الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١)
إن أعظم الكتب كتاب الله تبارك وتعالى ؛
وإن أعظم سورة في ذلك الكتاب هي سورة الفاتحة ؛ فهي بالنسبة للقرآن كالخطبة أو المقدمة
بالنسبة للكتاب؛ والقرآن شرح لها؛ ومعلوم أنه كلما كان صاحب الكتاب أعلم وأبلغ كان
تلخيصه لمقاصد كتابه في مقدمته أكمل؛ هذا بالنسبة لكلام المخلوقين الذين علَّمهم الله
تبارك وتعالى من النطق والبيان بحسب حاجتهم وأهليتهم ؛ فكيف إذا كان الكتاب كتاب رب
العالمين ؟!
فالفاتحة أعظم السور وأم القرآن ، جمعت
جميع مقاصد القرآن ولذلك سميت أم القرآن ، وارجع إلى التفاسير لترى كثرة أسمائها وفضائلها
، وحُق لمن قرأها بتدبر وامتثال أن يمتلىء قلبه يقيناً وإيماناً ، وأن يكون عالماً
راسخاً أكرمه الله بنور العلم واليقين .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢)
▪قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) النحل ٩٨
.
ليست الاستعاذة من القرآن بالإجماع، وإنما
نذكرها طاعة لله تعالى، واعتصاماً به ولجوءاً إليه أن يمنعنا من الشيطان الرجيم الذي
يصرفنا عن تدبر ما نقرأ من كتاب الله .
▪إن أعظم غاية المؤمن في هذه الحياة أن يستقيم
على أمر الله، ولا يمكن أن يستقيم على أمر الله إلا أن يكون متحرزاً من شرور الشيطان
وجنوده من الإنس والجن .
▪حين تقول الاستعاذة استشعر أنك تطلب التحرز
من الله جل وعلا، فإذا لجأت إلى الله أن يعيذك من الشيطان الرجيم، ويعصمك منه، كان
هذا سبباً في حضور قلبك، واستعداد نفسك، فاعرف معنى هذه الكلمة واستشعر معناها
.
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣)
▪ كلمة (بسم الله الرحمن الرحيم ) افتتاح القرآن بهذه الكلمة العظيمة التي هي من أعظم ما أنعم الله جل وعلا على عباده المؤمنين، وهذا إقرار منك بأن الله عز وجل هو المعين لك في كل أمورك، وأعظمها قراءة القرآن .
▪ قولك (بسم الله ) يعني : أتلو القرآن مستعيناً بكل اسم من أسماء الله، لأن أسماء الله جل وعلا كلها لمسمى واحد، هو الله سبحانه، ولكن كل اسم منها يدل على صفة من صفاته تنـزهه وتقدسه، فاسم الله هو أصل الأسماء، والدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى .
▪ حين تستحضر عند قولك :( بسم الله ) بعض الأسماء، يفتح الله على قلبك أنواعاً من العبودية، كلٌ مما يناسب حالك ومقصودك، فإذا قلت : (بسم الله) وأنت في كرب استحضر أسماء الله التي فيها تفريج الكروب، وإذا قلت : (بسم الله ) وأنت مغلوب استحضر أسماء الله التي فيها النصر والتأييد، وإذا قلت :(بسم الله) وأنت مذنب استحضر أسماء الله التي فيها التوبة والعفو والغفران، وإذا قلت : (بسم الله) وأنت محتاج استحضر أسماء الله التي فيها الرزق والغنى ...
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٤)
▪ في قوله تعالى: ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) دلالة على سعة رحمته وتقوية
الرجاء في قلوب عباده، وقد اختار سبحانه هذين الوصفين في البسملة التي يرددها المسلم
في مختلف شؤونه وحالاته، فالإنسان في سير حياته تشمله العناية الإلهية بالرحمة الشاملة،
ومن حكمة تكرار هذه الكلمة أننا نحتاج هذه الرحمة في كل طرفة عين، وفي كل حال ومجال
.
▪ لم تُذكر في البسملة صفات أخرى، مثل التواب، الغفور، الشافي، الكريم،
الرازق، الرؤوف ... ، لأن كل هذه الأمور وغيرها مآلها إلى صفة الرحمة، فمن خلال الرحمة
يصدر ذلك كله عنه سبحانه، فيرزق، ويشفي، ويدبر، ويتوب، ويغفر ... فالدخول من باب الرحمة
يوصلك إلى مضمون سائر الصفات، فهو يشفيك لأنه الرحيم، ويعطيك لأنه الرحيم، ويتوب عليك
لأنه الرحيم، ويرزقك لأنه الرحيم، وينصرك لأنه الرحيم ...
▪البسملة آية من القرآن ولكنها منفصلة من السور، ونزلت للفصل بين السور
.
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٥)
▪في قوله تعالى :( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أمر
من الله سبحانه وتعالى لعباده بالتوجه إليه بالحمد الكامل والثناء الشامل في كل صلاة،
فالحمد ثناء أثنى به الله تعالى على نفسه، وقوله : (لله) اللام للاختصاص والاستحقاق،
فالمستحق لهذا الحمد الخالص الشامل هو الله تعالى، وفي الحديث : ( اللهم لك الحمد كله
) البخاري ١/ ٢٤٣ .
▪ القائل :(الْحَمْدُ لِلَّهِ) في هذا الموضع هو الله تبارك وتعالى،
ولا شيء من الكلام المجمل أكبر وأشمل وأعلى من هذه الكلمة؛ فكل صفة عليا واسم حسن وثناء
جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وإجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه
وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به، ويذكر به، ويخبر عنه به، فهو محامد له وثناء وتسبيح
وتقديس .
▪ كلمة الحمد معناها الإخبار بمحاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه،
فهو الواحد الذي لا شريك له في ربوبيته، ولا في إلهيته، ولا مثيل له في ذاته، ولا في
صفاته، ولا في أفعاله، وليس له من يشركه في ذرة من ذرات ملكه، أو يخلفه في تدبير خلقه،
أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه، أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب،
بل هو ملك الملوك الذي له القدرة التامة، والمشيئة النافذة، والحكمة البالغة، والعزة
الغالبة ، والكلمات التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٦)
▪أعظم كلمة ترددها في حياتك وتهنأ بها نفسك
هي كلمة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، وأحق كلمة قالها العباد هي كلمة :(الْحَمْدُ لِلَّهِ
)، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة هو المستحق له سبحانه، وجميع أنواع الحمد هي
له لا لغيره، فسبحانه وبحمده، لا نحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما
يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي
لجلال وجهه وعظيم سلطانه .
▪ قول :( الْحَمْدُ لِلَّهِ) هو الشعور الذي يجب أن يفيض به قلب المؤمن
بمجرد ذكره لله، بل إن وجود هذا الشعور في قلب المؤمن هو من فيوض النعمة الإلهية التي
تستجيش الحمد والثناء، فتفاصيل حمده سبحانه وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار ولا
تحصيها الأقلام، فهو المستحق للحمد كله في جميع الأوقات، وبعدد اللحظات، وكل حمد وقع
من أهل السماوات والأرض، الأولين والآخرين، إخبار عن ما يستحقه من الحمد، لا عما يقوله
العبد من الحمد .
▪ استحضار كلمة ( الْحَمْدُ لِلَّهِ) أثناء قراءتها في الصلاة أو خارجها
يفتح للعبد أبواباً من محبة الله وتمجيده وتعظيمه وحسن الثناء عليه، ويفيض على قلبه
أنواعاً من العلم والمحبة وحسن الظن بالله
والتوكل عليه، ويفتح له من العبادات القلبيه التي لا يعلمها إلا من عاشها وعرفها، فهو
يستحضر حين يقرأ هذه الكلمة الأسماء العظيمة التي لله جل وعلا وآثارها على نفسه .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٧)
▪️في قوله تعالى :( الْحَمْدُ لِلَّهِ) جاء تقديم وصفه بالألوهية على وصفه بالربوبية، فلم يقل جل وعلا : الحمد لرب العالمين، بل قال : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ) للتذكير بأعظم نعمة أنعمها عليك وهي نعمة العبودية ، فالله هو المألوه المعبود الذي تألهه الخلائق محبةً وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب .
▪️إن من أعظم نعم الله عليك أن جعلك عبداً له خاصة، ولم يجعلك منقسماً بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلك عبداً لإله غيره، لا يسمع صوتك، ولا يبصر أفعالك، ولا يعلم أحوالك، ولا يملك لك ضراً ولا نفعاً، ولا وموتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا يُرفع إليه العمل الصالح، فله الحمد أعظم حمد وأتمه وأكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده .
▪️كلمة ( الحمد ) مفتاح المعارف الاعتقادية، وتأتي كنتيجة قلبية بعد التعرف على الله عز وجل من خلال تدبر الألفاظ التي نكررها، فتكرار السورة في كل ركعة يجعل المتدبر قادراً على استشعار الحمد في مختلف الحالات والظروف التي تمر به في السراء والضراء، في الغنى والفقر، في القوة والضعف، في إقبال الدنيا وإدبارها، في العز والذل .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٨)
▪️المؤمن يعيش حالة دائمة من الحمد لله عز وجل مردها اليقين والرضا بأمر الله، بل يصل إلى شكر الخالق على قضائه وقدره ليقينه أن كل ما يقضي به خالقه هو خير له . عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ماأنعم الله على عبدٍ نعمة فقال : الحمدلله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ . سنن ابن ماجه ٢ / ١٢٥٠. حسنه البوصيري ووافقه الألباني .
▪️ لا يكون حامداً من جهل صفات المحمود، ولا يمكن أن يكون حامداً كل الحمد إذا لم يعرف نعم الله عليه ويعترف بها، وإن قال ذلك بلسانه، فكم هم الذين يرددون هذه الكلمة ولكن كما قال تعالى :(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ) فلفظ الحمد يلفظه كل أحد، ولكن لفظ القلب لايتأتى إلا للقلب المعمور بحبه ومعرفته، فمجرد الادعاء لايعبّر عن الحقيقة، فالحمد كلمة يقولها القلب قبل اللسان لتنعكس على الجوارح، فتخضع لله شكراً وسلوكاً وعملاً .
▪️ في قوله تعالى: (رَبِّ العَالَمِينَ) تأكيد لاستحقاقه كل الحمد، فكل خير ونعمة في العالمين فهي من عنده ؛ وكل خلق وإبداع فهو راجع إليه، فهو رب كل شيء وخالقه، لا يخرج شيء عن ربوبيته، المالك المتصرف في هذا الكون بأجمعه، وكل من في السموات والأرض عبدٌ له في قبضته، مربي جميع العالمين بخلقه إياهم وإنعامه عليهم وتدبير أمورهم، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم، وقد جاء وصفه بالربوبيه بعد وصفه بالألوهية، وذلك إقرار باستحقاقه جل وعلا كل أنواع وأجناس الحمد .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٩)
▪️(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الذي وسعت رحمته جميع الخلق، فهو الموصوف بالرحمة مع كمال قوته وقهره وكمال غناه وعزته، أرحم بعباده من الأم بولدها، فرحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من المائة جزء التي خلقها اللَّه فكيف برحمته الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه ؟! فلو جُمعت رحمة الخلق كلهم لكانت رحمة الله أشد وأعظم.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : جاءت امرأة في السبي تبحث عن ولدها فلما وجدته أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة وَلَدَها في النار ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ! فقال : إن اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها. صحيح البخاري ومسلم .
▪️إن الأم تهتم – عادة – بتربية طفلها وتلبية حاجاته، والحفاظ عليه، وتتحمل الأذى في سبيل ذلك، وذلك ليس نتيجة شعورها بالواجب، بل لأنها تلاحظ عجزه عن الأكل والشرب، وعن الحركة، وعن دفع الحر والبرد وسائر الأخطار عن نفسه، فتندفع بدافع من الشعور بالرحمة والعطف لرفع هذا النقص فتحميه وترعاه وتسهر عليه، فإذا كانت هذه رحمة الأم فكيف رحمة رب العالمين ! فما أحوجنا لتذكر هذا الأمر، وما أشد غفلتنا عنه .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٠)
▪️في مجيء (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بعد (رَبِّ العَالَمِين) بيان أن شمول الربوبية لا يخرج شيء منها عن شمول الرحمة وسعتها، فاستحضر وأنت تردد (رَبِّ العَالَمِينَ) معاني ربوبيته وآثارها في الخلق، فإن استحضارها يجعل القلب يلين تعظيماً لله وثناءً عليه وإجلالاً له ومحبة، واستشعر وأنت تقرأ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أن الله أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك، وأن الرحمة الحقيقية هي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه .
▪️ كلما كنت أعرف بمعنى هذين الاسمين كنت أرضى بقضاء الرب سبحانه وتعالى وعلمت أن قضاء الله عز وجل دائر بين العدل والحكمة والرحمة ،كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور : ( اللهم اني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك .... ) الحديث .. فشهودك نعمة الله عليك في كل شيء حتى في المكروه يجعلك تتيقن أن كل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذاباً وألماً في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة.
▪️إن شعور العبد بمعية الله وهو يردد تلك الكلمات في كل صلاة بل في كل ركعة يجعله في أنس دائم ونعيم موصول بقربه، ويحس بالنور يغمر قلبه، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم، ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين، كيف لا وهو يردد كلمة الحمد على من ربَّاه وأحسن إليه وصرَّف أحواله ودبر أموره، فلا يقلق إذا تعسر أمر، ولا يحزن إذا فاته شيء، فهو أرحم الراحمين، بيده الرحمة التي لا يستطيع أحدٌ من خلقه أن يحجبها عنه أو يمنعها .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١١)
▪️إن أعمق درجات المعرفة هي المعرفة الوجدانية، وإن وصول الإنسان إلى ربه ومعرفته إياه حق المعرفة تكون من خلال إحساسه بنعمته وفضله عليه، لأن معرفته تعالى عن طريق الإحساس بالنعمة والاعتراف بها تكون أعمق وأدق وأكثر تأثيراً من معرفته عن طريق الاستدلال الفلسفي، العقلي، النظري، لأن هذه المعرفة حسية، وجدانية، فطرية، يتفاعل معها العبد بأعماقه وبكل أحاسيسه ومشاعره وفطرته .
▪️يقينك بهذه الآيات سبب فوزك بنعيم الدنيا الذي هو سكينة القلب واطمئنان النفس، والعبد عندما يفوز بهذه المعرفة يسكن جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، فهو لا يزال راضياً عن ربه، والرضا كما قال أحد السلف جنة الدنيا ومستراح العارفين، أما الجاهل برب العالمين الرحمن الرحيم فتراه جاحداً لنعمه، منكراً لفضله، ساخطاً من قضائه، ومن لم يعرف ربه ومعبوده حق المعرفة لايهنأ بعيش، وكما قال ابن القيم : فقلب العبد لا يزال يهيم في أودية القلق وتعصف به رياح الاضطراب حتى يعرف ربه ومعبوده حق المعرفة . ا.هـ
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٢)
▪️في قوله تعالى :( مَالِكِ يَوْمِ الدِّين ) تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر، فكلمة (يَوْمِ الدِّين) تشير إلى الجزاء، ثواباً على الإحسان، وعقاباً على الإساءة، فأنت تكرر في كل ركعة هذه الآية التي تعني أن من أوصافه التي نثني عليه بها أنه مالك يوم الجزاء الذي يجازي فيه كل عامل بما عمل، فيجازيك بحسب عملك ؛ فأنت السبب في كل ما يجري لك وعليك ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) .
▪️ الاعتقاد بالحساب يجعلك تشعر بالمسؤولية عن التغيير في حياتك، ولعل في تكرار هذه الآية في كل ركعة يجعل الإنسان يشعر بأنه مطالب ومحاسب ومسؤول عن كل ما يصدر عنه، فإذا كان يعقل ما يقول فسيورثه ذلك خوفاً من ذلك اليوم الذي يحاسب الله عز وجل فيه الخلائق، فهل استشعرنا أننا سنقف جميعاً في ذلك اليوم الذي يوفّي الله فيه كل نفس ما كسبت ؟!
فكم نردد تلك الكلمات ولانشعر بالرهبة .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٣)
▪️الله جل وعلا مالك كل الأيام ؛ وخص يوم الدين بإضافة الملك إليه لخطورته، ولأنه ختام الأيام وثمرتها ولأنه يظهر فيه ملك الله كاملاً، فكل الملكيات تزول وتتلاشى فلا يملك أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، ولا يملك أن يدفع عن نفسه ولا عن غيره، ولن يكون قادراً على التصرف بماله ولا بقوته ولا بمنصبه ولا بموقعه الاجتماعي، ولا بلسانه ولا بيده ولا بغير ذلك، فيوم الدين هو اليوم الذي يتجرد العباد من مناصبهم الدنيوية ومكانتهم الاجتماعية، فالكل سواء، يحاسبون على ما قدموا من أعمال في حياتهم الدنيوية.
▪️(مَالِكِ يَوْمِ الدِّين) من أعظم النعم المستوجبة للحمد فملكيته سبحانه ليوم الدين هي التي حمت الضعفاء والمظلومين والمحزونين، فلمَ الهم ؟ ولم َ الحزن ؟ وأنت تعلم أن الله تعالى سيعوضك خيراً، وسيحاسب كل شخص على ظلمه وجبروته، ولا يظلم ربك أحداً.
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٤)
▪️بقوله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّين) تُستكمل صفات العظمة والكمال، فاستحقاق الحمد لصفاته جل وعلا كما هو لذاته، فهو لأسمائه وصفاته، فقد جاء الحمد والثناء له عز وجل في ذاته في كلمة : (لله) ثم جاء تأكيد الحمد له سبحانه في أوصاف عديدة له كقوله:
(رَبِّ العَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فبعد أن جاء الوصف برب العالمين، عقَّب بصفتي الرحمن الرحيم للتعريف بعظمة رحمته ثم جاء وصف مالك يوم الدين للتنبيه على عموم التصرف في المخلوقات يوم الجزاء .
▪️جاءت تلك الأوصاف كاملة بعد لفظة الحمد إشارة إلى استحقاقه سبحانه لا شريك له لكل المحامد والتعظيم، ومن خلال الآيات نعلم أن الربوبية والألوهية والملك لا تنفك الواحدة عن الأخرى والرحمة سبب واصل بين ذلك كله، والأسماء المذكورة هي أصول الأسماء الحسنى، فاسم الله متضمن لصفات الألوهية، واسم الرب متضمن لصفات الربوبية، واسم الرحمن متضمن لصفات الإحسان والجود والبر .
قال ابن القيم رحمه الله : فصفات الجلال والجمال أخص باسم الله، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم الرحمن، ومعاني أسمائه تدور على هذا . ا.هـ
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٥)
▪️في هذه الآيات الثلاث مناجاة بين الله والعبد كما جاء في الحديث.. فإذا قرأ العبد:(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) يقول الله سبحانه : حمدني عبدي، وإذا قرأ :(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يقول الله : أثنى علي عبدي، وإذا قرأ:(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يقول الله : مجدني عبدي، فهل نستشعر ذلك الحمد وذلك الثناء وذلك التمجيد حين نقرأ في صلواتنا ؟ وهل نستشعر ونستحضر جواب الله سبحانه لنا ؟
▪️في هذه الآيات الثلاث ترغيب وترهيب : فالترغيب في قوله عز وجل :(رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، والترهيب في قوله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّين) وهذا الذي يجب أن يسلكه كل طالب علم وكل داعية في الدعوة إلى الله .
▪️ظهر من كل ما تقدم، ابتداءً من بسم الله .. وإلى قوله: يوم الدين، أن ربك تعرف إليك بأسمائه وصفاته، وتحبب إليك بنعمه وآلائه .
قيل لابن عباس رضي الله عنهما : بم عرفت ربك ؟ فقال: عرفته بما عرَّف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه، فأنت تتعرف على الله كل يوم بل في كل صلاة، بل في كل ركعة، فمن انفتح له هذا الباب - باب الأسماء والصفات - انفتح له باب التوحيد الخالص بإذن الله .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٦)
▪️بدأ سبحانه وتعالى في السورة بذكر ما يورث في العبد المحبة لله وهو ربوبيته جل وعلا وتربيته للعالمين في قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)، وفي ذكر ما يبعث الرجاء في القلب في قوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثم ذكر ما يبعث الخوف في القلب بالتذكير بيوم الجزاء والحساب في قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ليُعبد الله بهذه الثلاث : بمحبته ورجائه وخوفه، وهذه الثلاث هي أركان العبادة .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) نتيجة حتمية لكل عبد تفهم كل ما سبق، ولهذا جاءت الآية بعد تلك الأوصاف الجليلة التي وصف الله بها نفسه في أول السورة لتبعث في القلب المحبة والرجاء والخوف، ولتكون أساساً عقائدياً متيناً يتلمسه الإنسان في واقعه ويحس به بفطرته .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٧)
▪️في قوله تعالى :(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) قدم المفعول وهو إياك، وكرره للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، فأنت تعاهد ربك في كل صلاة أن لا تشرك به في عبادته أحدا .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) خطاب تخاطب به ربك، فأنت أثنيت عليه في الآيات السابقة، وبعد هذا الثناء كأنك اقتربت وحضرت بين يديه فقلت :(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) وهذه صورة بلاغيّة عظيمة من أساليب القرآن الكريم تسمى الالتفات .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) مدرسة عملية تُذكِّرك يومياً بالتعرف على رسالة رب العالمين التي أرسلها إليك لترددها في كل ركعة؛ وهي أن يقوم بقلبك من معرفته والمحبة له والرجاء له والخوف منه مايتحقق به العبودية الحقة .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٨)
▪️(إيَّاكَ نَعْبُد) كمال الذل والخضوع والخوف والمحبة، وكيف لا يشعر بالذل من يستحضر عظمة خالق كل شيء ؛ أو بالخوف من يستحضر شدة وعظمة يوم الدين والحساب ؛ وكيف لا يشعر بالحب من يسمع صفات الله تعالى ؛ ولا سيما الرحمن الرحيم المنبني عليهما الإحسان؛ وكذلك سائر صفات الكمال .
▪️( إِيَّاكَ نَعْبُد) إعلان للتوحيد في مختلف أنواعه وتثبيت في النفس معنى لا إله إلا الله، فهي القاعدة الأساسية لهذا الدين الذي لا يقوم بدونها، وهي ملخص لرسالته صلى الله عليه وسلم ورسالات الرسل من قبله .
▪️( إيَّاكَ نَعْبُد) حقيقة ضخمة غائبة عن الأذهان، فأكثر من يقولها إنَّما يقولها تقليداً أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يُفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء؛ كما في الحديث: « سمعت الناس يقولون شيئا فقلته » .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٩)
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) انجذاب قلبك وروحك إلى خالقك، وهذا ماخُلقت له، فأنت خُلقت لهدف وغاية، قال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون) الذاريات ٥٦، وهيأ الله لك جميع مافي الأرض لتحقق هذه الغاية .
▪️( إِيَّاكَ نَعْبُد) اعتراف منك بأن تكون أعمالك كلها لله، وأقوالك لله، وعطاؤك لله، ومنعك لله، وحبك لله، وبغضك لله، فمعاملتك ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده، لا تريد بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) تلك الكلمة التي أخطأ كثير من المسلمين اليوم في فهمها، فظنوا أن معنى:(إياك نعبد) أن نركع ونسجد ونصلي ونصوم ونحج ونقرأ القرآن فقط، وأن العبادة مقيدة بتلك العبادات فحسب .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) عهد مع الله بأن تصرف العبادة كلها له لأنك عرفته، وعرفت أن العمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، وطلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، والهرب من ذمهم، ورجائهم للضر والنفع، لا يكون من مؤمن يعرف ربه حق المعرفة، بل لايكون إلا من جاهل بربه، جاهل بخلقه .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٠)
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) واقع نعيشه ونتعايش معه، فقد أعظم الله تعالى المنّة على هذه الأمة بأن بعث فيها أفضل رسول وأنزل إليها أكمل دين وأقوم شريعة، فكانت الأمة التي استحقت أن تسمى المسلمـين لتحقيقها معاني:(إِيَّاكَ نَعْبُد) وهي : إسلام القلب والجوارح، إسلام الفرد والمجتمع، إسلام الحياة كلها لله تعالى وحده لا شريك له .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي الاستجابة لكل الأوامر، والانقياد والاستسلام لمن بيده ملكوت كل شيء، في كل حال من الأحوال، في كل زمان ومكان .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي الإسلام الذي تضمنه تلك الكلمة العظيمة التي تعدل الكون كله، بل ترجح به، وما ظلت الأمة الإسلامية قروناً تقود البشرية وتتبوأ مركز الأمة الوسط بين العالمين إلا بفضل إدراكها لتلك الكلمة العظيمة والعمل بمضمونها وحقيقة مدلولها في واقع الحياة .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) اعتراف منك بأنك عبد لله، فالحرية الحقيقية في عبودية الله، لا حرية لك بلباسك ولا بفعلك ولا ببيعك ولا بشرائك، ولا بذهابك ولا بمجيئك، إلا في هذه الحدود .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي الالتزام بالإسلام كله في شموله وسعته، وليس الأخذ بجانب من تعاليمه وأحكامه وطرح جانب آخر، وإلا كيف تردد : (إِيَّاكَ نَعْبُد) ؟!
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢١)
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) ترجع إليها معاني القرآن كلّها التي حوت في طيّاتها تجريد التّوحيد لربّ العبيد، والتوكّل عليه، والثّناء عليه، والدّعاء بالإقبال إليه، والافتخار والاعتزاز بعبادته .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي البراءة من كل معبود من دونه، فلا يتحاكم إلا إليه، ولا يتلقى الهدى إلا منه، ولا يتوجه بالعمل إلا إليه، ولا يوالي ولا يعادي إلا فيه.
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي فقط التي تكفل سعادة الإنسان في الدارين، فإذا لم تتحقق معاني (إِيَّاكَ نَعْبُد) أو ضعف تحقيقها لم يحصل المرء على مايطلب ولو ملك الدنيا بأسرها، ولو حصل على علوم الدنيا كلها، ومن المؤسف أن بعض أهل (إِيَّاكَ نَعْبُد) شُغلوا بفلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت عقول البعض واستحوذت على الأفكار، كل ذلك من أجل تحقيق الراحة والسعادة التي يبحثون عنها !! ولن يجدوها إلا في ظل (إِيَّاكَ نَعْبُد).
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) تستوعب الكيان البشري كله، فمن يردد:(إِيَّاكَ نَعْبُد) لا يعبد الله بلسانه فحسب أو ببدنه فقط أو بقلبه أو بعقله، بل يعبد الله بهذا كله: بلسانه ذاكراً داعياً تالياً، وببدنه مصلياً صائماً مجاهداً، وبقلبه محباً خائفاً راجياً متوكلاً، وبعقله متفكراً متدبراً متأملاً . وهذا هو معنى (إِيَّاكَ نَعْبُد) .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٢)
▪️(إيَّاكَ نَعْبُد) معناها : أننا جميعاً لك عبيد، فلم يقل: (أعبد) لأنك تخبر عن نفسك وغيرك من العباد، وفي هذا إشارة إلى أن أهل الملة الواحدة هم يد واحدة، فربهم واحد وكتابهم واحد ودينهم واحد ودعوتهم واحدة، فلا مجال للشقاق ولا مجال للنزاع ولا مجال للفرقة .
▪️(إيَّاكَ نَعْبُد) هدفك في الحياة الذي هو عبادة الله عز وجل، وليس شيئاً نتحدث عنه ثم نقفله وننتهي إلى غيره، بل هو معنى يرافقنا في كل وقت وفي كل حال، وما جعلك الله ترددها في اليوم مراراً وتكراراً إلا لتفقه معناها وتعمل بمقتضاها، لم يطلب منك تردادها إلا لأجل أن تقف مع نفسك وتتذكر هذه الكلمة التي هي حياتك ومصيرك !!
▪️(إيَّاكَ نَعْبُد) اعتراف منك بالعبودية، فأنت تردد في كل ركعة هذا الاعتراف، فهل وقفت مع نفسك وسألتها عن هذا الاعتراف ماهو ؟ وماحقيقته ؟
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٣)
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) أصلها عبادة القلب، فإن القلب هو الملك، والأعضاء جنوده، فالله عز وجل خلق هذا القلب وركبه تركيباً خاصاً لا يصلح بحال من الأحوال إلا إذا تعلق بربه ومليكه، فإذا تعلق القلب بالمخلوق عُذِّب بهذا المخلوق أياً كان سواء كان رجلاً، أو امرأة، أو سيارة، أو عقارات، أو مالاً، أو غير ذلك.
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) على الحقيقة والتحقيق : الدين كله، ولما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه مسلم .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) أصل الدين وقاعدته التي لا تصلح الحياة البشرية كلها إلا به، فإذا عرفت الله وآمنت به ووحدته سهل عليك الانقياد لفعل الأوامر واجتناب النواهي رغبة في الثواب وخشية من العقاب .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) من أعظم الأدوية القلبية والبدنية، وهاتان الكلمتان من أقوى أجزاء الدواء، وسبب قوة هاتين الكلمتين لما فيها من عموم التفويض والتوكل والالتجاء والاستعانة والافتقار والطلب .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٤)
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) كلمتان مقسومتان بين العبد وربه، فالعبادة تجمع أصلين : غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والاستعانة تجمع أصلين : الثقة بالله والاعتماد عليه، فالعبادة هي الغاية التي خلق الخلق من أجلها، والاستعانة وسيلة إليها .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) استحضارك عظم حاجتك إلى ربك عز وجل في أن يثبتك على توحيده، فمادام اعترفت أنك لاتعبد غيره ولاتتعلق بسواه فأنت محتاج إلى من يعينك على ذلك ويثبتك عليه، لأنه لا يمكن أن تثبت في توحيد الله إلا بعون منه، وكلما كنت أتم عبودية كانت الإعانة لك من الله أعظم .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) إعلان ضعفك لله، وافتقارك إليه، وانكسارك بين يديه، فهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، أما المخلوق فليس عنده نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٥)
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) اعتراف منك أنك لاتستعين غيره، ليقينك أن الأمر كله بيده وحده لا يملك أحد منه مثقال ذرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ... الحديث ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، فمن استعان بغير الله وكله الله إليه، فلا يستطيع نفعه بل يخذله، وكما قال الشاعر :
من استعان بغير الله في طلب
فإنّ ناصره عجز وخذلان .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) اعتراف يمنعك أن ترجو المخلوق أو تستعين به أو تطلب منه منفعة لك فيما لايقدر عليه إلا الله، أما إذا استعنت بالمخلوق فيما يقدر عليه كبناء الدار وخياطة الثوب ونحو ذلك فلا بأس بذلك، فالتعاون مطلوب فيما يرضي الله، فلا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله، وكن كما قال تعالى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ) الليل ١٩-٢٠ .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٦)
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) أن تخلص له وتتبع شرعه، فمن أعظم ما تطلب الاستعانة به لتحقيق العبوديّة هو أن تكون خالصة لله، وأن تكون بما شرعه الله على لسان رسوله، لا بما تمليه عقول الرّجال والعادات والأعراف وغير ذلك، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه موافقاً لشرعه .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) أن تستعين بالله وتتوكل عليه في جميع أمور دينك ودنياك، فإن كل عابد لله عبودية تامة فهو مستعين به ولا ينعكس، فهناك من يستعين بالله في أمور دينه فقط وهذا نقص في الاستعانة، ومنهم من يستعين به في أمور دنياه فقط، وهذا أيضًا نقص في الاستعانة، ومنهم من يستعين بالله في بعض أمور دينه أو في بعض أمور دنياه أو في حاجة واحدة فقط، وهذا أيضاً نقص في الاستعانة، والحق أن تستعين بالله في جميع أمور دينك ودنياك .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٧)
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) أن تتبرّأ من حولك وقوّتك ولا يكن حالك حال من قال : (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) بل عليك أن تفتقر إلى الله وحده، وتسأله الإعانة في الأمور كلّها، فإحساسك بالحاجة إلى معونة ربك معناه : أنك لا تملك لنفسك حولاً ولا قوة، وهذا الشعور من شأنه أن يبعد الإنسان عن الشعور بالعجب الناشئ عن الإحساس بالقدرة التامة في تربية الذات وتنميتها، كهذا الهراء الذي نسمعه يتردد على ألسنة الكثير ممن يرددون:(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) في اليوم مراراً وتكراراً، ويستشهدون بأعلام ليسوا على شريعتنا ويحاجون بحجج واهية تنافي الذل والافتقار إلى رب الأرباب .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) شعور غرسه الله في فطرة الإنسان بضرورته إلى ربه وخالقه ومالكه ؛ ثم أرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب للتذكير بذلك، رحمة منه للطائعين، وقطعاً منه لحجة المعاندين، فكل مخلوق مضطر إلى موجده ومنشئه ومدبر أمره ورازقه، فهل فقهنا معنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين ) ؟
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٨)
▪️في قوله تعالى :(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) لجوءك إلى الله عزّ وجلّ أن يثبتك على دينه، فالصراط المستقيم هو الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فـ (إِيَّاكَ نَعْبُد) التزام بما أوجبه الله عليك من العبادة، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) طلب للإعانة على ذلك، و(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم) متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل والتوفيق للقيام بهما .
▪️(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم) سؤال عظيم لا يعرف قدره وحاجته إلا من وفقه الله وسدده وقليل ما هم، فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام، فأنت تطلب من الله أن يبين لك طريق الحق، وهذه هي هداية البيان، وتطلب من الله أن يوفقك لهذا الطريق الذي لا اعوجاج فيه وأن يثبتك عليه، وهذه هي هداية التوفيق، ونحن في زمننا هذا أحوج مانكون إلى هاتين الهدايتين، فنسأل الله أن يرزقنا إياها بمنِّه وفضله وكرمه .
▪️إن حقيقة الصراط المستقيم الذي يتصوره العبد وقت سؤاله هو طريق الله الذي نصبه لعباده عن طريق رسله، فمن رحمة الله أن أوجب علينا تكرار هذا الدعاء، فلنتأمل ضرورتنا إلى هذا الدعاء، فالهداية إلى ذلك تتضمن العلم النافع والعمل الصالح والثبات على ذلك إلى أن نلقى الله
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٩)
▪️إن الإيمان والعمل الصالح هو الصراط المستقيم في الدنيا الذي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عليه، وأمرهم بسؤال الهداية إليه، ولو رجعت إلى كتاب الله وتدبرت الصراط المستقيم الذي وعد الله أهله بالتمكين والاستخلاف والأمن والعزة والنصرة والسعادة والحياة الطيبة والراحة والطمأنينة وغير ذلك من الثمرات التي وعد الله بها في كتابه لأهل الصراط المستقيم لوجدت ذلك أكثر مما يُحصى .
▪️كل ما خالف هذا الصراط من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج ولذلك جعل الله هذا الدعاء ركناً قولياً نجهر به في الصلوات اليومية، لأنه إذا حصل البيان والدلالة والتعريف أدى ذلك إلى هداية التوفيق وحُبِّب الإيمان في قلب صاحبه وزُين فيه، وحصل الرشد والهداية، نسأل الله من فضله .
▪️في هذا الدعاء ضمان السعادة في الدارين، فنحن بحاجة ماسة إلى هذا الضمان وإلى السكون والاطمئنان، فالأمر يتعلق بمصير الإنسان وبكل حياته ووجوده وحركته، وهذا الدعاء أعظم شيء نحتاجه، فحاجتنا إلى الهدى في كل لحظة أعظم من حاجتنا إلى الأكل والشرب
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٠)
▪️من هُدي في هذه الدار إلى الصراط المستقيم الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، هُدي في الآخرة إلى الصراط المستقيم المنصوب على متن جهنم، فعلى قدر سير العبد على هذا الصراط في الدنيا، يكون سيره على ذلك الصراط في الآخرة ..
قال ابن تيمية رحمه الله : والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم من يُخطف ويلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة .
فلينظر المرء إلى الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط التي تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت، فكذلك هي هناك ( وما ربك بظلام للعبيد ) ا.هـ .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣١)
▪️في قوله تعالى : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } التفصيل بعد قوله الصراط المستقيم، لبيان هذا الطريق الذي هو طريق الذين تكرّم الله عليهم بأعظم النعم، وقد ذكرهم الله في سورة النساء بقوله :(وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً).
▪️في قوله تعالى:( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) رد على الشيعة الذين يرددون في صلاتهم هذه الآية، ويقعون في أبي بكر وإمامته وهو من الصديقين رضي الله عنه وأرضاه، نعوذ بالله من الضلال .
▪️في قوله تعالى:( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) دليل على أن نعمة الدين أكبر من نعمة الدنيا، وأن من سلك هذا الصراط فهو في نعمة وفي سرور وانشراح لقوله تعالى:(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ...) النحل ٩٧، فهؤلاء في نعمة وإن كانوا في ضيق من العيش في الدنيا،لأن النعمة بالدين أعظم نعمة ينعم الله بها على عبده .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٢)
▪️كلمة (أَنْعَمْت) تفيد معنى ينطبق على جميع الأمور التي تعني الإنسان من هداية أو صحة أو مال أو جاه أو علم أو أمن، أو أي شيء آخر يسهم في إسعاد الإنسان، فهذه كلها نعم من رب العالمين، ولكن المهم هو أن ندرك نحن هذه النعمة، فهل النعمة نعمة المال أو السلطة أو الجاه أو المنصب أو القوة الجسدية أو الجمال أو النسب، هذا كله أو بعضه قد يشعرك بالطمأنينة والسعادة والراحة النفسية، ولكنها طمأنينة وراحة وسعادة لاتلبث أن تزول، فالمال والجمال والقوة وغير ذلك لن يستطيع أن يمنحك السعادة التي قد يجدها الفقير المعدم، ويفقدها الغني بماله، ولأجل ذلك جاء التعبير عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، بـ (أنعمت عليهم) لأنهم في نعمة حقيقية، وفي سعادة قلبية حتى وهم يتألمون ويواجهون المحن والبلايا ويستشهدون .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٣)
▪️في قوله تعالى:(أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) استعطاف، فإن من عادة المساكين أن يتوسلوا بقولهم : أعطنا كما أعطيت فلاناً وفلاناً، فهذا الدعاء كما قال ابن القيم توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليهم بالهداية كما يقول السائل للكريم : تصدق عليّ في جملة من تصدقت عليهم، وعلمني في جملة من علمته، وأحسن إليّ في جملة من شملته بإحسانك، وهذا من الافتقار إلى الله في طلب الهداية التي هي أصلُ سعادة الدارين .
▪️ إن في المغضوب عليهم والضالين من أنعم الله عليهم بنعم عظيمة في الدنيا لكن هذه النعم ليست بشيء بالنسبة إلى نعمة الدين ولهذا قال تعالى:(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) لبيان أن النعمة الحقيقية هي نعمة الهداية .
▪️تكرار هذا الدعاء في كل ركعة دليل على أن هذا الدعاء ليس أمراً نظرياً تجريدياً لا واقع له، أو فوق طاقة البشر أو غير قابل للتطبيق، بل إنه تعالى في خصوص هذه السورة يريد أن يبين لنا أن الأسوة والقدوة واقعاً حياً يمكن أن نترسم خطاه، ونهتدي بهديه، وكل ذلك يفسر لنا السبب في أن ذلك قد ورد في سورة الفاتحة التي تتكرر في كل يوم سبع عشرة مرة، ليصبح خلقاً وطريقة من خلال ارتكاز ذلك في نفس الإنسان وروحه .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٤)
▪️في قوله تعالى:(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين) الاستعاذة من طريق المغضوب عليهم والضالين، والمغضوب عليهم هم اليهود الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، والضالون هم النصارى الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لايهتدون إلى الحق .
▪️الاستعاذة من صراط المغضوب عليهم استعاذة من أسباب الغضب، والاستعاذة من صراط الضالين استعاذة من أسباب الضلال، فقد يظن البعض إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن أن ذلك مخصوص بهم، بل كل من علم حكماً من أحكام الله تعالى وخالفه كان مستحقاً لغضب الله عز وجل وذلك بحسب ما خالف به من أمر الله تعالى .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٥)
▪️في قوله تعالى:(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين) استعاذة من طريق المغضوب عليهم والضالين، وهو دعاء نكرره في كل ركعة أن يجنبنا طريق اليهود والنصارى، وهذا الدعاء يجعل كلاً منا يحاسب نفسه ليسلم مما وقع فيه هذان الفريقان فيحذر طريقهما، فكم من المسلمين يعلم حكم تارك الصلاة ويتركها، ويعلم حكم تحريف الكلم عن مواضعه ويحرف، ويكتم دين الله تعالى ويتحايل على الدين وهو يعلم حرمة ذلك، ويعلم تحريم قطيعة الرحم وهو قاطع، ويعلم تحريم الكذب وهو كذاب، ويعلم تحريم الربا ويرابي، وغير هذا مما يخالف أمر الله...
وكم من المسلمين من يبتدع قاصداً الأجر والثواب، ولهذا كان في قوله تعالى:(وَلا الضَّالِّين) إشارة إلى أن الضلال صفة ممقوتة لأن المؤمن يسأل الله تعالى أن يعصمه عن طريق الضالين، فعليه إذاً أن يتعلم مايجعله يؤدي عبادته على الوجه الصحيح .
▪️كما سألت الله أن يعصمك من طريق هؤلاء فتبرأ منهم وتجنب ماهم عليه، واحمد الله على أن هداك الصراط المستقيم، فكم من مسلم يدعو ربه في كل ركعة بأن يجنبه الله طريق اليهود والنصارى وهو يشابههم ويقلدهم ويلبس لبسهم، ويتمنى أن يكون مثلهم في هيئاتهم وأخلاقهم وطبيعة حياتهم، بل ويتمنى أن يعيش طوال عمره في بلادهم بلا عذر ولاضرورة !! ولاحول ولا قوة إلا بالله، وهذا من ضعف العقيدة الناتج عن عدم تدبر مانقرأ من كتاب الله .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٦)
▪️من علامة اهتدائك للصراط المستقيم مخالفة المغضوب عليهم والضالين ومن سار على نهجهم، ولذلك لما ذكر الله الصراط المستقيم، ثم ذكر الذين أنعم عليهم، قال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين) فمن شابههم في لبسهم أو كلامهم أو حركاتهم أو سكناتهم لم يهتد اهتداءً تاماً، ففي الحديث الصحيح: (من تشبه بقوم فهو منهم) فيدخل في ذلك التشبه بهم في لباسهم، فكم من مسلمة تدعو بهذا الدعاء في كل ركعة وهي تلبس لبس الضالين وتعجب به، ويدخل في التشبه أيضاً من ينطق لغتهم دائماً بدون حاجة ويحبها ويقدمها على العربية وهذا كما قال ابن تيميه من علامة نفاقه ..
▪️إن العالم إذا علم قامت عليه الحجة، ولا يقصد بالعالم واسع العلم، بل يقصد بالعالم كل من علم مسألة من مسائل الدين فهو عالم بها حتى وإن كان وصفه عامياً كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، ففي الآية التحذير من عدم عمل العالم بما علم، فاليهود تعلموا ولم يعملوا، والنصارى عملوا بلا علم ولذلك ضلوا، ولِمَ ضلوا؟ لأنهم لم يتعلموا، بل عبدوا الله بلا علم، وبعض الناس الآن يهون من شأن العلم الشرعي، فهذا فيه شبه من النصارى .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٧)
▪️ كلمة :(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم) جاءت في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم، وذلك بالإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، أما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم، ففي قوله تعالى :(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) إشارة إلى تعريفهم، أما المغضوب عليهم فالمقصود في الآية التحذير من صفتهم .
▪️في الآية يأمر الله عز وجل عباده المؤمنين بمعاداة أهل الغضب والضلال، فالمؤمن يغضب لغضب ربه، ويرضى لرضا ربه، فغضبك على هؤلاء موافقة لغضب ربك عليهم، وهذه حقيقة العبودية، فاليهود قد غضب الله عليهم، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم، وتأمل كيف حذف فاعل الغضب وقال : (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم) لأن للمؤمنين نصيب من غضب الله عليهم، أما الإنعام فإنه لله وحده؛ ولذلك قال تعالى :(أَنْعَمْتَ) .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٨)
▪️ انقسم الناس في السورة إلى ثلاثة أقسام : عالم بالحق عامل به، وهو المنعم عليه، وهذا الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح؛ كما قال تعالى : ( قد أفلح من زكاها)، وعالم بالحق مخالف له متبع هواه، وهو المغضوب عليه، وجاهل بالحق، وهو الضال .
▪️إن فساد القصد وسوء النية والحسد والتكبر عن قبول الحق سبب للحرمان من هداية التوفيق، لأن هداية التوفيق لاتتحقق للعبد إلا بحسن القصد وصدق النية وطهارة القلب، فاليهود حرموا هداية التوفيق بسبب إعراضهم عن الحق وسوء نواياهم وفساد قصدهم وحسدهم وتكبرهم، وفي هذا تحذير من ذلك .
▪️الجهل بالحق وترك العلم الواجب سبب الضلال والحرمان من هداية البيان والعلم، لأن هداية البيان والعلم لاتتحقق إلا بالعلم النافع وبذل الجهد في تحصيله، فالنصارى ضلوا لأنهم جهلوا الحق وعملوا خلافه، وفي هذا التحذير من التهاون في طلب العلم، والتعبد بما لم يشرعه الله .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٩)
▪️في الآيات معانٍ لو استشعرناها وجدنا ما يلي : أننا نسأل الله الهداية في كل ركعة، فهل بذلنا السبب ؟! ونسأل الله أن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في كل ركعة، فهل تعرفنا على سيرهم واتبعنا نهجهم وحذونا حذوهم ؟! ونسأل الله أن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين في كل ركعة، فهل تجنبنا طريقهم وتركنا التشبه بهم، وكنا على حذر من التلبيسات الباطلة والشبه الباهتة ؟!
▪️هذه السورة كما قال ابن القيم : هي المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنها المفتاح لكنوز الجَنَّة، ولكن ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سر هذه السورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاح أسناناً، وأحسنُوا الفتح به، لوصلوا إلى تناول هذه الكنوز، ولكنْ لله تعالى حكمةٌ بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالَمين، كما لَه حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم .... أ.هـ
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٤٠)
▪️افتتاح القرآن الكريم بالفاتحة وتكرار قراءتها في كل ركعة دليل على أهمية تواصل العقيدة في حياة المسلم، لتكون سلوكاً وعملاً واقعياً مستمراً في الحياة .
▪️الوسيلة القرآنية وسيلة فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، فالله جل وعلا لم يقتصر على مجرد الإقرار به كما في الطرق الكلامية، بل أمر بعبادته التي هي كمال النفوس وصلاحها وغايتها، فصلاح النفوس وطهارتها وسعادتها وراحتها واطمئنانها بعبادته .
▪️ليس هناك علم على وجه الأرض يُكرر يومياً بنفس الصيغة وبنفس الطريقة وبنفس الألفاظ إلا ويمله صاحبه وترفضه نفسه بل وتكرهه، إلا علم يصلك برب العالمين، والفاتحة أعظم العلوم .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٤٢)
رسالة إلى طلبة العلم والدعاة والمربين رجالاً ونساء :
▪️هذه السورة منهج رباني في بناء النفس الإنسانية، فبناء النفس الإنسانية يكون بترسيخ العقيدة في الأعماق، فالعقيدة هي الأساس المكين الذي ترتكز عليه فروع هذا الدين كله، ومن العبث محاولة إشادة بناء ضخم بلا أساس، فالعقيدة هي الأساس للبناء، والعمارة الضخمة لا بد لها من أساس مكين وقاعدة صلبة حتى يستقر فوقها البناء .
▪️إن التنفيذ للأوامر واجتناب النواهي ناتجٌ عن الاعتقاد الصحيح، لأن العقيدة كجذور الشجرة، وإذا لم تكن الجذور ضاربة في أعماق الأرض فإنها لن تحمل فروع هذه الشجرة الضخمة الباسقة، ولا يمكن أبداً أن نجمع أغصاناً نضرة مع بعضها في الهواء، فاستقرار العقيدة في الأفئدة يتوقف عليه تنفيذ جميع التشريعات، ومن العبث تتبع فروع الشرع وطلبها من شخص لا ترسخ في قلبه حقيقة هذا الدين، ولا تستقر في كيانه عظمة الله التي تهيمن على كل سكون وحركة في هذا الكون .
▪️إن تعليم الناس أمور دينهم من خلال القرآن ليس تجديداً في الخطاب الدعوي بل هو أمر إلزامي .
▪️كما أننا مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعبادة والسلوك، بل وفي قضايانا الاجتماعية، كذلك يجب علينا متابعته صلى الله عليه وسلم في منهجه في الدعوة إلى الله تعالى .
▪️إن هذا الدين لا يكون ولن يكون إلا كما أراد الله عز وجل، ولن يبنى إلا بنفس المنهج الذي رسمه رب العالمين، فكما أن هذه الأوامر والنواهي فريضة من عند الله، فكذلك اقتفاء المنهج الرباني في تعليم الناس ودعوتهم فرض كذلك .
أخيراً أقول : إن النفوس التي تقدم الإسلام للناس لا بد لها أن تكون كالمرآة الصافية التي تعكس حقيقة هذا الدين .
انتهى
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٧)
▪️في قوله تعالى :( الْحَمْدُ لِلَّهِ) جاء تقديم وصفه بالألوهية على وصفه بالربوبية، فلم يقل جل وعلا : الحمد لرب العالمين، بل قال : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ) للتذكير بأعظم نعمة أنعمها عليك وهي نعمة العبودية ، فالله هو المألوه المعبود الذي تألهه الخلائق محبةً وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب .
▪️إن من أعظم نعم الله عليك أن جعلك عبداً له خاصة، ولم يجعلك منقسماً بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلك عبداً لإله غيره، لا يسمع صوتك، ولا يبصر أفعالك، ولا يعلم أحوالك، ولا يملك لك ضراً ولا نفعاً، ولا وموتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا يُرفع إليه العمل الصالح، فله الحمد أعظم حمد وأتمه وأكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده .
▪️كلمة ( الحمد ) مفتاح المعارف الاعتقادية، وتأتي كنتيجة قلبية بعد التعرف على الله عز وجل من خلال تدبر الألفاظ التي نكررها، فتكرار السورة في كل ركعة يجعل المتدبر قادراً على استشعار الحمد في مختلف الحالات والظروف التي تمر به في السراء والضراء، في الغنى والفقر، في القوة والضعف، في إقبال الدنيا وإدبارها، في العز والذل .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٨)
▪️المؤمن يعيش حالة دائمة من الحمد لله عز وجل مردها اليقين والرضا بأمر الله، بل يصل إلى شكر الخالق على قضائه وقدره ليقينه أن كل ما يقضي به خالقه هو خير له . عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ماأنعم الله على عبدٍ نعمة فقال : الحمدلله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ . سنن ابن ماجه ٢ / ١٢٥٠. حسنه البوصيري ووافقه الألباني .
▪️ لا يكون حامداً من جهل صفات المحمود، ولا يمكن أن يكون حامداً كل الحمد إذا لم يعرف نعم الله عليه ويعترف بها، وإن قال ذلك بلسانه، فكم هم الذين يرددون هذه الكلمة ولكن كما قال تعالى :(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ) فلفظ الحمد يلفظه كل أحد، ولكن لفظ القلب لايتأتى إلا للقلب المعمور بحبه ومعرفته، فمجرد الادعاء لايعبّر عن الحقيقة، فالحمد كلمة يقولها القلب قبل اللسان لتنعكس على الجوارح، فتخضع لله شكراً وسلوكاً وعملاً .
▪️ في قوله تعالى: (رَبِّ العَالَمِينَ) تأكيد لاستحقاقه كل الحمد، فكل خير ونعمة في العالمين فهي من عنده ؛ وكل خلق وإبداع فهو راجع إليه، فهو رب كل شيء وخالقه، لا يخرج شيء عن ربوبيته، المالك المتصرف في هذا الكون بأجمعه، وكل من في السموات والأرض عبدٌ له في قبضته، مربي جميع العالمين بخلقه إياهم وإنعامه عليهم وتدبير أمورهم، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم، وقد جاء وصفه بالربوبيه بعد وصفه بالألوهية، وذلك إقرار باستحقاقه جل وعلا كل أنواع وأجناس الحمد .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٩)
▪️(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الذي وسعت رحمته جميع الخلق، فهو الموصوف بالرحمة مع كمال قوته وقهره وكمال غناه وعزته، أرحم بعباده من الأم بولدها، فرحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من المائة جزء التي خلقها اللَّه فكيف برحمته الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه ؟! فلو جُمعت رحمة الخلق كلهم لكانت رحمة الله أشد وأعظم.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : جاءت امرأة في السبي تبحث عن ولدها فلما وجدته أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة وَلَدَها في النار ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ! فقال : إن اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها. صحيح البخاري ومسلم .
▪️إن الأم تهتم – عادة – بتربية طفلها وتلبية حاجاته، والحفاظ عليه، وتتحمل الأذى في سبيل ذلك، وذلك ليس نتيجة شعورها بالواجب، بل لأنها تلاحظ عجزه عن الأكل والشرب، وعن الحركة، وعن دفع الحر والبرد وسائر الأخطار عن نفسه، فتندفع بدافع من الشعور بالرحمة والعطف لرفع هذا النقص فتحميه وترعاه وتسهر عليه، فإذا كانت هذه رحمة الأم فكيف رحمة رب العالمين ! فما أحوجنا لتذكر هذا الأمر، وما أشد غفلتنا عنه .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٠)
▪️في مجيء (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بعد (رَبِّ العَالَمِين) بيان أن شمول الربوبية لا يخرج شيء منها عن شمول الرحمة وسعتها، فاستحضر وأنت تردد (رَبِّ العَالَمِينَ) معاني ربوبيته وآثارها في الخلق، فإن استحضارها يجعل القلب يلين تعظيماً لله وثناءً عليه وإجلالاً له ومحبة، واستشعر وأنت تقرأ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أن الله أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك، وأن الرحمة الحقيقية هي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه .
▪️ كلما كنت أعرف بمعنى هذين الاسمين كنت أرضى بقضاء الرب سبحانه وتعالى وعلمت أن قضاء الله عز وجل دائر بين العدل والحكمة والرحمة ،كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور : ( اللهم اني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك .... ) الحديث .. فشهودك نعمة الله عليك في كل شيء حتى في المكروه يجعلك تتيقن أن كل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذاباً وألماً في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة.
▪️إن شعور العبد بمعية الله وهو يردد تلك الكلمات في كل صلاة بل في كل ركعة يجعله في أنس دائم ونعيم موصول بقربه، ويحس بالنور يغمر قلبه، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم، ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين، كيف لا وهو يردد كلمة الحمد على من ربَّاه وأحسن إليه وصرَّف أحواله ودبر أموره، فلا يقلق إذا تعسر أمر، ولا يحزن إذا فاته شيء، فهو أرحم الراحمين، بيده الرحمة التي لا يستطيع أحدٌ من خلقه أن يحجبها عنه أو يمنعها .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١١)
▪️إن أعمق درجات المعرفة هي المعرفة الوجدانية، وإن وصول الإنسان إلى ربه ومعرفته إياه حق المعرفة تكون من خلال إحساسه بنعمته وفضله عليه، لأن معرفته تعالى عن طريق الإحساس بالنعمة والاعتراف بها تكون أعمق وأدق وأكثر تأثيراً من معرفته عن طريق الاستدلال الفلسفي، العقلي، النظري، لأن هذه المعرفة حسية، وجدانية، فطرية، يتفاعل معها العبد بأعماقه وبكل أحاسيسه ومشاعره وفطرته .
▪️يقينك بهذه الآيات سبب فوزك بنعيم الدنيا الذي هو سكينة القلب واطمئنان النفس، والعبد عندما يفوز بهذه المعرفة يسكن جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، فهو لا يزال راضياً عن ربه، والرضا كما قال أحد السلف جنة الدنيا ومستراح العارفين، أما الجاهل برب العالمين الرحمن الرحيم فتراه جاحداً لنعمه، منكراً لفضله، ساخطاً من قضائه، ومن لم يعرف ربه ومعبوده حق المعرفة لايهنأ بعيش، وكما قال ابن القيم : فقلب العبد لا يزال يهيم في أودية القلق وتعصف به رياح الاضطراب حتى يعرف ربه ومعبوده حق المعرفة . ا.هـ
▪️في قوله تعالى :( مَالِكِ يَوْمِ الدِّين ) تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر، فكلمة (يَوْمِ الدِّين) تشير إلى الجزاء، ثواباً على الإحسان، وعقاباً على الإساءة، فأنت تكرر في كل ركعة هذه الآية التي تعني أن من أوصافه التي نثني عليه بها أنه مالك يوم الجزاء الذي يجازي فيه كل عامل بما عمل، فيجازيك بحسب عملك ؛ فأنت السبب في كل ما يجري لك وعليك ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) .
▪️ الاعتقاد بالحساب يجعلك تشعر بالمسؤولية عن التغيير في حياتك، ولعل في تكرار هذه الآية في كل ركعة يجعل الإنسان يشعر بأنه مطالب ومحاسب ومسؤول عن كل ما يصدر عنه، فإذا كان يعقل ما يقول فسيورثه ذلك خوفاً من ذلك اليوم الذي يحاسب الله عز وجل فيه الخلائق، فهل استشعرنا أننا سنقف جميعاً في ذلك اليوم الذي يوفّي الله فيه كل نفس ما كسبت ؟!
فكم نردد تلك الكلمات ولانشعر بالرهبة .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٣)
▪️الله جل وعلا مالك كل الأيام ؛ وخص يوم الدين بإضافة الملك إليه لخطورته، ولأنه ختام الأيام وثمرتها ولأنه يظهر فيه ملك الله كاملاً، فكل الملكيات تزول وتتلاشى فلا يملك أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، ولا يملك أن يدفع عن نفسه ولا عن غيره، ولن يكون قادراً على التصرف بماله ولا بقوته ولا بمنصبه ولا بموقعه الاجتماعي، ولا بلسانه ولا بيده ولا بغير ذلك، فيوم الدين هو اليوم الذي يتجرد العباد من مناصبهم الدنيوية ومكانتهم الاجتماعية، فالكل سواء، يحاسبون على ما قدموا من أعمال في حياتهم الدنيوية.
▪️(مَالِكِ يَوْمِ الدِّين) من أعظم النعم المستوجبة للحمد فملكيته سبحانه ليوم الدين هي التي حمت الضعفاء والمظلومين والمحزونين، فلمَ الهم ؟ ولم َ الحزن ؟ وأنت تعلم أن الله تعالى سيعوضك خيراً، وسيحاسب كل شخص على ظلمه وجبروته، ولا يظلم ربك أحداً.
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٤)
▪️بقوله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّين) تُستكمل صفات العظمة والكمال، فاستحقاق الحمد لصفاته جل وعلا كما هو لذاته، فهو لأسمائه وصفاته، فقد جاء الحمد والثناء له عز وجل في ذاته في كلمة : (لله) ثم جاء تأكيد الحمد له سبحانه في أوصاف عديدة له كقوله:
(رَبِّ العَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فبعد أن جاء الوصف برب العالمين، عقَّب بصفتي الرحمن الرحيم للتعريف بعظمة رحمته ثم جاء وصف مالك يوم الدين للتنبيه على عموم التصرف في المخلوقات يوم الجزاء .
▪️جاءت تلك الأوصاف كاملة بعد لفظة الحمد إشارة إلى استحقاقه سبحانه لا شريك له لكل المحامد والتعظيم، ومن خلال الآيات نعلم أن الربوبية والألوهية والملك لا تنفك الواحدة عن الأخرى والرحمة سبب واصل بين ذلك كله، والأسماء المذكورة هي أصول الأسماء الحسنى، فاسم الله متضمن لصفات الألوهية، واسم الرب متضمن لصفات الربوبية، واسم الرحمن متضمن لصفات الإحسان والجود والبر .
قال ابن القيم رحمه الله : فصفات الجلال والجمال أخص باسم الله، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم الرحمن، ومعاني أسمائه تدور على هذا . ا.هـ
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٥)
▪️في هذه الآيات الثلاث مناجاة بين الله والعبد كما جاء في الحديث.. فإذا قرأ العبد:(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) يقول الله سبحانه : حمدني عبدي، وإذا قرأ :(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يقول الله : أثنى علي عبدي، وإذا قرأ:(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يقول الله : مجدني عبدي، فهل نستشعر ذلك الحمد وذلك الثناء وذلك التمجيد حين نقرأ في صلواتنا ؟ وهل نستشعر ونستحضر جواب الله سبحانه لنا ؟
▪️في هذه الآيات الثلاث ترغيب وترهيب : فالترغيب في قوله عز وجل :(رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، والترهيب في قوله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّين) وهذا الذي يجب أن يسلكه كل طالب علم وكل داعية في الدعوة إلى الله .
▪️ظهر من كل ما تقدم، ابتداءً من بسم الله .. وإلى قوله: يوم الدين، أن ربك تعرف إليك بأسمائه وصفاته، وتحبب إليك بنعمه وآلائه .
قيل لابن عباس رضي الله عنهما : بم عرفت ربك ؟ فقال: عرفته بما عرَّف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه، فأنت تتعرف على الله كل يوم بل في كل صلاة، بل في كل ركعة، فمن انفتح له هذا الباب - باب الأسماء والصفات - انفتح له باب التوحيد الخالص بإذن الله .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٦)
▪️بدأ سبحانه وتعالى في السورة بذكر ما يورث في العبد المحبة لله وهو ربوبيته جل وعلا وتربيته للعالمين في قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)، وفي ذكر ما يبعث الرجاء في القلب في قوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثم ذكر ما يبعث الخوف في القلب بالتذكير بيوم الجزاء والحساب في قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ليُعبد الله بهذه الثلاث : بمحبته ورجائه وخوفه، وهذه الثلاث هي أركان العبادة .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) نتيجة حتمية لكل عبد تفهم كل ما سبق، ولهذا جاءت الآية بعد تلك الأوصاف الجليلة التي وصف الله بها نفسه في أول السورة لتبعث في القلب المحبة والرجاء والخوف، ولتكون أساساً عقائدياً متيناً يتلمسه الإنسان في واقعه ويحس به بفطرته .
▪️مجيء (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) بعد ذكر الآيات التي تبعث في القلب المحبة والرجاء والخوف رد على الطوائف الثلاث التي كل طائفة تتعلق بواحدة منها، كمن يعبد الله بالمحبة وحدها كالصوفية، أو من يعبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة، وكذلك من يعبد الله بالخوف وحده كالخوارج
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٧)
▪️في قوله تعالى :(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) قدم المفعول وهو إياك، وكرره للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، فأنت تعاهد ربك في كل صلاة أن لا تشرك به في عبادته أحدا .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) خطاب تخاطب به ربك، فأنت أثنيت عليه في الآيات السابقة، وبعد هذا الثناء كأنك اقتربت وحضرت بين يديه فقلت :(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) وهذه صورة بلاغيّة عظيمة من أساليب القرآن الكريم تسمى الالتفات .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) مدرسة عملية تُذكِّرك يومياً بالتعرف على رسالة رب العالمين التي أرسلها إليك لترددها في كل ركعة؛ وهي أن يقوم بقلبك من معرفته والمحبة له والرجاء له والخوف منه مايتحقق به العبودية الحقة .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٨)
▪️(إيَّاكَ نَعْبُد) كمال الذل والخضوع والخوف والمحبة، وكيف لا يشعر بالذل من يستحضر عظمة خالق كل شيء ؛ أو بالخوف من يستحضر شدة وعظمة يوم الدين والحساب ؛ وكيف لا يشعر بالحب من يسمع صفات الله تعالى ؛ ولا سيما الرحمن الرحيم المنبني عليهما الإحسان؛ وكذلك سائر صفات الكمال .
▪️( إِيَّاكَ نَعْبُد) إعلان للتوحيد في مختلف أنواعه وتثبيت في النفس معنى لا إله إلا الله، فهي القاعدة الأساسية لهذا الدين الذي لا يقوم بدونها، وهي ملخص لرسالته صلى الله عليه وسلم ورسالات الرسل من قبله .
▪️( إيَّاكَ نَعْبُد) حقيقة ضخمة غائبة عن الأذهان، فأكثر من يقولها إنَّما يقولها تقليداً أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يُفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء؛ كما في الحديث: « سمعت الناس يقولون شيئا فقلته » .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (١٩)
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) انجذاب قلبك وروحك إلى خالقك، وهذا ماخُلقت له، فأنت خُلقت لهدف وغاية، قال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون) الذاريات ٥٦، وهيأ الله لك جميع مافي الأرض لتحقق هذه الغاية .
▪️( إِيَّاكَ نَعْبُد) اعتراف منك بأن تكون أعمالك كلها لله، وأقوالك لله، وعطاؤك لله، ومنعك لله، وحبك لله، وبغضك لله، فمعاملتك ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده، لا تريد بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) تلك الكلمة التي أخطأ كثير من المسلمين اليوم في فهمها، فظنوا أن معنى:(إياك نعبد) أن نركع ونسجد ونصلي ونصوم ونحج ونقرأ القرآن فقط، وأن العبادة مقيدة بتلك العبادات فحسب .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) عهد مع الله بأن تصرف العبادة كلها له لأنك عرفته، وعرفت أن العمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، وطلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، والهرب من ذمهم، ورجائهم للضر والنفع، لا يكون من مؤمن يعرف ربه حق المعرفة، بل لايكون إلا من جاهل بربه، جاهل بخلقه .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٠)
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) واقع نعيشه ونتعايش معه، فقد أعظم الله تعالى المنّة على هذه الأمة بأن بعث فيها أفضل رسول وأنزل إليها أكمل دين وأقوم شريعة، فكانت الأمة التي استحقت أن تسمى المسلمـين لتحقيقها معاني:(إِيَّاكَ نَعْبُد) وهي : إسلام القلب والجوارح، إسلام الفرد والمجتمع، إسلام الحياة كلها لله تعالى وحده لا شريك له .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي الاستجابة لكل الأوامر، والانقياد والاستسلام لمن بيده ملكوت كل شيء، في كل حال من الأحوال، في كل زمان ومكان .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي الإسلام الذي تضمنه تلك الكلمة العظيمة التي تعدل الكون كله، بل ترجح به، وما ظلت الأمة الإسلامية قروناً تقود البشرية وتتبوأ مركز الأمة الوسط بين العالمين إلا بفضل إدراكها لتلك الكلمة العظيمة والعمل بمضمونها وحقيقة مدلولها في واقع الحياة .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) اعتراف منك بأنك عبد لله، فالحرية الحقيقية في عبودية الله، لا حرية لك بلباسك ولا بفعلك ولا ببيعك ولا بشرائك، ولا بذهابك ولا بمجيئك، إلا في هذه الحدود .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي الالتزام بالإسلام كله في شموله وسعته، وليس الأخذ بجانب من تعاليمه وأحكامه وطرح جانب آخر، وإلا كيف تردد : (إِيَّاكَ نَعْبُد) ؟!
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) ترجع إليها معاني القرآن كلّها التي حوت في طيّاتها تجريد التّوحيد لربّ العبيد، والتوكّل عليه، والثّناء عليه، والدّعاء بالإقبال إليه، والافتخار والاعتزاز بعبادته .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي البراءة من كل معبود من دونه، فلا يتحاكم إلا إليه، ولا يتلقى الهدى إلا منه، ولا يتوجه بالعمل إلا إليه، ولا يوالي ولا يعادي إلا فيه.
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) هي فقط التي تكفل سعادة الإنسان في الدارين، فإذا لم تتحقق معاني (إِيَّاكَ نَعْبُد) أو ضعف تحقيقها لم يحصل المرء على مايطلب ولو ملك الدنيا بأسرها، ولو حصل على علوم الدنيا كلها، ومن المؤسف أن بعض أهل (إِيَّاكَ نَعْبُد) شُغلوا بفلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت عقول البعض واستحوذت على الأفكار، كل ذلك من أجل تحقيق الراحة والسعادة التي يبحثون عنها !! ولن يجدوها إلا في ظل (إِيَّاكَ نَعْبُد).
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) تستوعب الكيان البشري كله، فمن يردد:(إِيَّاكَ نَعْبُد) لا يعبد الله بلسانه فحسب أو ببدنه فقط أو بقلبه أو بعقله، بل يعبد الله بهذا كله: بلسانه ذاكراً داعياً تالياً، وببدنه مصلياً صائماً مجاهداً، وبقلبه محباً خائفاً راجياً متوكلاً، وبعقله متفكراً متدبراً متأملاً . وهذا هو معنى (إِيَّاكَ نَعْبُد) .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٢)
▪️(إيَّاكَ نَعْبُد) معناها : أننا جميعاً لك عبيد، فلم يقل: (أعبد) لأنك تخبر عن نفسك وغيرك من العباد، وفي هذا إشارة إلى أن أهل الملة الواحدة هم يد واحدة، فربهم واحد وكتابهم واحد ودينهم واحد ودعوتهم واحدة، فلا مجال للشقاق ولا مجال للنزاع ولا مجال للفرقة .
▪️(إيَّاكَ نَعْبُد) هدفك في الحياة الذي هو عبادة الله عز وجل، وليس شيئاً نتحدث عنه ثم نقفله وننتهي إلى غيره، بل هو معنى يرافقنا في كل وقت وفي كل حال، وما جعلك الله ترددها في اليوم مراراً وتكراراً إلا لتفقه معناها وتعمل بمقتضاها، لم يطلب منك تردادها إلا لأجل أن تقف مع نفسك وتتذكر هذه الكلمة التي هي حياتك ومصيرك !!
▪️(إيَّاكَ نَعْبُد) اعتراف منك بالعبودية، فأنت تردد في كل ركعة هذا الاعتراف، فهل وقفت مع نفسك وسألتها عن هذا الاعتراف ماهو ؟ وماحقيقته ؟
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) أصلها عبادة القلب، فإن القلب هو الملك، والأعضاء جنوده، فالله عز وجل خلق هذا القلب وركبه تركيباً خاصاً لا يصلح بحال من الأحوال إلا إذا تعلق بربه ومليكه، فإذا تعلق القلب بالمخلوق عُذِّب بهذا المخلوق أياً كان سواء كان رجلاً، أو امرأة، أو سيارة، أو عقارات، أو مالاً، أو غير ذلك.
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) على الحقيقة والتحقيق : الدين كله، ولما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه مسلم .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُد) أصل الدين وقاعدته التي لا تصلح الحياة البشرية كلها إلا به، فإذا عرفت الله وآمنت به ووحدته سهل عليك الانقياد لفعل الأوامر واجتناب النواهي رغبة في الثواب وخشية من العقاب .
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) من أعظم الأدوية القلبية والبدنية، وهاتان الكلمتان من أقوى أجزاء الدواء، وسبب قوة هاتين الكلمتين لما فيها من عموم التفويض والتوكل والالتجاء والاستعانة والافتقار والطلب .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٤)
▪️(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) كلمتان مقسومتان بين العبد وربه، فالعبادة تجمع أصلين : غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والاستعانة تجمع أصلين : الثقة بالله والاعتماد عليه، فالعبادة هي الغاية التي خلق الخلق من أجلها، والاستعانة وسيلة إليها .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) استحضارك عظم حاجتك إلى ربك عز وجل في أن يثبتك على توحيده، فمادام اعترفت أنك لاتعبد غيره ولاتتعلق بسواه فأنت محتاج إلى من يعينك على ذلك ويثبتك عليه، لأنه لا يمكن أن تثبت في توحيد الله إلا بعون منه، وكلما كنت أتم عبودية كانت الإعانة لك من الله أعظم .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) إعلان ضعفك لله، وافتقارك إليه، وانكسارك بين يديه، فهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، أما المخلوق فليس عنده نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٥)
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) اعتراف منك أنك لاتستعين غيره، ليقينك أن الأمر كله بيده وحده لا يملك أحد منه مثقال ذرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ... الحديث ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، فمن استعان بغير الله وكله الله إليه، فلا يستطيع نفعه بل يخذله، وكما قال الشاعر :
من استعان بغير الله في طلب
فإنّ ناصره عجز وخذلان .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) اعتراف يمنعك أن ترجو المخلوق أو تستعين به أو تطلب منه منفعة لك فيما لايقدر عليه إلا الله، أما إذا استعنت بالمخلوق فيما يقدر عليه كبناء الدار وخياطة الثوب ونحو ذلك فلا بأس بذلك، فالتعاون مطلوب فيما يرضي الله، فلا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله، وكن كما قال تعالى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ) الليل ١٩-٢٠ .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) أن تخلص له وتتبع شرعه، فمن أعظم ما تطلب الاستعانة به لتحقيق العبوديّة هو أن تكون خالصة لله، وأن تكون بما شرعه الله على لسان رسوله، لا بما تمليه عقول الرّجال والعادات والأعراف وغير ذلك، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه موافقاً لشرعه .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) أن تستعين بالله وتتوكل عليه في جميع أمور دينك ودنياك، فإن كل عابد لله عبودية تامة فهو مستعين به ولا ينعكس، فهناك من يستعين بالله في أمور دينه فقط وهذا نقص في الاستعانة، ومنهم من يستعين به في أمور دنياه فقط، وهذا أيضًا نقص في الاستعانة، ومنهم من يستعين بالله في بعض أمور دينه أو في بعض أمور دنياه أو في حاجة واحدة فقط، وهذا أيضاً نقص في الاستعانة، والحق أن تستعين بالله في جميع أمور دينك ودنياك .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) أن تتبرّأ من حولك وقوّتك ولا يكن حالك حال من قال : (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) بل عليك أن تفتقر إلى الله وحده، وتسأله الإعانة في الأمور كلّها، فإحساسك بالحاجة إلى معونة ربك معناه : أنك لا تملك لنفسك حولاً ولا قوة، وهذا الشعور من شأنه أن يبعد الإنسان عن الشعور بالعجب الناشئ عن الإحساس بالقدرة التامة في تربية الذات وتنميتها، كهذا الهراء الذي نسمعه يتردد على ألسنة الكثير ممن يرددون:(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) في اليوم مراراً وتكراراً، ويستشهدون بأعلام ليسوا على شريعتنا ويحاجون بحجج واهية تنافي الذل والافتقار إلى رب الأرباب .
▪️(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) شعور غرسه الله في فطرة الإنسان بضرورته إلى ربه وخالقه ومالكه ؛ ثم أرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب للتذكير بذلك، رحمة منه للطائعين، وقطعاً منه لحجة المعاندين، فكل مخلوق مضطر إلى موجده ومنشئه ومدبر أمره ورازقه، فهل فقهنا معنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين ) ؟
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٨)
▪️في قوله تعالى :(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) لجوءك إلى الله عزّ وجلّ أن يثبتك على دينه، فالصراط المستقيم هو الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فـ (إِيَّاكَ نَعْبُد) التزام بما أوجبه الله عليك من العبادة، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) طلب للإعانة على ذلك، و(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم) متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل والتوفيق للقيام بهما .
▪️(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم) سؤال عظيم لا يعرف قدره وحاجته إلا من وفقه الله وسدده وقليل ما هم، فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام، فأنت تطلب من الله أن يبين لك طريق الحق، وهذه هي هداية البيان، وتطلب من الله أن يوفقك لهذا الطريق الذي لا اعوجاج فيه وأن يثبتك عليه، وهذه هي هداية التوفيق، ونحن في زمننا هذا أحوج مانكون إلى هاتين الهدايتين، فنسأل الله أن يرزقنا إياها بمنِّه وفضله وكرمه .
▪️إن حقيقة الصراط المستقيم الذي يتصوره العبد وقت سؤاله هو طريق الله الذي نصبه لعباده عن طريق رسله، فمن رحمة الله أن أوجب علينا تكرار هذا الدعاء، فلنتأمل ضرورتنا إلى هذا الدعاء، فالهداية إلى ذلك تتضمن العلم النافع والعمل الصالح والثبات على ذلك إلى أن نلقى الله
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٢٩)
▪️إن الإيمان والعمل الصالح هو الصراط المستقيم في الدنيا الذي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عليه، وأمرهم بسؤال الهداية إليه، ولو رجعت إلى كتاب الله وتدبرت الصراط المستقيم الذي وعد الله أهله بالتمكين والاستخلاف والأمن والعزة والنصرة والسعادة والحياة الطيبة والراحة والطمأنينة وغير ذلك من الثمرات التي وعد الله بها في كتابه لأهل الصراط المستقيم لوجدت ذلك أكثر مما يُحصى .
▪️كل ما خالف هذا الصراط من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج ولذلك جعل الله هذا الدعاء ركناً قولياً نجهر به في الصلوات اليومية، لأنه إذا حصل البيان والدلالة والتعريف أدى ذلك إلى هداية التوفيق وحُبِّب الإيمان في قلب صاحبه وزُين فيه، وحصل الرشد والهداية، نسأل الله من فضله .
▪️في هذا الدعاء ضمان السعادة في الدارين، فنحن بحاجة ماسة إلى هذا الضمان وإلى السكون والاطمئنان، فالأمر يتعلق بمصير الإنسان وبكل حياته ووجوده وحركته، وهذا الدعاء أعظم شيء نحتاجه، فحاجتنا إلى الهدى في كل لحظة أعظم من حاجتنا إلى الأكل والشرب
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٠)
▪️من هُدي في هذه الدار إلى الصراط المستقيم الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، هُدي في الآخرة إلى الصراط المستقيم المنصوب على متن جهنم، فعلى قدر سير العبد على هذا الصراط في الدنيا، يكون سيره على ذلك الصراط في الآخرة ..
قال ابن تيمية رحمه الله : والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم من يُخطف ويلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة .
فلينظر المرء إلى الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط التي تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت، فكذلك هي هناك ( وما ربك بظلام للعبيد ) ا.هـ .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣١)
▪️في قوله تعالى : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } التفصيل بعد قوله الصراط المستقيم، لبيان هذا الطريق الذي هو طريق الذين تكرّم الله عليهم بأعظم النعم، وقد ذكرهم الله في سورة النساء بقوله :(وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً).
▪️في قوله تعالى:( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) رد على الشيعة الذين يرددون في صلاتهم هذه الآية، ويقعون في أبي بكر وإمامته وهو من الصديقين رضي الله عنه وأرضاه، نعوذ بالله من الضلال .
▪️في قوله تعالى:( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) دليل على أن نعمة الدين أكبر من نعمة الدنيا، وأن من سلك هذا الصراط فهو في نعمة وفي سرور وانشراح لقوله تعالى:(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ...) النحل ٩٧، فهؤلاء في نعمة وإن كانوا في ضيق من العيش في الدنيا،لأن النعمة بالدين أعظم نعمة ينعم الله بها على عبده .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٢)
▪️كلمة (أَنْعَمْت) تفيد معنى ينطبق على جميع الأمور التي تعني الإنسان من هداية أو صحة أو مال أو جاه أو علم أو أمن، أو أي شيء آخر يسهم في إسعاد الإنسان، فهذه كلها نعم من رب العالمين، ولكن المهم هو أن ندرك نحن هذه النعمة، فهل النعمة نعمة المال أو السلطة أو الجاه أو المنصب أو القوة الجسدية أو الجمال أو النسب، هذا كله أو بعضه قد يشعرك بالطمأنينة والسعادة والراحة النفسية، ولكنها طمأنينة وراحة وسعادة لاتلبث أن تزول، فالمال والجمال والقوة وغير ذلك لن يستطيع أن يمنحك السعادة التي قد يجدها الفقير المعدم، ويفقدها الغني بماله، ولأجل ذلك جاء التعبير عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، بـ (أنعمت عليهم) لأنهم في نعمة حقيقية، وفي سعادة قلبية حتى وهم يتألمون ويواجهون المحن والبلايا ويستشهدون .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٣)
▪️في قوله تعالى:(أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) استعطاف، فإن من عادة المساكين أن يتوسلوا بقولهم : أعطنا كما أعطيت فلاناً وفلاناً، فهذا الدعاء كما قال ابن القيم توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليهم بالهداية كما يقول السائل للكريم : تصدق عليّ في جملة من تصدقت عليهم، وعلمني في جملة من علمته، وأحسن إليّ في جملة من شملته بإحسانك، وهذا من الافتقار إلى الله في طلب الهداية التي هي أصلُ سعادة الدارين .
▪️ إن في المغضوب عليهم والضالين من أنعم الله عليهم بنعم عظيمة في الدنيا لكن هذه النعم ليست بشيء بالنسبة إلى نعمة الدين ولهذا قال تعالى:(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) لبيان أن النعمة الحقيقية هي نعمة الهداية .
▪️تكرار هذا الدعاء في كل ركعة دليل على أن هذا الدعاء ليس أمراً نظرياً تجريدياً لا واقع له، أو فوق طاقة البشر أو غير قابل للتطبيق، بل إنه تعالى في خصوص هذه السورة يريد أن يبين لنا أن الأسوة والقدوة واقعاً حياً يمكن أن نترسم خطاه، ونهتدي بهديه، وكل ذلك يفسر لنا السبب في أن ذلك قد ورد في سورة الفاتحة التي تتكرر في كل يوم سبع عشرة مرة، ليصبح خلقاً وطريقة من خلال ارتكاز ذلك في نفس الإنسان وروحه .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٤)
▪️في قوله تعالى:(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين) الاستعاذة من طريق المغضوب عليهم والضالين، والمغضوب عليهم هم اليهود الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، والضالون هم النصارى الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لايهتدون إلى الحق .
▪️الاستعاذة من صراط المغضوب عليهم استعاذة من أسباب الغضب، والاستعاذة من صراط الضالين استعاذة من أسباب الضلال، فقد يظن البعض إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن أن ذلك مخصوص بهم، بل كل من علم حكماً من أحكام الله تعالى وخالفه كان مستحقاً لغضب الله عز وجل وذلك بحسب ما خالف به من أمر الله تعالى .
▪️في قوله تعالى:(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين) استعاذة من طريق المغضوب عليهم والضالين، وهو دعاء نكرره في كل ركعة أن يجنبنا طريق اليهود والنصارى، وهذا الدعاء يجعل كلاً منا يحاسب نفسه ليسلم مما وقع فيه هذان الفريقان فيحذر طريقهما، فكم من المسلمين يعلم حكم تارك الصلاة ويتركها، ويعلم حكم تحريف الكلم عن مواضعه ويحرف، ويكتم دين الله تعالى ويتحايل على الدين وهو يعلم حرمة ذلك، ويعلم تحريم قطيعة الرحم وهو قاطع، ويعلم تحريم الكذب وهو كذاب، ويعلم تحريم الربا ويرابي، وغير هذا مما يخالف أمر الله...
وكم من المسلمين من يبتدع قاصداً الأجر والثواب، ولهذا كان في قوله تعالى:(وَلا الضَّالِّين) إشارة إلى أن الضلال صفة ممقوتة لأن المؤمن يسأل الله تعالى أن يعصمه عن طريق الضالين، فعليه إذاً أن يتعلم مايجعله يؤدي عبادته على الوجه الصحيح .
▪️كما سألت الله أن يعصمك من طريق هؤلاء فتبرأ منهم وتجنب ماهم عليه، واحمد الله على أن هداك الصراط المستقيم، فكم من مسلم يدعو ربه في كل ركعة بأن يجنبه الله طريق اليهود والنصارى وهو يشابههم ويقلدهم ويلبس لبسهم، ويتمنى أن يكون مثلهم في هيئاتهم وأخلاقهم وطبيعة حياتهم، بل ويتمنى أن يعيش طوال عمره في بلادهم بلا عذر ولاضرورة !! ولاحول ولا قوة إلا بالله، وهذا من ضعف العقيدة الناتج عن عدم تدبر مانقرأ من كتاب الله .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٦)
▪️من علامة اهتدائك للصراط المستقيم مخالفة المغضوب عليهم والضالين ومن سار على نهجهم، ولذلك لما ذكر الله الصراط المستقيم، ثم ذكر الذين أنعم عليهم، قال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين) فمن شابههم في لبسهم أو كلامهم أو حركاتهم أو سكناتهم لم يهتد اهتداءً تاماً، ففي الحديث الصحيح: (من تشبه بقوم فهو منهم) فيدخل في ذلك التشبه بهم في لباسهم، فكم من مسلمة تدعو بهذا الدعاء في كل ركعة وهي تلبس لبس الضالين وتعجب به، ويدخل في التشبه أيضاً من ينطق لغتهم دائماً بدون حاجة ويحبها ويقدمها على العربية وهذا كما قال ابن تيميه من علامة نفاقه ..
▪️إن العالم إذا علم قامت عليه الحجة، ولا يقصد بالعالم واسع العلم، بل يقصد بالعالم كل من علم مسألة من مسائل الدين فهو عالم بها حتى وإن كان وصفه عامياً كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، ففي الآية التحذير من عدم عمل العالم بما علم، فاليهود تعلموا ولم يعملوا، والنصارى عملوا بلا علم ولذلك ضلوا، ولِمَ ضلوا؟ لأنهم لم يتعلموا، بل عبدوا الله بلا علم، وبعض الناس الآن يهون من شأن العلم الشرعي، فهذا فيه شبه من النصارى .
▪️ كلمة :(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم) جاءت في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم، وذلك بالإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، أما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم، ففي قوله تعالى :(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم) إشارة إلى تعريفهم، أما المغضوب عليهم فالمقصود في الآية التحذير من صفتهم .
▪️في الآية يأمر الله عز وجل عباده المؤمنين بمعاداة أهل الغضب والضلال، فالمؤمن يغضب لغضب ربه، ويرضى لرضا ربه، فغضبك على هؤلاء موافقة لغضب ربك عليهم، وهذه حقيقة العبودية، فاليهود قد غضب الله عليهم، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم، وتأمل كيف حذف فاعل الغضب وقال : (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم) لأن للمؤمنين نصيب من غضب الله عليهم، أما الإنعام فإنه لله وحده؛ ولذلك قال تعالى :(أَنْعَمْتَ) .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٣٨)
▪️ انقسم الناس في السورة إلى ثلاثة أقسام : عالم بالحق عامل به، وهو المنعم عليه، وهذا الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح؛ كما قال تعالى : ( قد أفلح من زكاها)، وعالم بالحق مخالف له متبع هواه، وهو المغضوب عليه، وجاهل بالحق، وهو الضال .
▪️إن فساد القصد وسوء النية والحسد والتكبر عن قبول الحق سبب للحرمان من هداية التوفيق، لأن هداية التوفيق لاتتحقق للعبد إلا بحسن القصد وصدق النية وطهارة القلب، فاليهود حرموا هداية التوفيق بسبب إعراضهم عن الحق وسوء نواياهم وفساد قصدهم وحسدهم وتكبرهم، وفي هذا تحذير من ذلك .
▪️الجهل بالحق وترك العلم الواجب سبب الضلال والحرمان من هداية البيان والعلم، لأن هداية البيان والعلم لاتتحقق إلا بالعلم النافع وبذل الجهد في تحصيله، فالنصارى ضلوا لأنهم جهلوا الحق وعملوا خلافه، وفي هذا التحذير من التهاون في طلب العلم، والتعبد بما لم يشرعه الله .
▪️في الآيات معانٍ لو استشعرناها وجدنا ما يلي : أننا نسأل الله الهداية في كل ركعة، فهل بذلنا السبب ؟! ونسأل الله أن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في كل ركعة، فهل تعرفنا على سيرهم واتبعنا نهجهم وحذونا حذوهم ؟! ونسأل الله أن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين في كل ركعة، فهل تجنبنا طريقهم وتركنا التشبه بهم، وكنا على حذر من التلبيسات الباطلة والشبه الباهتة ؟!
▪️هذه السورة كما قال ابن القيم : هي المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنها المفتاح لكنوز الجَنَّة، ولكن ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سر هذه السورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاح أسناناً، وأحسنُوا الفتح به، لوصلوا إلى تناول هذه الكنوز، ولكنْ لله تعالى حكمةٌ بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالَمين، كما لَه حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم .... أ.هـ
▪️افتتاح القرآن الكريم بالفاتحة وتكرار قراءتها في كل ركعة دليل على أهمية تواصل العقيدة في حياة المسلم، لتكون سلوكاً وعملاً واقعياً مستمراً في الحياة .
▪️الوسيلة القرآنية وسيلة فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، فالله جل وعلا لم يقتصر على مجرد الإقرار به كما في الطرق الكلامية، بل أمر بعبادته التي هي كمال النفوس وصلاحها وغايتها، فصلاح النفوس وطهارتها وسعادتها وراحتها واطمئنانها بعبادته .
▪️ليس هناك علم على وجه الأرض يُكرر يومياً بنفس الصيغة وبنفس الطريقة وبنفس الألفاظ إلا ويمله صاحبه وترفضه نفسه بل وتكرهه، إلا علم يصلك برب العالمين، والفاتحة أعظم العلوم .
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة (٤٢)
رسالة إلى طلبة العلم والدعاة والمربين رجالاً ونساء :
▪️هذه السورة منهج رباني في بناء النفس الإنسانية، فبناء النفس الإنسانية يكون بترسيخ العقيدة في الأعماق، فالعقيدة هي الأساس المكين الذي ترتكز عليه فروع هذا الدين كله، ومن العبث محاولة إشادة بناء ضخم بلا أساس، فالعقيدة هي الأساس للبناء، والعمارة الضخمة لا بد لها من أساس مكين وقاعدة صلبة حتى يستقر فوقها البناء .
▪️إن التنفيذ للأوامر واجتناب النواهي ناتجٌ عن الاعتقاد الصحيح، لأن العقيدة كجذور الشجرة، وإذا لم تكن الجذور ضاربة في أعماق الأرض فإنها لن تحمل فروع هذه الشجرة الضخمة الباسقة، ولا يمكن أبداً أن نجمع أغصاناً نضرة مع بعضها في الهواء، فاستقرار العقيدة في الأفئدة يتوقف عليه تنفيذ جميع التشريعات، ومن العبث تتبع فروع الشرع وطلبها من شخص لا ترسخ في قلبه حقيقة هذا الدين، ولا تستقر في كيانه عظمة الله التي تهيمن على كل سكون وحركة في هذا الكون .
▪️إن تعليم الناس أمور دينهم من خلال القرآن ليس تجديداً في الخطاب الدعوي بل هو أمر إلزامي .
▪️كما أننا مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعبادة والسلوك، بل وفي قضايانا الاجتماعية، كذلك يجب علينا متابعته صلى الله عليه وسلم في منهجه في الدعوة إلى الله تعالى .
▪️إن هذا الدين لا يكون ولن يكون إلا كما أراد الله عز وجل، ولن يبنى إلا بنفس المنهج الذي رسمه رب العالمين، فكما أن هذه الأوامر والنواهي فريضة من عند الله، فكذلك اقتفاء المنهج الرباني في تعليم الناس ودعوتهم فرض كذلك .
أخيراً أقول : إن النفوس التي تقدم الإسلام للناس لا بد لها أن تكون كالمرآة الصافية التي تعكس حقيقة هذا الدين .
انتهى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق