف، أن بني أسد عندما قتلت أباه ذهب يستقسم بالأزلام: هل يأخذ الثأر لأبيه أو لا يأخذ؟ فاستقسم الأولى، فخرج أنه لا يفعل، ثم الثانية، فخرج لا يفعل أيضاً، والثالثة كذلك، وكان عند العرب: أنه إذا ظهر المنع في الأول والثاني والثالث، ينقطع، فلما انتهت المحاولة الثالثة، وخرج أنه لا يفعل، قام وكسّر الأزلام، وقال: لو أنت قتل أبوك ما فعلت هذا.
فكان فعلهم هذا يدل على عوائدهم، أكثر مما يدل على حقائق ما في نفوسهم، ومع ذلك فهو شرك.
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس السابع و الأربعون
أدلة إثبات العلو في الكتب المتقدمة
قال الموفق رحمه الله تعالى: [وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة: إنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء].
هذه إشارة من المصنف إلى أن توحيد الأسماء والصفات متواتر في سائر الكتب السماوية، لأن أصول الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحدة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- عن أبي هريرة: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات) والمقصود بأبناء العلات هم الإخوة من أمهات شتى وأب واحد، فأراد باتفاق أبيهم الاتفاق في أصل الدين، وأراد باختلاف أمهاتهم اختلاف شرائعهم.
ولهذا فإن عقيدة الأنبياء واحدة وتوحيدهم واحد، ولا يمنع هذا أن يكون ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم فيه تفصيل لهذه العقيدة بما لم يقع مثله من التفصيل في غيره من الكتب.
فلا شك أن الدلائل والتفاصيل المذكورة في القرآن، أكثر من التفاصيل المذكورة في الكتب السماوية الأخرى، وإن كانت كلام الله سبحانه وتعالى.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [6]
الدرس الثامن و الأربعون
أدلة إثبات العلو في الكتب المتقدمة
قال الموفق رحمه الله: [وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا)، وذكر الخبر إلى قوله: (وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك) فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله ولا تشبيهه ولا تمثيله].
هذا كله داخل في مراد المصنف، إثبات صفة العلو لله عز وجل.
وهنا ينبه إلى مسألة الآثار النبوية؛ كهذا الحديث الذي ذكره المصنف، وكحديث الأوعال في ذكر حملة العرش، وأمثال هذه الأحاديث، ينبه إلى أن الواجب في الاعتقاد: هو ما انضبط عند السلف من الأحاديث، وذكروه من مسائل أصول الدين.
وأما تتبع الروايات في كتب الحديث على طريقة من الإفراد، كما تتتبع المسائل الفقهية، فهذا ليس مما ينبغي القصد إليه، لأن هذا مقام إخبار عن الرب سبحانه وتعالى، فلا ينبغي فيه أن يستطال في تتبع أحاديث فردة، قد تثبت وقد لا تثبت.
ولهذا فإن إشارة المصنف في قوله: [مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله] إلى أنه ينبغي تتبع المجمع عليه كحديث النزول وأمثاله من الأحاديث.
شرح لمعة الاعتقاد [7]
الدرس التاسع و الأربعون
يعتقد أهل السنة والجماعة أن الله تعالى موصوف بصفة الكلام كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال السلف، وأنه سبحانه يتكلم بحرف وصوت مسموع، وأن كلامه متعلق بإرادته ومشيئته، فهو يتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، ويعتقدون أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
إثبات صفة الكلام لله تعالى
قال الموفق رحمه الله: [ومن صفات الله تعالى: أنه متكلم بكلام قديم].
أهل السنة يقولون: إن الله سبحانه وتعالى موصوف بهذه الصفة، وأنه يتكلم بحرف وصوت مسموع، وأن كلامه متعلق بمشيئته وإرادته، فهو يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء، كما يعتقد أهل السنة أن القرآن كلام الله حقيقةً وليس مجازاً.
كما أن دلائل اتصاف الرب سبحانه وتعالى بالكلام متواترة في القرآن.
شرح لمعة الاعتقاد [7]
الدرس الخمسون
إثبات صفة الكلام لله تعالى
فإن قيل: كيف يحصلون هذا؟
قيل: لأن كل آية نداء في القرآن يجعلونها دليلاً على إثبات الكلام؛ وذلك لأن المنادي لا بد أن يكون متكلماً، فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هذه الآيات نداء، فيجعلونها من أدلة إثبات الكلام، وكذلك آيات القول: (وَقَالَ رَبُّكُمْ) فإذا أضيف القول إليه سبحانه دل على أنه متكلم، إلى أمثال ذلك.
وقد خالف أهل السنة في هذه العقيدة الأشاعرة فقالوا: إنه معنى قائم بالنفس، ويرد عليهم بقوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143].
فدل على أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام بعد مجيء موسى لميقات ربه، وموسى حادث بعد أن لم يكن، وهذا الميقات متأخر عن زمنٍ سَلَفَ، إلى أمثال ذلك.
فمع أن كلامه سبحانه أزلي، فهو مع ذلك متعلق بالإرادة والمشيئة.
قوله:[بكلام قديم] هذا مما أخذه بعضهم على المصنف، أنه يقول عن الله: إنه متكلم بكلام قديم.
وهذا مأخذ لفظي، فلو أن المصنف عبر بما هو أجود منه لكان حسناً.
أما أنه يقال: إن كلامه هنا غلط بيِّن، وأنه من كلام أهل البدع ومصطلحاتهم معانيهم وما إلى ذلك، فهذا فيه تكلف، فإنه رحمه الله قال: [متكلم بكلام قديم]، أي: أن كلامه أزلي، وأراد بذلك الرد على بعض أهل البدع الذين يقولون: إن كلامه حادث بعد أن لم يكن، يريدون بذلك تعطيل أو تأويل صفة الكلام.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [7]
الدرس الواحد و الخمسون
إثبات صفة الكلام لله تعالى
وكلام الله صفة من صفاته بدلائل الكتاب والسنة، وبدليل العقل.
أما دليل العقل؛ فلأن الله هو الإله المعبود فضلاً عن كونه الرب المدبر للكون يلزم منه أن يكون، متكلماً، ولو لم يكن متكلماً لما صح كونه رباً، ولا صح كونه إلهاً، هذا دليل عقلي.
أما دلائل الكتاب والسنة، فهي أكثر من أن تحصر في هذا المقام، ومنها على سبيل المثال: قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148].
فكان الرد عليهم دليلاً شرعياً وعقلياً في نفس الوقت، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148]، وهذا نقض عقلي لألوهية العجل، فدل على أن الإله الحق لا بد أن يكون متكلماً.
ولهذا فإن دلائل القرآن في الصفات وغيرها بعضها خبري وبعضها عقلي؛ فالخبر المحض كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:5]، وأما الدليل الخبري من جهة كونه قرآناً؛ ولكنه سياق عقلي، كمثل آية العجل، وكمثل قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} [إبراهيم:24].
💎💎💎
فإذا ذكر هذه السياقات فهي أتم الأقيسة يقيناً في العقل، وهي الأمثلة المضروبة في القرآن ..
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم:28] إلى غير ذلك.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [7]
الدرس الثاني و الخمسون
معنى سماع كلام الله
قال الموفق رحمه الله:[يسمعه منه من شاء من خلقه، سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة].
قوله: [من غير واسطة]، هذا رد على من قال: إن موسى سمع العبارة، أو خلق فيه الإدراك للمعنى الأزلي، كما يقول ابن كلاب]، وأمثاله، ممن يجعلون الكلام معنىً في النفس.
قال الموفق رحمه الله: [وسمعه جبريل عليه السلام، ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه، ويأذن لهم فيزورونه].
حديث الزيارة ليس من الأحاديث المنضبطة في الصحة، إنما المنضبط هو لقاؤه سبحانه وتعالى ورؤيته وكلامه للمؤمنين، فهذه مذكورة في القرآن وصحيح السنة بينة منضبطة.
وأما حديث الزيارة فقد جاء في المسند وغيره؛ ولكنه ليس من الأحاديث المنضبطة.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [7]
الدرس الثالث و الخمسون
القرآن كلام الله
قال الموفق رحمه الله:[ومن كلام الله سبحانه: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود].
القرآن كلام الله: وهذا اصطلاح شرعي صريح، كقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}[التوبة:6].
قوله:(مُنَزَّل): وهذا أيضاً لفظ شرعي صحيح، وقد ذكر الله تعالى أن كتابه منزل في غير سورة من القرآن، كما في قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}[الدخان:3]، وقوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة:185] إلى غير ذلك.
قوله:(غير مخلوق): هذا الحرف ليس في الكتاب ولا السنة، وإنما قاله السلف نفياً لبدعة الجهمية.
قوله:(منه بدأ): هذه الجملة بحرفها ليس لها ذكر في النصوص، وقد وصف بها السلف القرآن وأرادوا بها أنه كلام الله حقيقةً، (منه بدأ)، أي: أنه هو الذي تكلم به حقيقةً بحرف وصوت، وليس كلاماً لجبريل ولا لغيره من الملائكة.
قوله: (وإليه يعود): هذا فسر بأكثر من تفسير، من أخصها: أنه يُرفع من صدور الرجال في آخر الزمان، حين يترك العمل به، فلا تبقى منه آية.
شرح لمعة الاعتقاد [7]
الدرس الرابع و الخمسون
وصف كلام الله وفضله وبعض أحكامه
قال الموفق رحمه الله: [وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض].
قوله:[له أول وآخر]: هذا رد على الأشاعرة وأمثالهم الذين قالوا: إن الكلام واحد، وإنه معنىً يقوم في النفس.
قوله:[وأجزاء وأبعاض ...] إلخ: هذا من التفصيل الذي ليس بلازم؛ فإنه كان يكفي أن يقال: إن له أولاً وآخراً، أو نحو ذلك من التعبيرات التي يكتفى بها.
قال الموفق رحمه الله:[متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، ومسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي،{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقوله تعالى:{قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، وهذا هو الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا:{لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ:31].
وقال بعضهم:{إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، فقال الله سبحانه:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26].
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [7]
الدرس الخامس و الخمسون
وصف كلام الله وفضله وبعض أحكامه
وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69]، فلما نفى الله عنه أنه شعر، وأثبته قرآناً، لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف وآيات، لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر.
💭💭💭💭💭
وقال عز وجل:{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23]، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يُدرى ما هو، ولا يُعقل.
وقال تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}[يونس:15]، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم.
وقال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}[العنكبوت:49]، وقال تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:77 - 79] بعد أن أقسم على ذلك].
قوله:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:79] هل الضمير يعود على القرآن أم يعود على الكتاب المكنون وهو اللوح المحفوظ؟
هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [7]
الدرس السادس و الخمسون
وصف كلام الله وفضله وبعض أحكامه
والصحيح أن الخلاف في مسألة لزوم الطهارة من الحدث في مس المصحف ليس فرعاً عن الخلاف في هذه الآية، فإن كثيراً من السلف جعلوا الضمير في قوله:{لا يَمَسُّهُ}[الواقعة:79] يعود على الكتاب المكنون؛ وهو اللوح المحفوظ، وهذا هو الصحيح في تفسير الآية، ومع ذلك فإن هؤلاء يذهبون إلى أنه لا يجوز للمحدث أن يمس القرآن.
إذاً ..الخلاف في مسألة مس المحدث للقرآن، ليس فرعاً عن تفسير الآية.
وفي الجملة فالذي عليه الجمهور -وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم- أن القرآن لا يجوز مسه للمحدث، بل لا بد له من الطهارة.
وذهب طائفة كـ ابن حزم والشوكاني إلى جواز مسه للمحدث حدثاً أصغر، ومستند قول الجمهور هو حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب له كتاباً وفيه:(وأن لا يمس القرآن إلا طاهراً) وهذا كتاب محفوظ صحيح، قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتبه له، فهو كتاب معروف منضبط، وفيه مسائل كثيرة جرى الفقهاء من الأئمة على العمل بها، وبذلك تثبت صحة مستندهم.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس السابع و الخمسون
ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بأبصارهم، ويرونه سبحانه وهم في الجنة، وهذا هو ما يعتقده أهل السنة والجماعة، ولم يقل بنفي الرؤية إلا المعتزلة، وقد استدلوا بما ليس لهم فيه دليل. أما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء والمعراج فهي مسألة فيها خلاف مشهور، والصواب: أنه لم يره ببصره.
رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
قال الموفق رحمه الله:[والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه].
ذِكر المصنف لمسألة رؤية الله سبحانه وتعالى داخل في تفصيل ذكره للصفات؛ لأن من صفاته سبحانه أنه يُرى يوم القيامة.
ورؤية المؤمنين لربهم في الآخرة تكون في مقامين:
الأول: في عرصات القيامة.
والثاني: بعد دخولهم الجنة، وهما من مسائل الإجماع المتفق عليهما بين السلف.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس الثامن و الخمسون
رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
وظاهر النصوص أن رؤيتهم له سبحانه وتعالى بعد دخولهم الجنة تكون أتم من تلك التي تقع في عرصات القيامة، فالرؤية بعد دخول الجنة هي المذكورة في قول الله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:26]، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة في الآية كما في صحيح مسلم وغيره، قال:(هي النظر، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم) وهذا من معاقد الإجماع الذي دل عليه الكتاب والسنة.
أدلة القرآن على رؤية الله تعالى في الآخرة
الدليل الأول: من أخص أدلة القرآن التي استدل بها السلف على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم وأصرحها قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
الدليل الثاني: قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وإن كان لفظ الزيادة لفظاً مجملاً إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الزيادة بالنظر إلى وجهه سبحانه وتعالى.
الدليل الثالث: قوله تعالى عن الكفار:{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، ومفهوم المخالفة من الآية:أن المؤمنين لا يحجبون عن الله يوم القيامة، كما ذكر ذلك الشافعي ومالك وجملة من السلف.
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس التاسع و الخمسون
أدلة القرآن على رؤية الله تعالى في الآخرة
الدليل الرابع: قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، فإن اللقاء إذا قُرن بالتحية تضمن النظر والرؤية معاً، وقد روى أبو عبد الله ابن بطة عن ثعلب -وهو من أئمة اللغة- الإجماع على أن اللقاء إذا قُرن بالتحية فإنه يستلزم أو يتضمن الرؤية.
الدليل الخامس: قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فإن المنفي هنا هو الإدراك، والإدراك قدر زائد عن أصل الرؤية، ولا يلزم من الرؤية للشيء الإدراك له والإحاطة به، فإنك تقول -ولله المثل الأعلى-: رأيت السماء، ومع ذلك لم تدركها، وتقول: رأيتُ القادم من بعيد.
وأنت لم تدركه: أهو زيد أم عمرو؟ أرجل أو امرأة؟ فإن من رأى قادماً من بعيد لا يرى إلا شخصه، ولا يميز من هو، أو ما يكون، فإذا قال: رأيت هذا القادم، فإن قوله صحيح، ولكن لا يمكن أن يقول: أدركته.
فلما قال تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) دل على أنه يُرى ولكن لا يدرك، فإنه لو كان سبحانه وتعالى لا يرى مطلقاً، ولا يراه المؤمنون؛ لما لزم نفي الإدراك، فإن الأصل إذا كان منتفياً فإن ما فوقه يكون منتفياً من باب أولى.
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس الستون
أدلة القرآن على رؤية الله تعالى في الآخرة
فإذاً: قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) دليل على ثبوت الرؤية، ووجه ذلك: أنه لما خص القدر الزائد على أصل الرؤية في النفي، دل ذلك على أن ما دونه -أي: ما دون الإدراك وهو أصل الرؤية- يكون ثابتاً وممكناً.
ومما يوضع في الاعتبار: أن في كتاب الله جملة من الدلائل هي محل تردد في الاستدلال بها على الرؤية بين أهل السنة؛ كقوله تعالى:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] وهذه الآية مختلف في صحة الاستدلال بها،فمن استدل بها رأى أن لفظ "مزيد" المراد به: الزيادة المفسرة بالسنة، ومن لم يذهب إلى هذا التفسير قال: يمكن أن يكون المزيد المذكور في هذه الآية ليس هو المراد بالزيادة في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس الواحد و الستون
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ببصره ليلة المعرج أم لم يره؟
هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين متأخري أهل السنة، وهم فيها
على قولين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج ببصره.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره.
والذي يميل إليه أتباع الأئمة من المتأخرين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، ولكن هذا المذهب وإن اشتهر عند المتأخرين -حتى قيل: إنه قول جمهورهم- إلا أنه غير معروف عند الصحابة رضوان الله عليهم، وغريب عند الأئمة المتقدمين ..
بل حُكي الإجماع على خلافه، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره، وممن حكى الإجماع على ذلك: الإمام الدارمي رحمه الله.
قد نقله عنه الموفق في المناظرة في مسألة الصفات، وهذا هو المشهور في مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من السلف، وسواء قيل: إن هذا إجماع منضبط صحيح، أو قيل: إنه إجماع سكوتي، فإنه لم يصح عن واحد من الصحابة أنه قال: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وإنما جواب
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس الثاني و الستون
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
وإنما جواب الصحابة على أحد وجهين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يره.
والثاني: أنه رآه بفؤاده.
فالأول جواب عائشة رضي الله عنها ومن معها، والثاني: جواب ابن عباس رضي الله عنهما ومن أخذ بقوله.
وعند التحقيق يظهر أن جواب ابن عباس رضي الله عنهما ليس معارضاً لجواب عائشة رضي الله عنها، بل يمكن أن يقال: إن جواب ابن عباس مؤيد لجواب عائشة رضي الله عنها؛ من جهة أن ابن عباس لما قصر الرؤية على الفؤاد دل على أن ما فوقه -وهي الرؤية البصرية- غير متحصلة.
أما المتأخرون فإنهم فهموا من كلام ابن عباس الإثبات للرؤية البصرية؛ لأن أصحاب ابن عباس يروون تارة الإطلاق، وتارة التقييد بالفؤاد، فصار من المتأخرين من يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وهذا غلط عليه؛ لأنه إنما كان يقول: رآه بفؤاده، ولم يقل: رآه ببصره.
الدرس الثالث و الستون
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
قال شيخ الإسلام: "فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه وتعالى لكان إظهار الامتنان عليه برؤيته له أولى من الإظهار لرؤية الآيات، فلما اقتصر ذكر القرآن على رؤية الآيات؛ دل على أنه لم يحصل له ما هو فوق هذا المقام وهو رؤيته لربه عز وجل".
وأما السنة: فقد روى مسلم عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً) وفي رواية أخرى لـ مسلم أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه)، وهذان الوجهان، قيل: إنهما محفوظان كلاهما، إلا أن الإمام أحمد في بعض أجوبته وكذا جملة من أئمة الحديث ينزعون إلى أن المحفوظ هو أحد هذين الوجهين، والمسألة فيها سعة.
والمقصود بقوله: (نور أنى أراه) إشارة إلى النور الذي حال دون رؤيته لربه سبحانه وتعالى، وهذا النور -والله أعلم- هو حجابه سبحانه وتعالى؛ فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه سلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الوجه الآخر: (رأيت نوراً)، أي: أنه رأى هذا الحجاب.
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس الرابع و الستون
رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة
مسألة: هل المنافقون والكفار من أهل الأوثان وأهل الكتاب يرون ربهم في موقف القيامة كما يراه المؤمنون أم لا؟
الجواب: أولاً: يقال: هذه المسألة ليست من مسائل الأصول، وأصلها هو مسألة رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة.
ثانياً: أي المسألتين أقوى مقاماً عند أهل السنة: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا أو رؤية الكفار؟
قيل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه أقوى؛ لأن الصحابة فمن بعدهم لهم فيها قول معروف، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وهذا مما دل عليه ظاهر القرآن والسنة الصحيحة، وأما رؤية الكفار لربهم فإن شيخ الإسلام قال: "إن الصحابة لم يحفظ عنهم قول معروف فيها، وإنما تكلم فيها الناس بعد الصحابة".
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس الخامس و الستون
رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة
وعلى كل حال فلأهل السنة فيها أقوال:
الأول: أن الكفار يرون ربهم، وإن كانت ليست رؤية نعمة وامتنان.
الثاني: أن المنافقين يرون ربهم دون بقية الكفار.
الثالث: أنه يراه المنافقون وغُبرات من أهل الكتاب، كما جاء في بعض الروايات في الصحيح.
الرابع: أن الكفار جميعاً لا يرون ربهم، وهذا هو ظاهر مذهب الأئمة، وهو الذي عليه الجمهور من أصحاب أحمد، وهو ظاهر القرآن في قول الله تعالى:{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، والذي يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -وإن كانت هذه المسألة من المسائل التي خالف فيها ابن القيم ابن تيمية رحمه الله - وخالفه ابن القيم فذهب إلى أن الكفار يرون ربهم، ويجعل هذا عاماً في سائر الكفار، ويستدل على ذلك بقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]،واستدل ابن القيم على ذلك بقوله: إن اللقاء عند العرب -كما ذكره ثعلب - يفيد الرؤية.
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس السادس و الستون
رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة
وهذا الاستدلال مما فات ابن القيم، فإن ثعلباً لما أورد هذا الكلام أراد به اللقاء المذكور في قول الله تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}[الأحزاب:44]، واللقاء المذكور في هذه الآية ليس هو المذكور في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}[الانشقاق:6]، فإن اللقاء في الآية الأولى قُرن بذكر التحية والسلام،
وأما اللقاء هنا فهو مطلق، والذي حكى ثعلب الإجماع عليه من هو المقرون بالتحية والسلام، وثعلب عندما ذكر كلام أهل اللغة عند قوله تعالى:(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ)، قال: إن العرب إذا ذكرت اللقاء مع التحية فإنه يفيد البصر والرؤية، وأما اللقاء المطلق فإنه لا يفيد ذلك، وهذا أمر معروف بالعقل والحس أن اللقاء المطلق لا يستلزم أو يتضمن النظر أو الإبصار، فما استدل به ابن القيم ورآه دليلاً قوياً فيه نظر؛ ولذا قال الجمهور من محققي أهل السنة كأمثال شيخ الإسلام -وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد -: إن الكفار لا يرون ربهم.
شرح لمعة الاعتقاد [8]
الدرس السابع و الستون
رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة
وهذا هو الصواب والأظهر في هذه المسألة، وإن كانت بعض روايات الحديث في السنة النبوية قد تشعر بأن الكفار يرون ربهم، ولكنها ورادة في مسألة أخرى.
وأما رؤيته سبحانه وتعالى لغير النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج -على الخلاف السابق- فهذا مما أجمع عليه عامة المسلمين بأنها لن تقع لأحد في الدنيا، ولم يدع شيء من ذلك إلا أهل الخرافة الذين يدعون أنه يُرى قبل الموت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت).
شرح لمعة الاعتقاد [9]
الدرس الثامن و الستون
تعتبر مسألة القدر من المسائل التي كثر النزاع فيها بين أهل القبلة، وكان موقف أهل السنة في هذه المسألة موقفاً وسطاً بين القائلين بأن للعباد مشيئة مستقلة عن مشيئة الله تعالى، وهم القدرية، وبين القائلين بأن العباد لا مشيئة لهم ولا إرادة، وهم الجبرية.
عقيدة أهل السنة في القضاء والقدر
قال الموفق رحمه الله:[ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى:{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:23]، قال الله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}[الفرقان:2]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد:22]، وقال تعالى:{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}[الأنعام:125]].
هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله لتقرير أصل خاص من أصول الدين، وهو: قدر الله سبحانه وتعالى، والإيمان بقدر الرب سبحانه وتعالى أصل من أصول الإيمان، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل:(الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) وقال ابن عباس:(القدر نظام التوحيد).
شرح لمعة الاعتقاد [9]
الدرس التاسع و الستون
عقيدة أهل السنة في القضاء والقدر
والقدر هو: فعل الله سبحانه وتعالى وقضاؤه وإرادته ومشيئته في سائر ما يقع في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؛ فلا يقع شيء إلا بإرادته ومشيئته، وهذا الأصل مجمع عليه بين المسلمين، ولم يقع النزاع فيه من جهة أصله، بل حتى عامة الكفار الذين يقرون بالربوبية يقرون بهذا القدر من حيث الجملة، وأما عند التحقيق فإنه لا يحقق جانب توحيد الربوبية فعلاً إلا مسلم مؤمن بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم،
وفرق بين الإيمان بالربوبية المجمل عند المشركين، وبين الإيمان المفصل بالربوبية عند المسلمين.
تعتبر مسألة القدر من المسائل التي كثر النزاع فيها بين أهل القبلة، وهل أفعال العباد من قيام وقعود وطاعة ومعصية داخلة في قدر الله وقضائه؟ أم أنها مختصة بالعباد؟
بمعنى هل يقال: إن هذه الأفعال بإرادة الله ومشيئته وخلقه، أم أن العباد يستقلون بها؟ أم يقال: إن العباد قد أجبروا على أفعالهم ولا إرادة لهم ولا مشيئة أمام إرادة الله ومشيئته؟
شرح لمعة الاعتقاد [10]
الدرس السبعون
يعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا أصل من أصول الدين عند أهل السنة، وقد خالفهم في ذلك بعض الفرق الضالة، كالخوارج والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الشيعة، وهؤلاء هم الوعيدية، وخالفهم كذلك المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، وهم في ذلك طوائف ودرجات.
عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان
أركان الإيمان
قال الموفق رحمه الله: [والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان].
القول في مسمى الإيمان هو أول أصل حصل فيه نزاع بين أهل القبلة، والمراد بأهل القبلة؛ هم السواد من المسلمين من أهل السنة أو غيرهم.
وهذا الخلاف ظهر في خلافة علي بن أبي طالب، لما أظهر الخوارج القول بأن مرتكب الكبيرة كافر، وأنه مخلد في النار، وهذا مبني على قولهم الباطل في مسمى الإيمان.
وأئمة السلف رحمهم الله أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وإنما اختلفت ألفاظهم وحروفهم، فالجمهور من أئمة السلف قالوا: الإيمان قول وعمل، وبعضهم قال: الإيمان قول وفعل، كما عبر بذلك البخاري في الرواية المشهورة عنه في صحيحه ..
ومنهم من عبر بأن الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، كما هو التعبير الذي ذكره المصنف، وهو قول الشافعي وجماعة من السلف، وهذا التعبير الثالث هو المشهور في كلام المتأخرين من أهل السنة.
شرح لمعة الاعتقاد [10]
الدرس الواحد و السبعون
أركان الإيمان
ومن التعابير السلفية أيضاً ما ذكره بعض عباد السلف ونساكهم؛ كـ سهل بن عبد الله التستري أنه قال: "الإيمان قول وعمل ونية واتباع للسنة".
وهذه التعابير السلفية وغيرها هل الخلاف بينها لفظي، أم خلاف تنوع، أم خلاف تضاد؟
نقول: الاختلاف بينها لفظي والخلاف اللفظي تكون فيه المعاني من جهة مراد أصحاب الألفاظ معانٍ واحدة لا فرق بينها، ولا اختصاص لواحد منها عن الآخر، أما خلاف التنوع فلا تكون المعاني يصدِّق بعضها بعضاً، ولكن بينها اختصاص، كأسماء الله سبحانه وتعالى، فهي متعددة: السميع، البصير، العزيز، الحكيم
فتجد أن كل اسم يختص بمعنى لم يذكر في الآخر بنفس الدرجة، وإن كان قد يكون لازماً في الاسم الآخر ..وهلم جراً. إذاً ..
تعابير السلف في مسمى الإيمان الاختلاف بينها لفظي محض.
شرح لمعة الاعتقاد [10]
الدرس الثاني و السبعون
أركان الإيمان
والمتكلمون من السلف يقصدون دخول أعمال القلب في الإيمان، لكن هذا التعبير فيه اختصار، ولذلك نقول: إن التعبير الذي يقول: الإيمان قول وعمل أتم وأحسن، وهو الذي عبر به جمهور السلف.
لكن قد يقول قائل: إن هذا التعبير ليس فيه ذكر للاعتقاد.
نقول: لما قال السلف: الإيمان قول وعمل.
أرادوا بالقول: قول القلب وقول اللسان، وأرادوا بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح.
أما قول القلب: فهو كل تصديق شرعي أخبر الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم به.
وقول اللسان: النطق بالشهادتين وغيرها مما يكون باللسان.
وعمل القلب: هو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له، مثل: المحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل
وغير ذلك.
وعمل الجوارح: كالصلاة والطواف بالبيت، والحج
إلى غير ذلك من الأعمال الظاهرة.
شرح لمعة الاعتقاد [10]
الدرس الثالث و السبعون
أركان الإيمان
والأعمال القلبية ثبوتها في النفس من جنس ثبوت الأعمال الظاهرة، فإن كل عاقل يدرك ما في قلبه من المحبة أو الخوف أو الرجاء أو التعظيم أو الإنابة أو الاستعانة أو غير ذلك من أعمال القلوب، بل إن ثبوت أعمال القلوب أخص من ثبوت أعمال الجوارح؛ ولذلك ليس هناك في الشريعة عمل واحد من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب، فإذا تجرد أي عمل ما من أعمال الجوارح الشرعي عن القلب تصديقاً وعملاً لا يصير عملاً شرعياً، فقد يكون نفاقاً كالمنافق إذا أظهر الصلاة وليس في قلبه التصديق، وقد تكون صورته صورة العمل الشرعي وهو ليس شرعياً، كشخص اغتسل من الجنابة أو لغسل الجمعة أو نحو ذلك مما شرع الغسل له كدخول مكة، فإذا اغتسل على قصد التقرب، قيل: غسله عبادة مشروعة، وإذا اغتسل تبرداً أو تنظفاً فهذا ليس من العبادات المقصودة لذاتها.
إذاً: عمل القلب أثبت من أعمال الجوارح، وذلك لأنه لا يمكن أن يوجد عمل من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب وتصديقه، فهذا التعبير الذي عليه الجمهور من السلف هو الصواب من جهة إحكام الألفاظ، وإلا فمعاني السلف كلها متفقة.
شرح لمعة الاعتقاد [10]
الدرس الرابع و السبعون
زيادة الإيمان ونقصانه
قال الموفق رحمه الله: [يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان].
هذا التعبير (يزيد وينقص) اختلف كلام السلف فيه اختلافاً لفظياً.
منهم من يقول: يزيد وينقص.
وهذا هو الذي عبر به جمهورهم.
ومنهم من يقول: إن الإيمان يتفاضل، وهذا تعبير عبد الله بن المبارك وجماعة من السلف.
ومنهم من يقول: إنه يزيد، ويسكت عن لفظ النقصان، وهو أحد أجوبة مالك، وإلا فعن مالك جواب بالتصريح بلفظ الزيادة والنقصان، ولذلك نرى طائفة من المالكية وبعض من تكلم عن مذهب مالك في الإيمان من المرجئة وبعض أهل السنة المتأخرين ولا سيما الشراح قالوا: إن مالكاً في إحدى الروايتين عنه يذهب إلى زيادة الإيمان، ولكنه لا يقول بنقصانه، ثم منهم من يقول: إنه ينفي نقص الإيمان، ومنهم من يقول: إنه يتوقف في نقص الإيمان، وكلا الفهمين لقول مالك غلط، فإن مالكاً رحمه الله إنما توقف في لفظ النقصان؛ لأن لفظ النقصان لم ينطق به القرآن، إنما في القرآن ذكر زيادة الإيمان وليس فيه ذكر نقصه، والتوقف في اللفظ لا يستلزم التوقف في المعنى؛ فضلاً عن نفي معناه.
شرح لمعة الاعتقاد [10]
الدرس الخامس و السبعون
زيادة الإيمان ونقصانه
فمن هنا قال مالك رحمه الله في بعض جواباته قطعاً لشبهة المرجئة وغيرهم الإيمان: يزيد.
ومن أقر بالزيادة لزمه أن يقر بالنقصان، ولهذا إذا قلت: ما دليل السلف على نقص الإيمان؟ قيل: الأدلة على زيادته؛ ولهذا سئل الإمام أحمد: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم.
قيل: أين هو في كتاب الله؟ فذكر الآيات التي فيها ذكر زيادته، قيل: ونقصه؟ قال: كما يزيد ينقص، أي: إذا سلم بزيادته لزم ضرورةً عقلية أنه ينقص، فهذا من فقه الإمام مالك رحمه الله.
ومن التعبيرات الشائعة عند المتأخرين أنهم يقولون: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو في الغالب يرتبط بالتعبير الذي يقول: الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان
إلخ.
شرح لمعة الاعتقاد [11]
الدرس السادس و السبعون
من أركان الإيمان:
الإيمان باليوم الآخر، فيجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن اليوم الآخر وما يتعلق به، كالقبر وعذابه ونعيمه، وكالبعث والنشور، والحساب والجزاء، والجنة والنار، ونحو ذلك، وهذه الأمور من الغيبيات التي لا مجال للاجتهاد فيها؛ بل يجب الإيمان والتسليم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
مسائل في الإيمان باليوم الآخر
قال الموفق رحمه الله: [ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به النقل عنه فيما شاهدناه، أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه].
حكم الإيمان باليوم الآخر وما يتعلق به
قال الموفق رحمه الله: [يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه].
مراده بذلك: جميع ما جاء ذكره في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: بما جاء في كلام الله ورسوله ..
لأن هذا من باب التجوز في العبارات، وإلا فإذا قيل: يجب الإيمان بما في كتاب الله؛ لزم من ذلك وجوب الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله إذا قيل: يجب الإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا التعبير يدل من باب اللزوم والضرورة على أنه يجب الإيمان بما أخبر به في كتاب الله سبحانه وتعالى.
شرح لمعة الاعتقاد [11]
الدرس السابع و السبعون
حكم الإيمان باليوم الآخر وما يتعلق به
أما ما يتعلق باليوم الآخر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان به من أصول الإيمان، كما في حديث جبريل قال (وتؤمن بالبعث الآخر) وفي رواية أخرى: (وتؤمن بلقائه) أي: بلقاء الله، وهو كثير في كلام الله سبحانه وتعالى في القرآن وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ويراد باليوم الآخر: ما يقع بعد الموت في القبر من الفتنة والسؤال والعذاب والنعيم، وذلك داخل في عموم هذا المقام.
الإيمان بمعجزة الإسراء والمعراج
قال الموفق رحمه الله: [مثل حديث الإسراء والمعراج].
الإسراء ذكره الله في كتابه صريحاً، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] وأما المعراج فإنه متضمن الذكر في كلام الله سبحانه، ولكن جاء تفصيله في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعة من الصحابة كـ أبي ذر، وأبي هريرة، ومالك بن صعصعة وغيرهم.
شرح لمعة الاعتقاد [11]
الدرس الثامن و السبعون
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أسري به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم عرج به عليه الصلاة والسلام إلى السماء، وكان مسراه يقظةً لا مناماً، وهذا الذي درج عليه أئمة السلف رحمهم الله، وهو الذي حدث به الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فإن ما كان حديثه صلى الله عليه وسلم عن وقوع هذا على سبيل اليقظة.
وأما أن هذا -كما يزعم بعض من ينكر ذلك- يخالف العقل فليس بصحيح، بل هذه قدرة الله، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ألم تر إلى كلام الله سبحانه وتعالى في قصة سليمان عندما قال عفريت من الجن: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39] فكان هذا من قدرات الجن.
وهنا قاعدة لا بد للمسلم أياً كان مقامه أن يتفطن لها، وهي: أن العقل لا يعارض النقل، وأما الشبهات التي أثيرت على الإسلام عند الماديين أو الشيوعيين أو بعض المنتسبين للإسلام ممن أبطلوا بعض الحقائق الشرعية باسم العقل أو ما إلى ذلك، فإنه ليس هناك تعارض في مسألة واحدة بين العقل والنقل، ولكن يفرق بين ما يسمى بالضرورة العقلية والضرورة الحسية المعينة، فالضرورة العقلية لا تخالف النقل، لكن الحس المعين قد يقع، ولكن هذا الحس ليس محكماً ولا معتبراً.
شرح لمعة الاعتقاد [11]
الدرس التاسع و السبعون
الإيمان بمعجزة الإسراء والمعراج
مثال ذلك: لو قال قائل: كيف يعذب الإنسان أو ينعم في قبره مع أنه مطمور في هذا التراب، فهذا مما يخالف العقل؟
نقول: الصحيح أنه لا يخالف العقل، لكنه يخالف الإدراك الحسي، والإدراك الحسي ليس معتبراً، ولا تقاس به النصوص، وإلا لما أمكن الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وغير ذلك؛ لأن الكيف مجهول كما قال السلف.
كذلك النائم يرى في منامه نعيماً ويتنعم به، مع أن من يشاهده لا يشاهد أنه تأثر بشيء، وقد يرى هو نفسه في ليلة أخرى أنه يعذب ويتألم بهذا العذاب، وربما قام كريه النفس، متأثر بما مسه من النصب أو العذاب أو ما إلى ذلك في منامه، وهذه أمور مشاهدة عند جملة من بني آدم، فهذا دليل عقلي على إمكان ما يقع في القبر من النعيم والعذاب.
ولو أن إنساناً غمر في الماء ساعةً فإنه يموت؛ لأنه لم يستطع التنفس، لكن حيوانات البحر إذا أخرجت من الماء ماتت؛ لأنها لم تستطع التنفس.
إن وجود هذا التعاكس يبين أنه ليس هناك ضرورات حسية مطردة، بل إنها إذا انتقلت إلى عالم حس آخر تغيرت، أما الضرورة العقلية فهي ثابتة، وهي لذلك لا تخالف النقل.
شرح لمعة الاعتقاد [12]
الدرس الثمانون
مما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر: الإيمان بأشراط الساعة، أي: علاماتها التي تكون قبل قيامها، وهي تنقسم إلى: صغرى وكبرى، فالصغرى تظهر قبل قيام الساعة بوقت طويل، وقد ظهر كثير منها، وأما الكبرى فلا تظهر إلا قرب قيام الساعة، وهي: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها.
الإيمان بأشراط الساعة
قال الموفق رحمه الله: [ومن ذلك أشراط الساعة].
التسمية بأشراط الساعة ثابتة في كلام الله سبحانه وتعالى، وقد قسم أهل العلم أشراط الساعة إلى: كبرى وصغرى وهذا تقسيم واسع، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون تقسيماً مقصوداً لذاته، فإنه قد يتعذر على كثيرين التمييز بين العلامات الصغرى من العلامات الكبرى، فإذا اعتبروا ذلك بالزمان أشكل، وإذا اعتبروا ذلك بالماهية أشكل ربطه
إلخ.
فإذا قلت: إن هذه الآيات منها ما هو آيات كبرى، ومنها ما هو آيات دون ذلك، فهذا لا بأس به، وأما التزام التعيين بأن المتقدم هي العلامات الصغرى والمتأخر هي العلامات الكبرى، فهذا ليس صحيحاً، فإنها لا تقاس بالزمان، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث بين يدي الساعة كما ثبت عنه ذلك في الصحيح، قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، وفي لفظ الترمذي: (بعثت أنا والساعة نستبق، كادت أن تسبقني فسبقتها).
شرح لمعة الاعتقاد [12]
الدرس الواحد و الثمانون
الإيمان بنزول عيسى عليه السلام
قال الموفق رحمه الله: [ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله].
عيسى عليه الصلاة والسلام هو من أولي العزم من الرسل، رفعه الله إليه ولم يمت، بل رفع إلى السماء الثانية؛ ولهذا لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم رأى عيسى في السماء الثانية ومعه يحيى بن زكريا، ولهذا قال: أو قال: (رأيت ابني الخالة: عيسى ويحيى).
وهذه هي عقيدة المسلمين في عيسى عليه السلام، خلافاً لعقيدة اليهود والنصارى.
هذا النبي الكريم ينزل آخر الزمان بعد خروج الدجال، فيقتل الدجال ويحكم في المسلمين بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وسنته، ولقد جاءت قصة نزول عيسى في الصحاح، وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان في سياق طويل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه الدجال، وأنه يخرج ويمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، وأنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية
إلى آخر ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الدجال.
فينزل عيسى عليه الصلاة والسلام فيتبع الدجال فيقتله في فلسطين، وكان نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في دمشق كما في حديث النواس بن سمعان قال: (فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهربتين، واضعاً يديه على أجنحة ملكين، كأن رأسه يقطر ماءً، إذا طأطأ رأسه تحدر منه جمان كاللؤلؤ) وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صفة موسى وعيسى فيما جاء عنه في الصحيحين وغيرهما.
شرح لمعة الاعتقاد [12]
الدرس الثاني و الثمانون
الإيمان بخروج يأجوج ومأجوج
قال الموفق رحمه الله: [وخروج يأجوج ومأجوج].
قيل: إنهم ليسوا من بني آدم، وهذا قول ضعيف، والذي عليه الجمهور أنهم من بني آدم، وهم من أمم الكفر كثيرو النسل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين عن أبي سعيد: (يقول الله: يا آدم! أخرج بعث النار.
قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فاشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا ذلك الرجل؟! قال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل).
وقد اشتغل بعض المتأخرين في تعيينهم، فبعضهم ذكر أنهم أهل الصين، وهذا من التكلف، فليس المقصود أن يعينوا بمقام أو بزمان معين، إنما الذي ينبغي أن يعرف أنهم قوم من بني آدم من الكفار، وهم موجودون، والدليل على وجودهم ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وأشار إلى السبابة وحلقها).
لكن إذا قيل: هؤلاء قوم كثر فأين هم الآن؟
قيل: لا يلزم أنهم قبل ميعاد خروجهم على هذا الحد من الكثرة، فإن خروجهم في آخر الزمان، ولربما أنه في آخر الزمان يهلك كثير من الناس ويكثر هؤلاء القوم ويكثر نسلهم، ثم يكون خروجهم.
شرح لمعة الاعتقاد [12]
الدرس الثالث و الثمانون
وإذا قال قائل: نحن الآن في آخر الزمان وليسوا هم الأكثر، إلا إذا فسرناهم بأجناس الكفار من النصارى في أوروبا وأمريكا، كما ذهب إلى ذلك بعض المعاصرين؛ فهذا أيضاً ليس بصحيح، وأقل ما يقال فيه: إنه قول بلا علم، فإن هؤلاء الكفار من النصارى واليهود لا يظهر من النصوص أنهم هم الذين يرادون بذلك.
وإذا قيل: هم في آخر الزمان، فأين هم وأين كثرتهم؟
قيل: وما يدريك أنك في آخر الزمان الذي معناه أنك بين يدي سنوات على قيام الساعة أو على خروجهم، أما إذا أريد بآخر الزمان، أن هذا الأمة في آخر الزمان فنبيها يقول: (بعثت أنا والساعة نستبق) فالنبي عليه الصلاة والسلام كان في آخر الزمان، أي في أيام الله التي قضاها لعباده في هذه الأرض قبل اليوم الآخر الذي يجمع فيه الناس.
ولذلك لا يصح أن يقال: إن الفتن بين أيدينا، وانتظروا خروج الدجال، وانتظروا خروج يأجوج ومأجوج ..
وليس المقصود أن نقول: إنها بعيدة، وإنما المقصود أن يقال: الله أعلم، ولا يجوز أن يظن أن الأمور بين يديه، كما لا يجوز أن يظن عكسه، إنما الذي يجب أن يقال: الله أعلم.
وقد يقع هذا حتى من بعض أهل العلم، ففي القرن التاسع قال بعضهم: إن بين يديهم المهدي، وظنوا أن المهدي هو الذي يختم القرن العاشر، وأن الأمة لن تتجاوز القرن العاشر، ثم سلفت الأمة بعدهم ما يقارب الخمسة قرون.
شرح لمعة الاعتقاد [12]
الدرس الرابع و الثمانون
الإيمان بخروج الدابة
قال الموفق رحمه الله: [وخروج الدابة].
هي دابة خلقها الله تعالى، وهي من أمارات الساعة الكبرى، تكتب في جبين من أدركته: إما مسلماً أو مؤمناً وإما كافراً، فالناس يهربون منها فيصيرون إليها، ولم يذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الاختصاص.
الإيمان بطلوع الشمس من مغربها
قال الموفق رحمه الله: [وطلوع الشمس من مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل].
الشمس تطلع من مشرقها، وإذا جاء ميعادها خرجت من مغربها، وحينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
الإيمان بطلوع الشمس من مغربها
قال الموفق رحمه الله: [وطلوع الشمس من مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل].
الشمس تطلع من مشرقها، وإذا جاء ميعادها خرجت من مغربها، وحينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
شرح لمعة الاعتقاد [13]
الدرس الخامس و الثمانون
عذاب القبر ونعيمه حق بإجماع أهل السنة وبصريح الكتاب والسنة، وهو يقع على الجسد والروح، خلافاً لبعض المبتدعة الذين قصروا عذاب القبر ونعيمه على الروح دون الجسد.
الإيمان بعذاب القبر ونعيمه
قال الموفق رحمه الله: [وعذاب القبر ونعيمه حق].
عذاب القبر ونعيمه حق بإجماع أهل السنة وبصريح الكتاب والسنة، وهو على الجسد والروح، ومن قال: إن العذاب يكون على الروح فقط، وأن الجسد بعد الموت لا يمسه شيء من العذاب؛ فهذا من أقوال أهل البدع، وأصله من أقوال المعتزلة، وإن زعمه بعض أصحاب الأئمة قولاً لطائفة من أهل السنة فهذا غلط عليهم، بل الصواب المجمع عليه بين الصحابة والتابعين والأئمة: أن عذاب القبر ونعيمه على الروح والجسد، وإن كان ماهية الاتصال للروح بالجسد بعد الموت ليست كماهية اتصال الروح بالجسد قبل الموت.
شرح لمعة الاعتقاد [13]
الدرس السادس و الثمانون
الإيمان بعذاب القبر ونعيمه
فإذا قال قائل: وكيف تتصل الروح بالجسد بعد الموت؟
قيل له: وهل أنت أدركت كيف تتصل الروح بالجسد قبل الموت؟ الذي يدركه الناس أن الروح موجودة وأنها محركة للجسد، هذا علم ضروري حسي، أما ماهية هذه الروح وكيف تتصل، وكيف تفارق
إلخ فكما قال الله تعالى: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85].
وفوق ذلك: الآيات المشاهدة في يقظة الإنسان وفي منامه تدل على صدق الآيات الغيبية مما قضى به الله سبحانه وتعالى مما يكون في القبر من النعيم والعذاب على الروح والجسد.
قال الموفق رحمه الله: [وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة].
قوله: (وأمره به في كل صلاة) أي: أمر بالاستعاذة من عذاب القبر، وهل ذلك على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب؟
الجمهور على أنه مستحب، وهو الصحيح، وهناك رواية عن الإمام أحمد وهي المرجحة عند متأخري أصحابه أن ذلك على الوجوب.
شرح لمعة الاعتقاد [13]
الدرس السابع و الثمانون
الإيمان بعذاب القبر ونعيمه
قال الموفق رحمه الله: [وفتنة القبر حق].
فتنة القبر هي ابتلاء الإنسان في قبره بالسؤال، يسأل عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن يجيب جواباً حقاً، والمنافق والكافر يتعذر عليه الجواب.
قال الموفق رحمه الله: [وسؤال منكر ونكير حق].
هذان هما الملكان، وقد سميا في حديث جاء في المسند وغيره بهذا الاسم، وقد ذكر الإمام أحمد ذلك واحتج به.
وأما لماذا سموا بذلك.
فلأن يقال: هذا مبني على ثبوت النص بذلك، فإن بعض أهل العلم لا يصحح هذه التسمية بثبوتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ثبوت أمر الملكين ثبوت بين صريح، لكن هل يسمى منكر ونكير؟ هذه مسألة أخرى.
وإذا كان كذلك؛ فلِمَ سموا بذلك؟ يقال: الله أعلم بذلك.
ويمكن أن يقال: إن هذا من باب ما يقع في مقامهما من الشدة والفتنة وما إلى ذلك.
شرح لمعة الاعتقاد [14]
الدرس الثامن و الثمانون
مما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالبعث والنشور بعد الموت، والنفخ في الصور، ونصب الموازين، والحوض، والصراط والمرور عليه، والإيمان بالشفاعة، وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي أنواع، أعظمها: الشفاعة العظمى، وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
الإيمان بالبعث
قال الموفق رحمه الله: [والبعث بعد الموت حق].
أي: بعث الناس من قبورهم، فإن جميع الناس يبعثون من قبورهم أو من مكان موتهم، وإن تفرقت أجزاؤهم وأجسادهم إما في البحر أو في ما شاء الله من الخلق، فإنهم يجمعون في يومهم الموعود ويحشرون إلى ربهم سبحانه وتعالى كما هو صريح في كلام الله ورسوله.
النفخ في الصور
قال الموفق رحمه الله:[وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون].
قوله: (من الأجداث) أي: من القبور، أو من مكان موتهم ورفاتهم.
شرح لمعة الاعتقاد [14]
الدرس التاسع و الثمانون
الإيمان بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
قال الموفق رحمه الله: [ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً].
هذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في الصحيحين وغيرهما، وقد اتفق أئمة الحديث على أن الناس يحشرون يوم القيامة على هذه الحال، وقوله: (غرلاً) أي: ليسوا مختنين.
قال الموفق رحمه الله: [فيقفون في موقف القيامة].
قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم:48] فالأرض ستبدل، ولا يمكن أن يقال: هي الشام أو غيرها، وإن كان هناك دلائل على أن أرض الشام لها اختصاص من جهة جمع الناس ليوم الحساب.
قال الموفق رحمه الله: [حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويحاسبهم الله تبارك وتعالى].
هذا مقام الشفاعة العظمى، وقد أجمع المسلمون على ثبوتها من أهل السنة وأهل البدعة، ولم يخالف فيها أحد، وهذه الشفاعة هي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف أن يقضي ويفصل الحساب بينهم، وقد تواترت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وحديثها في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعة من الصحابة كـ أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلحم، فرفع إليه الذراع فكانت تعجبه، فنهس منها نهسةً، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم؟
شرح لمعة الاعتقاد [14]
الدرس التسعون
الإيمان بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
فيأتون آدم فيعتذر عن الشفاعة، فيأتون نوحاً فيعتذر، فيأتون إبراهيم فيعتذر، فيأتون موسى فيعتذر، فيأتون عيسى فيعتذر، ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، قال: فأنطلق، فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي، ثم قال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي.
فيقال: أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى)، وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما.
والشفاعة العظمى دل عليها ظاهر القرآن كما في قوله تعالى: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] فإن المقام المحمود في تفسير السلف هو شفاعته صلى الله عليه وسلم.
شرح لمعة الاعتقاد [14]
الدرس الواحد و التسعون
الحوض والآثار الواردة فيه
قال الموفق رحمه الله تعالى: [ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً].
كذلك مما يجب الإيمان به حوضه صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، وهذه الجمل التي ذكرها المصنف في صفة هذا الحوض جاءت صريحة في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حوضه في أحاديث متواترة تواتراً معتبراً في الشرع والعقل واللغة واعتبار الأئمة، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من غير وجه، وإذا قيل: هل ورد ذكر الحوض في القرآن؟
الجواب: نعم.
ورد ذكره في القرآن على قدر من الإجمال كذكر مقام الشفاعة، فإن الله تعالى قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1].
شرح لمعة الاعتقاد [14]
الدرس الثاني و التسعون
الحوض والآثار الواردة فيه
وفي الصحيح عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً وهو يضحك، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟! قال: أنزلت عليَّ آنفاً سورة، ثم قرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] حتى ختم السورة، فقال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً) فذكر الكوثر في كتاب الله يتضمن ذكراً للحوض بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية.
وعليه فإنه يقال: إن حوضه صلى الله عليه وسلم مما أجمع السلف على الإيمان به، وصفته كما ذُكر في حديث أبي ذر وجابر بن سمرة وأبي هريرة وجماعة من الصحابة: أن طوله شهر، وعرضه شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، وهكذا وصفه صلى الله عليه وسلم تارة بالمقدار الزماني،
كقوله: (طوله شهر وعرضه شهر) وتارة بالمقدار المكاني، كقوله صلى الله عليه وسلم: (حوضي ما بين مقامي هذا إلى صنعاء اليمن)، وكقوله: (ما بين جرباء إلى أذرع) وهما بلدان في الشام إلى غير ذلك، فهذه أوصاف عرض حوضه صلى الله عليه وسلم كما ذكر.
وإن كان بعض شراح الأحاديث وقع عندهم شيء من التكلف في مقدار الحوض كما يقع أحياناً في لزوم الجواب عن مثل هذه التساؤلات:
فمنهم من قال: إنه ابتدأ بمقدار ثم زيد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما جاءه الوحي بزيادة في قدر هذا الحوض حدَّث به، فهذا هو وجه تعدد الروايات على قدر من الزيادة في بعضها دون بعض ..
إلى آخره، هذا فيما يظهر قدره من التكلف.
والعرب إذا تكلمت بمثل هذا الكلام لم ترد بالضرورة الأقيسة الرياضية والهندسية الدقيقة المطردة من كل وجه، إنما هو إشارة إلى معنىً عام.
فهذا الاستدراك في أصله ليس له موجب، وإنما يُعمل بهذه الأحاديث على إطلاقها.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [14]
الدرس الثالث و التسعون
الحوض والآثار الواردة فيه
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً يذادون عن حوضه كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح، قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وددت أنا قد رأينا إخواننا، قلنا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) ولهذا من أدركه وآمن به يسمى صاحباً له، ومن لم يدركه يسمى من إخوانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
(قلنا: يا رسول الله! كيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك؟ قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ثم قال: ألا ليذادُّن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم! ألا هلم! فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً) وفي رواية في البخاري قال: (فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك).
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [14]
الدرس الرابع و التسعون
الصراط وأحوال الناس فيه
قال الموفق رحمه الله: [والصراط حق يجوزه الأبرار، ويزل عنه الفجار].
ومما يجب الإيمان به الصراط، وهو يُنصب على متن جهنم، ويمر عليه الناس، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] أي: يرمون على الصراط، وهذا هو التفسير الصحيح للآية.
وأما من قال: إن الورود هو لفحة من لفحات النار فهذا ليس صحيحاً، فإن المؤمنين الأبرار المتقين من الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين لا يمسهم شيء من أثر النار وإن كانوا يمرون على الصراط.
وقد جاء في حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن العباد يمرون على الصراط، فيمر أولهم على صورة القمر، ثم ذكر أحوالهم في المرور، ومقدار مرورهم، كمرور الريح، وكأجاود الخيل والركاب ..
وما إلى ذلك، ومنهم من يخطف وهو على الصراط فيقع في نار جهنم ..
ومنهم من يتعثر فيلحقه مقام من مقامات الشفاعة، وذكر عليه الصلاة والسلام أن الأمانة والرحم تقومان على جنبتي الصراط، وأن الأنبياء والمرسلين يقولون: اللهم سلِّم سلِّم.
فهذه بعض مواقف الصراط يجب الإيمان بها على ظاهرها، كما يجب الوقوف على نصها الصريح فقط، وأما المعنى الذي لم يتضمنه النص الصريح مما يفرض العقل الاستفصال عنه فإن الواجب السكوت عنه.
وأيضاً: ثبت الصراط على وجه التحديد، وكذلك بعض مسائله، وقد روي فيه روايات منكرة في بعض كتب الرواية -ولا سيما في كتب الوعظ وذكر الجنة والنار والمآلات وما إلى ذلك- ذُكر في الصراط روايات منكرة في صفته وهيأته وما إلى ذلك، فهذا يعتبر فيه الثابت ثبوتاً بيناً، وأما ما تردد في ثبوته فإنه يسكت عنه.
شرح لمعة الاعتقاد [14]
الدرس الخامس و التسعون
الشفاعة وأنواعها
الشفاعة العظمى
قال الموفق رحمه الله: [ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحماً وحمماً، فيدخلون الجنة بشفاعته].
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وله صلى الله عليه وسلم شفاعات أعظمها وأجلها الشفاعة العظمى، وهي: شفاعته في أهل الموقف أن يُفصل بينهم، وقد أجمع المسلمون سُنيِّهم وبدعيِّهم على هذه الشفاعة، وذكرها في السنة متواتر، وقد ذكرت مجملة في القرآن كما قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] فإن المقام المحمود هو الشفاعة العظمى.
الشفاعة لأهل الكبائر
وله صلى الله عليه وسلم شفاعات كشفاعته في أهل الكبائر وهي على وجهين:
الوجه الأول: شفاعته فيمن دخل النار من أهل الكبائر أن يُعجَّل خروجه منها، وهذا أفصح من أن تقول: أن يخرج منها؛ لأن معنى ذلك أن الشفاعة لو لم تدركه لبقي، وهذا غير صحيح، فإن جميع من يخرج من النار لا يخرجون بشفاعة الأنبياء وإنما يخرجون من النار بوعد الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يُخلَّد في النار إلا من كفر به.
فإذا قيل: إن صاحب الكبيرة ليس مخلداً في النار، فما معنى الشفاعة له؟
قيل: معناها أن يعجل خروجه منها قبل استتمام عذابه الذي قضاه الله وعيداً عليه، فهذا هو معنى الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس معناه: أن الشفاعة لو لم تدركه لبقي مخلداً في النار، فإنه لا يخلد في النار إلا الكفار.
شرح لمعة الاعتقاد [14]
الدرس السادس و التسعون
الشفاعة لأهل الكبائر
وهذه الشفاعة ثابتة بحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي سعيد الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم أو بخطاياهم فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ...) إلى آخره.
فهذه الأحاديث واردة من حديث أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة في الصحيحين وغيرهما تدل دلالة صريحة على ثبوت الشفاعة، وخروج أهل الكبائر من النار، وفيها تصريح بدخول طائفة وخروجها، هذا وجه في شفاعته منصوص عليه في صريح السنة.
الوجه الثاني: شفاعته فيمن استوجب النار من أهل الكبائر أن لا يدخلها، وهذا يدل عليه عموم أحاديث الشفاعة، كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) وفي حديث يرويه سبعة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وإن كان هذا الحديث فيه كلام، لكن من أهل العلم من اعتبره.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [15]
الدرس الثامن و التسعون
الإيمان بالجنة والنار
وهناك قول ثالث انتصر له ابن القيم رحمه الله في كتابه: حادي الأرواح.
لابد لنا أن نعرف أن بين هذه الأقوال اختلافاً بيناً، فأشذها قول الجهم، ثم أقل منه قول أبي الهذيل العلاف، وهذان القولان من أقوال أهل البدع المعروفة، وابن القيم ذكر قولاً نذكره في مسألتين:
المسألة الأولى: أن القول الذي أشار إليه ابن القيم ليس قول أبي الهذيل ولا قول الجهم بن صفوان، ولهذا من رد على ابن القيم رحمه الله وقال: إن قوله هذا هو قول أبي الهذيل وجهم بن صفوان، هذا غلط على ابن القيم وزيادة عليه رحمه الله، والعدل واجب، والإنصاف لازم.
المسألة الثانية: أن ما جمعه ابن القيم في كتابه: (حادي الأرواح) من الآثار والأدلة فيه زيادة، فإن صح فهو اجتهاد من ابن القيم، أن عمر وجماعة من الصحابة وكبار أئمة التابعين كانوا يقولون بهذا القول، وهذا عليه ظواهر النصوص ..
إلى آخره، وافترق عليه السلف ..
والجمع بين الفريقين ..
إلى آخر تعبيرات ابن القيم رحمه الله.
فالمسألة لم تكن بهذا القدر أبداً عند السلف ولهذا لم ينتشر الخلاف فيها في كتب أهل السنة الأولى، ففيه تصوير زائد في المسألة، وإنما هذا قول يسير من أهل العلم فهموا هذا الفهم، وابن القيم مال إليه في هذا الكتاب ميلاً أو مقاربة أكثر منه إلى التصريح، فإنه يُقدم ثم يحجم رحمه الله عن التصريح والجزم.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [15]
الدرس التاسع و التسعون
وفي كتابه: (الوابل الصيب) عندما ذكر هذه المسألة نص على أن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان ولا تبيدان، وهذا قول مجمل، فهل ابن القيم رحمه الله اعتبر القول الذي ذكره في الوابل وكان متردداً في القول الثاني الذي ذكره في حادي الأرواح؟!
المسألة الثانية: أن ذكر ابن القيم رحمه الله لآثار سلفية، وانقسام أهل السنة ..
إلى آخره، المسألة ليست بهذا القدر، لم ينتشر الخلاف فيها في كتب أهل السنة الأولى ولا بين السلف، إنما ظاهر كلامهم المنقول عنهم -وهو الدوام- كما هو ظاهر كتاب الله وسنة نبيه.
مسألة: هل يقول ابن تيمية رحمه الله بفناء النار؟
كتب شيخ الإسلام رحمه الله ليس فيها ذكر لهذا القول أبداً، وإنما هناك رسالة محققة منسوبة لـ شيخ الإسلام ابن تيمية فيها جزم وتصريح بهذا القول، ونسبتها إليه لا تصح فهو غلط.
وشيخ الإسلام في كتبه نص في مواضع كثيرة على أن الجنة والنار لا تبيدان ولا تفنيان، وذكر أن هذا إجماعاً عند أهل السنة والجماعة، وأن خلافهم من أقوال أهل البدع، وما نطق بحرف واحد في كتبه المعتبرة المضبوطة عنه بأن النار تفنى.
وعلى فرض الجدل أن ابن القيم أو ابن تيمية رحمه الله يقول بفناء النار، فهذا اجتهاد قد انفردا فيه، وفاتهم فيه شيء، وأمره يسير، ولا يكون من المسائل المشكلة على طالب العلم.
شرح لمعة الاعتقاد [15]
الدرس المائة
أهل الجنة والنار مخلدون
قال الموفق رحمه الله: [وأهل الجنة مخلدون: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74] * {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: (يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت)].
هذه المسألة من الأحكام الغيبية التي يجب الإيمان بها من أن الموت يؤتى به في صورة كبش، وهذا من جنس قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي أمامة في الصحيح: (تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) مع أن القرآن -ومنه سورة البقرة- هو كلام الله، فهذا ليس معناه أن كلام الله ينقلب إلى أعيان مخلوقة، فإن كلامه سبحانه وتعالى صفة من صفاته في هذه الدنيا، وإذا قام الناس إلى ربهم سبحانه، فإنه يجيء ثوابهما؛ لأن صفات الله سبحانه وتعالى لها أثر، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بها يتراحم الناس، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأبقى تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة).
فصرح في الحديث بلفظ (الخلق) مع أن رحمة الله صفة من صفاته ليست مخلوقة، وهذه قاعدة أشار إليها شيخ الإسلام، -وإن كانت الرواية الأولى في صحيح مسلم ليس فيها ذكر الخلق، إنما فيها: (إن لله مائة رحمة).
ومنهم من قال بشذوذ رواية (للخلق)، وهذا لا موجب له من جهة المتن، فإن ابن تيمية رحمه الله ذكر قاعدة وهي: "أن الاسم قد يذكر ويراد به الفعل الذي هو الصفة، وقد يذكر الاسم ويراد به المفعول"، وهذا أثر من آثار هذا الاسم، كتسمية المطر من رحمة الله، فهذا أثر عن رحمة الله سبحانه وتعالى.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [15]
الدرس المائة و واحد
شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام في تعجيل القضاء بين العباد يوم القيامة
قال الموفق رحمه الله: [ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته].
يقصد المصنف بذلك الشفاعة العظمى، وهذه الكلمة لو لم يعبر بها المصنف لكان أشرف، فإن التعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم لا يجب أن يكون على حقوق الله.
فقوله: (ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته) الصواب: أنه يقضى بينهم ولو لم يشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما جاء بهم للفصل يوم الحساب إلا ليقضي بينهم، لكن هذا من تعجيل القضاء، فإذا قيل: هل شفاعته هي التي استوجبت القضاء، أم استوجبت تعجيله؟
نقول: هذه أحكام الله وحقوقه سبحانه وتعالى، لا يجوز أن يُصرف منها شيء لنبي من الأنبياء أو لرسول من الرسل.
فتعبير المصنف فيه إجمال لو لم يعبر به لكان أجود.
إذاً ..
يقضي الله بين الناس قضاءً، وهذا وعد الله وقدره السابق، لكن إنما كانت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم سبباً للتعجيل.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [15]
الدرس المائة و اثنين
أمة محمد صلى الله عليه وسلم أول الأمم دخولاً الجنة
قال الموفق رحمه الله: [ولا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته].
النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يدخل الجنة كما في الصحيحين عن أنس: (آتي يوم القيامة باب الجنة فيستفتح، فيقول خازنها: من أنت؟ فيقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك) وكذلك أمته هي أول الأمم دخولاً الجنة.
وقوله: (لا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته) هذا فيه قدر من الإجمال، ولا يلزم من هذا أن سائر طبقات هذه الأمة يدخلون قبل دخول بقية الأمم، فإن الأمم الأخرى فيهم الأنبياء، ولا شك أن الأنبياء مقامهم أشرف حتى من مقام الصحابة، وكذلك فيهم قوم صالحون وصديقون أفضل من كثير من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن في أتباع محمد السابق بالخيرات ..والمقتصد ..والظالم لنفسه ..وصاحب الكبائر ..إلى آخره.
إذاً ..
أمة النبي صلى الله عليه وسلم أول من يدخلون الجنة من جهة ابتداء الأمم لا من جهة كل الأفراد والأعيان، فهذا أمر ممتنع، ومثل هذه اللزومات في كلام بعض أهل العلم فيها تكلف، ككلام ابن حزم رحمه الله لما قال: إن نساء الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من العشرة المبشرين بالجنة؛ لأنهن نساؤه في الدنيا والآخرة، وإذا كن نساؤه في الجنة سيكن معه في درجته، ودرجته لا يبلغها العشرة المبشرون بالجنة! وهنا قيمة تكلف وظاهرية محضة من ابن حزم؛ لأنه لو لزم هذا المعنى للزم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الأنبياء والمرسلين، فمثل هذه الأمور قياسات لا وجه لها.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [16]
الدرس المائة وثلاثة
أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام، وهم في الفضل والمنزلة متفاوتون، فأفضلهم الخلفاء الراشدون، وأفضل الخلفاء أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم يليهم في الفضل باقي العشرة المبشرين بالجنة.
أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم خير الأصحاب
قال الموفق رحمه الله: [وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام].
أيضاً أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم أفضل أصحاب نبي، فإن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أصحاباً، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود في الصحيح: (ما من الأنبياء نبي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بهديه، ثم تخلف من بعدهم خلوف) فذكر عليه الصلاة والسلام أن كل نبي له أصحاب وحواريون.
وهذا باعتبار الجنس، وإلا ففي حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر مقام العرض قال: (ورأيت النبي وليس معه أحد) وظاهر النص يدل على أن بعض الأنبياء لم يصدقهم أحد ولا أتباع لهم، مع أنه قال في حديث ابن مسعود: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب).
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [16]الدرس المائة و أربعة
فضل الخلفاء الراشدين
قال: [وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى رضي الله عنهم أجمعين].
أفضل أمته صلى الله عليه وسلم هم أصحابه، وأفضل أصحابه هم الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
وهكذا وصفهم المصنف بهذه الصفات ورتبهم، وسلسلتهم على هذا القدر من الترتيب هو إجماع أهل السنة والجماعة، ولم يجادل في تفضيل أبي بكر وعمر إلا الرافضة الشيعة بوجه عام، فإن من الشيعة من يُثبت شأن أبي بكر في الجملة، لكنه يفضل علياً على أبي بكر وعمر، وهذا عليه جمهور الزيدية من الشيعة الذين يفضلون علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر.
فتفضيل أبي بكر على سائر الصحابة هو إجماع أهل السنة، ولم ينازع في ذلك إلا الشيعة وبعض المعتزلة الذين ليس بالضرورة أن يفضلوا علياً أو غيره عليه، وإنما قد يقطعون مسألة التفضيل، وهذه طريقة من طرق غلاة المعتزلة: لا يرون تعيين الفاضل على المفضول.
وقوله: [ثم عمر الفاروق] سمي بذلك لأنه كان فاروقاً في الحق، وأما ما يقال: إن الله فرق به بين الحق والباطل، وأنه بعد إسلامه جاهر الناس بالدعوة إلخ فلا شك أن إسلام عمر كان له أثر من ذلك، لكن هل هذا الاسم على هذا الوجه فيه تلازم؟
هذه مسألة ليست محررة على هذا المقدار.
وقوله: [ثم عثمان ذو النورين] وهو زوج بنتي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا سمي ذو النورين.
وقوله: [ثم علي المرتضى] وهذا الوصف يسير لا جدل فيه ولا غلط، فإن علياً ممن رضي الله تعالى عنه، وهو من السابقين الأولين، فهذا مقصود المصنف بهذه الجملة، وليس هو من أوصاف الشيعة في شأن علي بن أبي طالب.
قال الموفق رحمه الله: [لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره)].
هذا فيما يظهر ليس منضبطاً من جهة الرواية، فالمحفوظ عن ابن عمر أنه يقول: [كنا نقول على عهد رسول الله: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر] وأما أن فيه هذا التسلسل إلى آخره فلا أذكر أن هذا صحيح عن ابن عمر.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [16]
الدرس المائة وخمسة
التفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما
وأما مسألة عثمان وعلي فلم تكن من المسائل القطعية البينة في صدر هذه الأمة؛ ولهذا كان فيها قدر من النزاع، أيهما أفضل: علي بن أبي طالب أم عثمان بن عفان؟
وهذه من المسائل التي فيها قدر من الاجتهاد، ولكن لك أن تقول: إن أمر الخلفاء الأربعة مبني على مسألتين:
المسألة الأولى: مسألة الخلافة.
المسألة الثانية: مسألة التفضيل.
أما مسألة الخلافة فالإجماع منعقد ومطرد أن الخليفة الأول: أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً.
أما مسألة التفضيل بين علي بن أبي طالب وعثمان، فكان قوم يذهبون إلى أن علي بن أبي طالب أفضل من عثمان، والجمهور يذهبون إلى أن عثمان أفضل، وقوم يتوقفون.
والحق أن هذه المسألة في مبدئها لم تكن من المحكمات، فإن الذي كان مستفيضاً ومستقراً عند الصحابة في زمن الرسول وبعده هو تفضيل أبي بكر وعمر على سائر الصحابة، مع العلم بأن أبا بكر أفضل من عمر.
أما مسألة عثمان وعلي فلم تكن من المسائل البينة المستفيضة المحكمة؛ ولهذا تنازع فيها طائفة من السلف، فكان طائفة يذهبون إلى تفضيل علي بن أبي طالب، وطائفة يذهبون إلى تفضيل عثمان، وطائفة يتوقفون.
وإذا قلت: النصوص هي الحكم، فالنصوص ليست صريحة في تفضيل أحدهما كالنصوص المستقرة في شأن أبي بكر وعمر.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [16]
الدرس المائة وستة
الجهة الرابعة: أن آل البيت كانوا في ابتداء الأمر ينازعون في قضية أبي بكر قبل أن يتبين لهم الحق يظن فهل يظن أن آل البيت سيقدمون عثمان على علي؟! هذا بعيد، واضح أن آل البيت كانوا يرون أن لهم الخلافة من جهة أنهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذا الاستدلال ليس بمحكم؛ لأنه ليس بمستتم استتماماً تاماً.
مسألة: أنه لو سلم جدلاً أن الصحابة أطبقوا إطباقاً كلياً على تقديم عثمان في الخلافة، فإن التقديم في الخلافة لا يستلزم التقديم في الفضل، فإن الخلافة معتبرة بالديانة والقوة، أي: حسن الأمانة الإدارية، وليست الأمانة الدينية، ولعل المسلمين كانوا يرون في عثمان من هذا الوجه أميز منه في شأن علي بن أبي طالب، وهذا لا يلزم أن يكون من جهة فضيلته الشرعية ليس مماثلاً أو مقارناً له أو ما إلى ذلك.
إذاً: هذه المسألة ليس فيها نص محكم في تقديم عثمان على علي، ومن بابٍ أولى ليس فيها نص محكم في تقديم علي بن أبي طالب على عثمان، فهي مسألة فيها قدر من التردد، والجمهور على تقديم عثمان.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "وبعد ذلك استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان "، فهذا هو الذي يقال، لكن الاختلاف الأول حاصل، وهو اجتهاد باق لا ينكر على من خالف فيه -أي: من قال: إن علياً أفضل من عثمان، وعثمان مقدم في الخلافة- فهذا اجتهاد طائفة من السلف، وإن لم يُقَل: إنه راجح، فهذه مسألة أخرى.
سلسلة " شرح لمعة الإعتقاد "
شرح لمعة الاعتقاد [16]
الدرس المائة و سبعة
التفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما
وإذا قيل: إن الصحابة أجمعوا على تفضيل عثمان على علي، وقالوا: من لم يقدم عثمان في التفضيل فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين والأنصار قدموه في الخلافة، وما قدموه إلا لكونه الأفضل.
وهذا الاستدلال فيه نظر من عدة أوجه:
الجهة الأولى: أن المهاجرين والأنصار كان عندهم قدر من التردد في التقديم، والدليل على ذلك: أن عمر جعل الخلافة في ستة من الصحابة، وهؤلاء الستة كل منهم وضع حقه لواحد، فأحدهما وضع حقه لـ عثمان، والآخر وضع حقه لـ علي، فدل على أن من الصحابة الستة الكبار من كان يرى تقديم علي بن أبي طالب على عثمان.
الجهة الثانية: أنه لو كان مستفيضاً عند الصحابة التقديم لـ عثمان لكان أولى بهذا التسليم علي بن أبي طالب، وما كان له، وما كان من شأنه أنه يكابر في الحق، فلو كان مستقراً عنده من السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان هو الأفضل وهو المقدم لما نازعه في مسألة الخلافة، فإن علياً لم يتنازل عن الخلافة.
الجهة الثالثة: أن الأمر لما انحصر فيهما، وبدأ يشاور المسلمين في الخلافة، رأى أن أكثر المسلمين يقدمون عثمان، فهل هذا إطباق عند كل أعيانهم أم أنه أخذ الأمر بالأكثر؟
ظاهر الأمر أنه أخذ الأمر بالأكثر.
شرح لمعة الاعتقاد [16]
الدرس المائة و ثمانية
التفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما
ولهذا فإن الصحيح في مذهب الإمام أحمد: أن من قدم علياً على عثمان في الفضل فهذه مسألة اجتهاد لا يبدع فيها المخالف، وإن كان الإمام أحمد حكي عنه رواية أخرى بتبديع المخالف، وهذا ليس بمحكمٍ في مذهبه، بل الصواب في مذهبه ما حكيناه سابقاً وهو الذي نصره شيخ الإسلام وإن كان الجمهور من أهل السنة -وهو الذي استقر عليه أمرهم- هو التقديم لـ عثمان، وهذا هو الراجح من جهة الترجيح، لكن من خالف في ذلك لا يسمى مبتدعاً.
قال الموفق رحمه الله: [وصحت الرواية عن علي أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث)].
من هو الثالث؟ الله أعلم.
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها في الصحيح أنها كانت ترى لـ أبي عبيدة بن الجراح مقاماً، فترى أنه كان المستحق لثالث الخلفاء، فهذا فيما يظهر مقام تردد بين الصحابة رضي الله عنهم، لكن المجمع عليه عند أهل السنة والجماعة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان وعلي، فهؤلاء الخلفاء الأربعة هم أفضل الأمة بالإجماع وأفضل من أبي عبيدة بن الجراح،
وما أشارت إليه عائشة لم يكن في مسألة التفضيل إنما كان في الخلافة، ومسألة الخلافة تختلف عن مسألة التفضيل.
وأيضاً عمر لو كان مستقراً عنده أن ثمة تلازماً بين الفضل وبين الخلافة لجعلها في الفاضل عنده، سواء كان علياً أو عثمان، فما الذي جعله يجعلها في ستة؟ لأنه ليس هناك تلازم بين تفضيل المعين من جهة ديانته وبين صلاحيته أو تقديمه في مقام الخلافة، فالمقام فيه اشتراك لكن فيه امتياز.
شرح لمعة الاعتقاد [16]
الدرس المائة و تسعة
أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين أبو بكر الصديق
فواضح من هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام أن أخص الناس به أبو بكر، وجدال الشيعة في هذا الباب من المجادلة بالباطل، وآل البيت رضي الله تعالى عن صالحهم ممن كان من الصحابة أو من بعدهم ليس لهم حق من جهة الاختصاص بالخلافة، بل الخلافة معتبرة في ما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم في قريش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش).
قال الموفق رحمه الله: [ثم من بعده عمر لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان لتقديم أهل الشورى له].
قوله: (لتقديم أهل الشورى له) هذه مسألة فيها بعض التردد، وإنه استدلال ليس بمحكم على التمام.
قال الموفق رحمه الله: [ثم علي لفضله وإجماع أهل عصره عليه، وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)].
قوله: (وهؤلاء الخلفاء) أي: هم خلفاء الرسول في أمته، أما من كان من بعدهم فإذا سمي خليفة فبمعنى أنه مستخلف على المسلمين سلطاناً وملكاً، وهذا هو الفرق بين الاسمين من جهة المعنى، وإن كان بينهما اشتراك في اللفظ.
شرح لمعة الاعتقاد [16]
الدرس المائة و عشرة
الشهادة للعشرة بالجنة وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم
قال الموفق رحمه الله: [ونشهد للعشرة بالجنة كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)].
هؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة، ولا يعني ذلك قصر البشارة النبوية عليهم، بل كل من شهد له النبي عليه الصلاة والسلام يقال: إنه في الجنة؛ وهذا متفق عليه بين أهل السنة، وإن كان حصل بين الإمام أحمد وابن المديني خلاف لفظي، فإن ابن المديني كان يقول: من قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه في الجنة أقول: إنه في الجنة، ولا أشهد.
فقال الإمام أحمد: إذا قلت فقد شهدت، فكان هناك تردد من ابن المديني في اللفظ.
قال الموفق رحمه الله: [وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها، كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وقوله لـ ثابت بن قيس: (إنه من أهل الجنة)].
وأيضاً: شهادته لـ عكاشة بن محصن أنه من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فهذا أمر مشهور عن طائفة من الصحابة عينهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو من سواد الأمة من أصحابه وغيرهم فهؤلاء يتوقف في شأنهم، فيرجى للمحسن ويخاف على المسيء.
لكن ثمة مسألة حصل فيها قدر من النزاع بين أهل السنة: من استفاض ذكره والثناء عليه في الأمة من الأئمة والعلماء وأمثال هؤلاء هل يجزم أو يشهد لهم بالجنة، أم يتوقف فيهم كما يتوقف في من لم يستفض ذكره؟
هذا فيه قولان: الجمهور يرون التوقف، وأن الاستفاضة بالثناء لا تستلزم الشهادة بالتعيين، وهذا هو الصحيح.
القول الثاني: أن من استفاض ذكره يُشهد له بالجنة، ويستدلون على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار) وهذا الاستدلال ليس بمحكم؛ لأن مراده صلى الله عليه وسلم أن الثناء أو الشهادة من موجبات الموافقة للحقائق في نفس الأمر عند الله تعالى، وليس معناه: أن من أثني عليه بخير لزم أنه مشهود له بالجنة، فهذا ليس داخلاً في نص الحديث ولا تضمنه، هذا مقام آخر لم يتضمن الحديث ذكراً له.
شرح لمعة الاعتقاد [17]
الدرس المائة و إحدى عشر
من عقيدة أهل السنة والجماعة: عدم الجزم والشهادة لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، إلا من جزم له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وعدم تكفير أحد من أهل القبلة بذنب يرتكبه إلا أن يكون الذنب شركاً وكفراً.
حكم تارك الصلاة
قال الموفق رحمه الله: [ولا نخرجه عن الإسلام بعمل].
هذه أيضاً جملة مجملة؛ فإن تارك الصلاة كافر عند جمهور من السلف، وكذلك تارك الزكاة المقر بوجوبها فيه نزاع، وتارك الصوم فيه نزاع، وتارك الحج فيه نزاع.
وابن قدامة رحمه الله يذهب إلى أن تارك الصلاة ليس كافراً، ومن باب أولى عنده تارك الزكاة وتارك الصوم وتارك الحج، فما دام أنه مقر بالوجوب فعنده لا يكفر أحد بترك الصلاة أو بترك الزكاة أو بترك الصوم أو بترك الحج.
وابن قدامة ممن يستدل بالإجماع على عدم كفر تارك الصلاة، وإذا قيل له: ما الإجماع؟
يقول: إن تارك الصلاة لو كان كافراً لما صلي عليه، ولما دفن في مقابر المسلمين، ولما ورث
وما إلى ذلك.
ولم ينقل أن واحداً من المسلمين تركت الصلاة عليه، أو لم يدفن في مقابر المسلمين، أو منع من التوارث بحجة أنه تارك للصلاة.
شرح لمعة الاعتقاد [17]
الدرس المائة و إثنا عشر
حكم تارك الصلاة
قال: فعدم إجراء أحكام الكفار عليه، دليل على أن أهل العلم كانوا يذهبون إلى عدم تكفيره، ولو كانوا يذهبون إلى تكفيره لأخذ بهذه الأحكام، ولو أخذ بهذه الأحكام لنقل؛ ومن هنا ظن رحمه الله أن المسألة فيها وجه من الإجماع على عدم كفره.
ومسألة تارك الصلاة هل فيها إجماع أو ليس فيها إجماع؟
نتناول هذه المسألة من عدة مسالك:
المسلك الأول: حكى إسحاق بن إبراهيم الحنظلي من الأئمة المتقدمين الإجماع على أن تارك الصلاة كافر، وأيوب السختياني يقول: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه.
وعبد الله بن شقيق يقول: كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة.
هذا مسلك جماعة من السلف: أنهم كانوا يذهبون إلى تكفير تارك الصلاة، ويرون أن كفره إجماع.
المسلك الثاني: ذهب طائفة من السلف إلى كفر تارك الصلاة، ولكنهم لا يعتبرون كفره بالإجماع، وإنما بظواهر الأدلة.
المسلك الثالث: الذين لا يعتبرون كفره، وهؤلاء بنوا المسألة على فرعين:
الفرع الأول: منهم من بنى المسألة على عدم ظهور الدليل على كفره كـ مالك والشافعي والزهري.
الفرع الثاني: ومنهم من بنى عدم كفره على كون الصلاة عملاً، والعمل لا يكفر تاركه، فهذا لا شك أنه من أصول المرجئة، وقد كان يعلل بمثل ذلك -في عدم تكفير تارك الصلاة- حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأمثاله من فقهاء الكوفة المرجئة.
شرح لمعة الاعتقاد [17]
الدرس المائة و ثلاثة عشر
حكم تارك الصلاة
فإذا قيل لك: من لم يكفر تارك الصلاة هل قوله من أقوال المرجئة؟
الجواب: فيه تفصيل: إن بنى عدم تكفيره على أن الصلاة عمل ولا يكفر تارك العمل، فهذا من المرجئة.
وإن بنى ذلك على أن الدليل لم يظهر بكفره، ويقول صاحب هذا القول: إن العمل أصل في الإيمان، وداخل في مسماه، ولكنه لا يكفر بترك فريضة واحدة كالصلاة، فهذا ليس من أصول المرجئة ولا من طرقهم ولا من آثارهم، وقد كان مالك بن أنس رحمه الله والشافعي وقبلهم الزهري يذهبون إلى عدم كفر تارك الصلاة، ويبنونه على عدم ظهور الأدلة لا على أن الصلاة عمل، فإن مالكاً والزهري والشافعي من أشد الناس على المرجئة، ويرون العمل أصلاً في الإيمان.
فهذا وإن كان اجتهاداً مرجوحاً فإن الصواب الذي عليه الجمهور من السلف والمحققون من المتأخرين من أهل السنة كـ شيخ الإسلام أن تارك الصلاة كافر، وهذا هو ظاهر النصوص كحديث جابر بن عبد الله وبريدة وأمثالها، وهو ظاهر مذهب الصحابة في كلام عبد الله بن شقيق.
شرح لمعة الاعتقاد [17]
الدرس المائة و أربعة عشرة
وعليه: فالأظهر أن حكاية الإجماع ليست منضبطة، فإن الزهري خالف وهو أعلم بأقوال الصحابة من إسحاق.
ثم إن كلام إسحاق بن إبراهيم رحمه الله فيه إشكال، فإنه قال في كلامه الذي رواه محمد بن نصر عنه وغيره: "أجمع أهل العلم من زمان رسول الله إلى زماننا هذا أن من ترك صلاةً واحدة حتى خرج وقتها أنه كافر" مع أن جمهور المكفرين لتارك الصلاة لا يكفرون بصلاة واحدة، ففي كلامه بعض الإشكال وقد يخرج هذا القول على أن إسحاق كان يرى الإباء، أي: من أبى قضاء الصلاة وامتنع، والممتنع كافر عند السلف بالإجماع، كمن دعي إلى الصلاة وقيل له: صل وإلا قتلت فقدم القتل على الصلاة فهذا يقتل مرتداً بإجماع السلف، ولا يكون ذلك إلا عن زندقة كما قال ذلك شيخ الإسلام.
فالمسألة محتملة، وكلام عبد الله بن شقيق الأظهر أنه إجماع سكوتي، والإجماع السكوتي حجة محتملة وليس حجةً قطعية؛ لأنك إن قلت: إن فيها إجماعاً قطعياً مثل إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل؛ لزم من ذلك أن مخالفة الزهري ومالك خروج عن الإجماع القطعي؛ لأن من خالف الإجماع القطعي فقوله بدعة ولا شك، ويجب الإنكار عليه إلى غير ذلك.
وأما ما يقال: إن مالكاً أو الشافعي لم يثبت عنه ذلك، بل هذا من كلام الشافعية نسبةً إلى الشافعي، أو المالكية نسبةً إلى مالك.
شرح لمعة الاعتقاد [17]
الدرس المائة و خمسة عشر
فنقول: هذا ليس صحيحاً من وجهين:
الوجه الأول: أن المالكية تواردوا نسبة هذا القول إلى مالك، والشافعية تواردوا نسبة هذا القول إلى الشافعي، وإن كان من الشافعية وغيرهم كـ الطحاوي حكى عن الشافعي قولاً آخر لا بأس به.
فتوارد المالكية والشافعية في ذكر مذهب الشافعي ومالك يمتنع أن يكون غلطاً، والأصحاب قد يخطئون على الإمام إذا كانوا جماعات أو أفراداً، أما إذا أطبقوا فمن الممتنع أن يغلطوا على إمامهم.
الجهة الثانية: أن كبار المحققين المعروفين بضبط الفقه والخلاف، بل يعد عند العلماء من أضبط الناس لفقه السلف كـ محمد بن نصر المروزي ذكر الخلاف عن مالك والشافعي في عدم تكفير تارك الصلاة مع أنه ذكر إجماع إسحاق، فكان يقول: "من السلف من كان يرى هذه المسألة إجماعاً"، ثم ذكر كلام إسحاق وأيوب السختياني، وأثر عبد الله بن شقيق، ثم يقول: "ومن السلف من كان يراها خلافاً".
ثم ذكر رأي الزهري ومالك والشافعي.
شرح لمعة الاعتقاد [17]
الدرس المائة و خمسة عشر
حكم تارك الزكاة
مسألة الزكاة لا شك أنها مسألة خلاف، وكذلك الصوم والحج، وهذه قطعاً ليس فيها إجماع، وحتى عبد الله بن شقيق ألم يقل: "كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة" فظاهر كلام ابن شقيق أن الزكاة عند الصحابة لم يستقر أمرها على الكفر؛ لأنه يقول: (إلا الصلاة) وهذا لا يعني أن الصحابة أجمعوا على عدم كفر تارك الزكاة كما يقوله بعض أصحاب الأئمة، بل الصواب: أن مسألة الزكاة خلافية بين الصحابة، وكذلك الصوم والحج.
هنا مسألة وهي: من امتنع عن الزكاة وقاتل عليها فحكمه أنه مرتد، كالممتنعين عن أداء الزكاة الذين قاتلوا الصحابة في زمن أبي بكر الصديق، فالممتنعون المقاتلون على منع الزكاة كفار مرتدون كما حكاه أبو عبيد مذهباً للصحابة، وليسوا بمنزلة من ترك الزكاة وهو فرد من أفراد المسلمين في وسطهم، ولم يقاتل، ولم يمتنع بطائفة.
وقد كان مالك بن أنس رحمه الله يقول: "إن تارك الزكاة ليس كافراً"، ولما سُئل عن الممتنعين في زمن أبي بكر قال: "إنهم مرتدون"، فواضح عند السلف التفريق بين الترك المفرد وبين الامتناع أو الاجتماع على الإباء ونحوه.
شرح لمعة الاعتقاد [18]
الدرس المائة وستة عشر
حكم الصلاة خلف السلطان الفاجر
قال الموفق رحمه الله: [وصلاة الجمعة خلفهم جائزة].
صلاة الجمعة خلف السلطان ولو كان فاجراً جائزة، حتى ولو لم يكن سلطاناً وكان رجلاً فاسقاً، فإن الصلاة خلف الفاسق جائزة، وإن كان يُنهى عن تقديم الفساق في الصلاة،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث أبي مسعود في الصحيح: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) لكن إذا صلى الفاسق فلا يجوز للمسلم أن يتحرج عن الصلاة خلفه؛ ولهذا ينبه إلى أن بعض الشباب أحياناً تدركه صلاة فائتة في مسجد، فيرى أن الإمام عليه أمارات بينة في الفسق، فيتعجل فيصلي وحده لعدم ثقته في صلاة هذا، وهذا لا شك أنه لا أصل له اللهم إلا إن كان هذا الذي يصلي من أهل البدع المعروفين فلا يصلي خلفه، وأما الفساق من المسلمين فمن تقدم في الصلاة فإنه يصلى خلفه وإن كان تقديمه ليس هو الأصل، بل هو منهي عنه، أما أهل البدع فلا يصلى خلفهم.
قال الموفق رحمه الله: [قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار) رواه أبو داود].
هذا حديث رواه أبو داود، وهو متكلم في صحته.
شرح لمعة الاعتقاد [19]
الدرس المائة وسبعة عشر
من عقيدة أهل السنة والجماعة: تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والدفاع عنهم، والكف عن مساويهم وما حصل بينهم من شجار أو قتال. ومن عقيدتهم: الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والاعتراف بفضلهن وسابقتهن، وأن معاوية رضي الله عنه خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول رب العالمين، وأحد خلفاء المسلمين. ومن عقيدتهم: وجوب السمع والطاعة لأمراء المسلمين وأئمتهم، وعدم الخروج على ولاة المسلمين وإن كانوا ظالمين.
من السنة تولي أصحاب رسول الله ومحبتهم وذكر محاسنهم
قال الموفق رحمه الله: [ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساويهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم].
هذا كله مستقر أن من السنة التولي لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصنف عبر بقوله: (والترحم عليهم) ولو عبر بالترضي لكان أجود، فإن الله يقول: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18]، ويقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:100]
فالذي درج عليه أهل العلم وأهل السنة هو الترضي عن الصحابة، وأما من بعد الصحابة فإنه يترحم عليه، وهذا كله دعاء، وليس خبراً، ومع ذلك قدر يقع قدر من التوسع في ذلك، فأحياناً يُترضى عمن من بعد الصحابة فهذا لا بأس به، بل حتى ما هو فوق ذلك وهي الصلاة والسلام، فإنها خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما قصد الاطراد، وإلا إذا قيل: هل يجوز أن يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم فيقال مثلاً: أبو بكر عليه الصلاة والسلام؟
ذهب: الجمهور من أهل السنة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والصحيح في مذهب أحمد أن هذا جائز، وإذا قيل: إنه جائز.
ليس معناه أنه مشروع، إنما المراد أنه مأذون فيه ولا ينكر، وبشرط ألا يختص بمعين غير النبي صلى الله عليه وسلم، وألا يكون مطرداً.
أي: دائماً لا يذكر أحد من الصحابة إلا ويقول: عليه الصلاة والسلام! هذا لا شك أنه بدعة، أو خصص صحابياً من الصحابة بعينه كـ علي أو غيره من آل البيت بذلك فلا شك أن هذا بدعة، وأما إذا عرض أحياناً فإنه سائغ، وقد قال ابن عباس لـ عمر: [عليك الصلاة والسلام]؛ فأقره.
شرح لمعة الاعتقاد [19]
الدرس المائة و ثمانية عشر
الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والاعتراف بفضلهن
قال الموفق رحمه الله: [ومن السنة الترضي عن أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة بنت الصديق، التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم].
أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه هي خديجة وعائشة، وقد أجمع أهل السنة على أن أفضل نساء هذه الأمة ثلاث: عائشة، وخديجة، وفاطمة، ثم اختلفوا، فمنهم من فضل عائشة، ومنهم من فضل خديجة، ومنهم من فضل فاطمة، ومنهم من توقف، وهذه مسألة اجتهادية فيها سعة.
ومن قذف عائشة رضي الله عنها بعدما تبين له النظر في كتاب الله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] فمن لم يعتبر بهذا المذكور في كلام الله سبحانه وتعالى وأصر على ذلك فلا شك أنه كافر؛ لأن هذا تكذيب للقرآن.
شرح لمعة الاعتقاد [19]
الدرس المائة و تسعة عشر
فضل معاوية وتبرئته من الفسق والنفاق
قال الموفق رحمه الله: [ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين رضي الله عنهم].
الطعن في معاوية من طرق أهل البدعة المخالفين للسنن والآثار، ومن يطعن فيه من الشيعة فإنهم يخالفون أصول أئمتهم الذين هم أئمة الهدى إذا صح أن لهم أئمة على هذا الاختصاص، وإلا فالحق أن علي بن أبي طالب -وإن كان إماماً- والحسن والحسين لم يختصوا بطائفة، ولم يجعلوا أنفسهم أئمة مختصين بطائفة معينة، بل كانوا أئمةً لسائر المسلمين من أهل البيت وغيرهم.
فهذا الحسن بن علي -وهو من أئمة آل البيت- لما صار إليه الأمر تنازل به لـ معاوية، فلو كان معاوية في نظر الحسن بن علي وأئمة آل البيت رجلاً فاسقاً أو منافقاً -فضلاً عن كونه كافراً- لما أمكن الحسن بن علي أن يتنازل بملك المسلمين ورقابهم وسلطانهم وطاعتهم وولايتهم لرجل فاسق.
وأما ما يعتذر به بعض الشيعة من أن هذا من التقية عند الحسن فهذه سفسطة لا صحة لها.
وأما إذا قيل: إنه كان عاجزاً فهذا يرده الواقع التاريخي، فقد جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الرحمن بن حسنة: "أن الحسن بن علي استقبل معاوية بكتائب أمثال الجبال، فلما بلغ معاوية وقد حرضه بعض أهل الشام على المواجهة قال: إذا قتل هؤلاء هؤلاء من لي بضعفة المسلمين! من لي بنسائهم! من لي بذراريهم
إلخ".
فكان معاوية رفيقاً والحسن أيضاً كان رفيقاً حتى حصل الصلح بينهما.
إذاً: تنازل الحسن بن علي دليل على أنه يرى أن معاوية رجل صالح فاضل، بريء من الفسق فضلاً عن الكفر والنفاق.
يتبع بإذن الله....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق