أهمية مواسم الخيرات في رحلة الحياة 1
قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ
وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (النحل:٩).
الناظر في سياق هذه الآية من سورة النحل،
يرى بها لفتة عجيبة لابد من التفكير فيها،
فسورة النحل هي سورة النعم، وقد بدأت بذكر
أعظم نعم الله على عباده، وهي:
نعمة تعريفهم بأركان الإيمان، بدءا بيوم
القيامة و الملائكة والرسل، ثم تعريفهم بانفراده بالألوهية،قال تعالى :{أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ
مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ
إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)}
ثم نعمة خلق السموات والأرض، من جهة كونها
دليلا؛ يستدلون به على صفات خالقهم ،ويعلمون من خلاله استحقاقه للتوحيد، وتعاليه عن
الشريك سبحانه:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ
تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (3).
ثم ذكر مبتدأ خلق الإنسان، وكيف صار مجادلا
مخاصما للحق بالباطل، متغافلا عن الذي طور خلقه، من نطفة مهينة، إلى علقة، إلى مضغة،
إلى أن منحه نعمة العقل، والنطق؛ فنطق بالكفر
!!{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ
خَصِيمٌ مُّبِينٌ} (4)
ثم ذكر سبحانه وتعالى نعمة الأنعام ، ومنافعها
الجمة، في الدفء، والأكل، والزينة، وحمل الأثقال إلى بلاد لم يكونوا ليبلغوها إلا بشق
الأنفس:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ
تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ
إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيم (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)}
ثم أتت هذه الآية الملفتة بين آيات النعم:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ
ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}
فمامعنى: {وعلى الله قصد السبيل}؟
وماأهمية أن يكون على الله قصد السبيل؟
وما واجب العبد تجاه ذلك؟
وما علاقة الهداية بقصد السبيل ؟!
فلنتأمل !
يحتاج المسافر إلى أن يهتدي لأخصر طريق يوصله لهدفه؛ لأنه لو تاه في طريق لا دليل له فيه؛ ستتسلط عليه المخاوف، وستكون الحيرة حليفه، ولا أقل من شعور الغضب على ضياع الوقت، وفوات المصلحة.
ولو كان في صحراء لربما أدى ضياعه إلى هلاكه؛ فهو لهذا بأمس الحاجة لهداية الطريق، وقد امتنّ الله عليه بتيسير أسفاره بالرواحل، والخيل والبغال والحمير سابقا، وبالوسائل الحديثة لاحقا،
{ويخلق مالاتعلمون}
وأراه أن هناك طرقا توصله إلى الهدف، وطرقا جائرة، تحيد به يمينا وشمالا، وأن عليه أن يكون يقظا؛ فلايغفل عن إرشادات الطريق؛ فيدخل في الطرق الجائرة، ويضيع.
هذه تماما حال السالكين إلى رب العالمين، وهذه تماما صورة رحلة العمر
خلق الله الكون بطريقة تدفعك إلى الإحساس بحاجتك الماسة إلى هداية الطريق، أكثر من حاجتك إلى الطعام والشراب!
أراك الدنيا، وزحامها، وطرقها؛ لتتذكر أنك مسافر، وأنك أحوج ماتكون إلى هداية الطريق.
لكنه سبحانه لم يكتف بذلك؛ بل وعد وتعهد أنه كما يسّر السبيل الموصلة إلى المقاصد الجسمانية؛ فإن عليه تيسير السبيل الموصلة للمقاصد الروحانية؛ فقال تعالى:
{وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر}
والسبيل كما قال السعدي رحمه الله:
"أي: الصراط المستقيم، الذي هو أقرب الطرق وأخصرها، موصل إلى الله، وإلى كرامته.
وأما الطريق الجائر في عقائده وأعماله،
وهو: كل ما خالف الصراط المستقيم، فهو قاطع عن الله، موصل إلى دار الشقاء."
فكان تعهد الله بهذه السبيل نعمة أعظم من تيسير المسالك الحسية؛ لأن سبيل الهدى تحصل به السعادة الأبدية.
وهذه السبيل هي: موهبة العقل الإنساني الفارق بين الحق والباطل، وإرسال الرسل لدعوة الناس إلى الحق، وتذكيرهم بما يغفلون عنه، وإرشادهم إلى مالا تصل إليه عقولهم، أو تصل إليه بمشقة على خطر من التورط في بُنيات الطريق.
فلنتأمّل!
جاء في تفسير ابن جرير الطبري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه سُئل عن الصراط المستقيم: ما هو؟
فقال -رضي الله عنه-: "تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أدناه، وطرفه الآخر في الجنة"!
وأنت تريد أن تكون نهاية سفرك الجنة، وتعلم أنك لو زغت يمينا أو شمالا؛ ضعت ضياعا لاعودة وراءه، أو عدت؛ ولكن بخسارة فادحة من أيام وليالي العمر الثمين؛ لأن السير إلى الله ليس كالسير الحسي في الدنيا؛
ليس سيرا على طرق معبدة، جوا وبرا؛ تقطع فيه المسافات بوسائل المواصلات؛ وإنما السير إلى الله له طريق فريدة ليست لغيره!
تقطع في طريقك إلى الله الغالي من أنفاسك،
تقطع لياليك وأيامك!
هذا هو طريقك إلى الله !
هذا هو طريقك إلى الله !
أما (مركبتك) في هذا الطريق؛ فليست السيارة، ولا الطيارة؛
إن مركبتك هي (بدنك)!
بدنك هو (مطيتك) التي ستفنى عند لقاء أول منزل من منازل الآخرة،
عندما تلتقي بالتراب؛ ستعود إلى التراب؛ فلا تكن غالية عليك أكثر مماينبغي!
لاتعطها أكثر من حجمها أبدا؛ إنك إن فعلت فسيغير ذلك حياتك، ويقلب هدفك، وينكس فطرتك،
ومن نكس فطرته لابد أن يشقى!
أما (المحمول) على هذه المطية فهو الكريم المكرم في رحلة العمر العجيبة الخطيرة!
هو الذي تسعى لإيصاله لربه سليما معافى محروسا من كل سوء!
إنه القلب!
القلب محل معرفة الرب!
يهون أمر كل ماسواه!
مكانه السماء حين يفنى البدن في تراب الأرض!
هذه غاية السفر:
(أن تأتي الله بقلب سليم)!
أما إن سألت عن ثمن هذه الغاية فهو -وفقك الله- جهاد العمر !
هذه غاية السفر:
(أن تأتي الله بقلب سليم)!
أما إن سألت عن ثمن هذه الغاية فهو وفقك الله جهاد العمر ! .
انظر إلى كلمة: (أتى):
كيف تصور مقبلا على ربه، سائرا على الطريق، متلهفا على غاية الرحلة!
قد بين له ربه الطريق المستقيم؛ فاعتصم، وتمسك، واهتم أشد الاهتمام أن لايتوه ولايضيع،
واضعا نصب عينيه كل الإرشادات، متأملا بأن ربه سيحمله كما وعده:
{وعلى الله قصد السبيل}،
عالما بأن ربه حكيم؛ يضع الهداية في موضعها؛ فلو أنه أهمل، واستهتر بمايضيع عليه من أيامه، ودخل في الطرق الجائرة، ولم يبال بسلامة قلبه من الشبهات والشهوات؛ فلن يكون ممن يشمله هذا الوعد؛ بل سيدخل تحت قوله تعالى:
{ولو شاء لهداكم أجمعين}؛
لكنه لحكمته يهدي من صدق في طلب الهدى، وبقي محافظا على سيره المستقيم؛ حتى إذا مازاغ عنه، أو انحرف؛ آب وأناب، ورجع من قريب، خائفا على مكانه، عينه لاتفارق (محموله) الكريم:
القلب!
وما أدراك ما القلب؟!
هو ما يريد الرب منك!
لأجل أن يأتيه مؤلها متشوقا، خلق السموات والأرض!
ياأيها السالكون:
في رحلة العمر، لاتغفلوا عن هذه الأربع:
1. لاتغفلوا عن كونكم مسافرين!
2. لاتغفلوا عن كونكم بقطع الأيام والليالي تبلغون!
3. لاتغفلوا عن أن مطيتكم هي (أبدانكم) وأن العزيز الذي عليكم إيصاله سالما مسلما هو (قلوبكم ) !
4. لاتغفلوا أن هداية الطريق والوصول إنما هي على الله،
وقد جعل الحياة طويلة ليختبر الصادق الذي يحافظ على قلبه، والكاذب الذي يتلاعب بقلبه، وهو لايشعر بالرحلة!
ياأيها المسافر الماضي حثيثا إلى ربك:
صحيح أن السفر قطعة من العذاب؛ لكن ربك لم يجعل الطريق كله صعاب!
فهاهي الواحات الوارفات قد وزعت لك على مسافات الطريق؛ تتفيأ تحت ظلها، وتتزود من مائها ومرعاها مايقويك على متابعة المسير في صحراء العمر، وقد جعل في قلبك خزائن إن حرصت أن تعرج وتملأها من هذه الواحات كفتك في أيام الجفاف، والأزمنة العجاف، بل وسبقت بك الأولين والآخرين من أهل الأمم السابقين!
هل عرفت ماهي؟!
وهل تبين لك خطرها؟!
إنها مواسم الخيرات!
إنها الأيام الفاضلات!
قد جعلها الكريم في طريق المسافرين تترا؛
كلما ودعتهم واحة استقبلتهم أخرى،
فما يودعون رمضان إلا وتقبل عليهم الأشهر الحرام،
وتقبل معها أيام العشر العجيبة في فضلها، وإبرازها لكرم ربها!
.وياحسرة المحروم!
ثم يقبل بعدها شهر الله المحرم، وصوم عاشوراء.
وهكذا من يتحرّ واحات الزاد يجدها، ويستظل في فيئها، يجمم روحه المتعبة، ويقوي دابته، ويدللها، لتكمل معه طريق السفر!
العمر رحلة، سفر، سير إلى الله!
فاعلم رحمك الله أنك تحتاج فيه إلى بدنك، (مركبتك) لتوصل بها قلبك (محمولك) إلى الذي خلقه وبين له الطريق والهدف؛
فإياك واحذر أن تقلب الأمر الذي عليه فطرك !
لاتغفل أن القلب هو المحمول، والبدن هو الحامل، وليس هناك عاقل يجعل الراكب يحمل المركبة؛
فلاتقلب المسألة كشأن الغافلين عن كونهم على سفر :
إن أراد القلب أن يتغذى بروح ركعات الليل، ومناجاة مولاه القريب الذي يناديه في الثلث الاخير من الليل، وأراد البدن أن ينام؛ فتذكر أن القلب هو الملك، واستعذ بالله من سفه الالتفات إلى الجنود!
وإن أراد القلب أن يصوم ليدخلك تحت من جعل الرحمن صومه له وهو يجزي به، وأراد البدن أن يعتاض عن ذلك بفتات الطعام والشراب؛ فإياك أن تسفه رأي الملك؛ فما جعل ملكا إلا لرجاحة رأيه!
وإن أراد القلب ماأراد؛ فلاتبخل عليه بطاعة بدنك؛ ففي طاعته نجاتك، وفي إذلاله شقاؤك!
وإنك إن لم تفعل؛ تحولت إلى خيال يحمل فرسه على ظهره، وكلما جاء موسم طاعة يؤجل العمل إلى موسم يليه، وهكذا تمر عليه الأوقات الفاضلة، والقلب المسكين قد سيطر عليه البدن؛ فتركه صلدا لايقدر على شيء، ولا يتزود من مراتع الزاد؛ حتى يضعف ويذبل، ويصبح عبدا؛ فيشقى، ويشقي صاحبه بشقائه، وياليت الأمر انتهى هنا؛ بل الطامة الكبرى أن هذا البدن يتحول يوم القيامة إلى عدو لدود له؛ فتشهد عليه الأسماع، والأبصار، والجلود، بأنه لم يأمرها، ولم ينهها، ولم يضبطها ،ولم يحكمها؛ بل ترك لها الحبل على الغارب:
فلا مجافاة الجنوب عن المضاجع عرفت!
ولا طعم غض البصر لله ذاقت،
ولا بطعم سماع كلام الله استمعت!
فأقبلت تشكوه، وحق لها أن تشكوه،
فقد خُلِقَت مطية لتخدمه؛ فجعل يخدمها ،ويرفهها، وعلى عداوته يربيها!
ولأجل هذا أتت آية النحل في سياق الكلام عن (الدواب) إن تأملت!
ياأيها السائرون السالكون المجهدون:
هذه الواحات في الطريق:
عرجوا وتزودوا ؛فياخسارة المحروم!
"قيل لأبي مسلم الخولاني حين كبر ورقّ: لوقصرت عن بعض ماتصنع.
فقال: أرأيتم لو أرسلتم الخيل في الحلبة ألستم تقولون لفارسها: دعها وارفق بها، حتى إذا رأيتم الغاية لم تستبقوا منها شيئا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق