المداينة
لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له و لوالديه و للمسلمين
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره، و نتوب
إليه،و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا،من يهديه الله فلا مضلّ له،و
مَن يُضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،و أشهد أن
محمداً عبده و رسوله،صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه و مَن تبعهم فإحسان و سلم
تسليما....أما بعد.
- فلمّا كان الدين الإسلامي ديناً كاملاً شاملاً لِمَا يقوم
به العباد تجاه ربّهم من العبادات و ما يفعلونه في أنفسهم من العادات، و ما
يتعاملون به بينهم من المعاملات، و قد جاء مبيِّنا لأحكام ذلك تفصيلاً و إجمالاً،
و كان مما شاع بين الناس التعامل بالمداينة و هي بيعُ الغائب بالنّاجز أو بالعكس،
أو بيعُ الغائب بالغائب، أحببتُ أن أُبيِّن أحكام بعض ذلك فيما يأتي فأقول:
أقسام المداينة
القسم الأول:
أن يحتاج إلى شراء سلعة و ليس عنده ثمن حاضر
ينقده، فيشتريها إلى أجل معلوم بثمن زائد على ثمنها الحاضر فهذا جائز. مثل أن
يَشتري بيتاً ليسكنه أو يؤجِّره بعشرة آلاف إلى سنة،و تكون قيمته لو بيع نقداً
تسعة آلاف، أو يشتري سيارة يركبها أو يؤجِّرها بعشرة لآلاف إلى سنة، و قيمتها لو
بيعت نقداً تسعة آلاف. و هو داخل في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ﴾(سورة البقرة،الآية:282)
القسم الثاني:
أن يشتري السلعة إلى أجل لقصد الاتجار بها. مثل أن
يشتري قمحاً بثمن مؤجل زائد على ثمنه الحاضر ليتجر به إلى بلد آخر أو لينتظر به
زيادة السوق أو نحو ذلك، فهذا جائز أيضاً لدخوله في الآية السابقة.
- وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذين القسمين
أنهما جائزان بالكتاب و السنة و الإجماع (ذكره ابن قاسم في
مجموع الفتاوى ص499ج29 و لا فرق في ان يكون التأجيل إلى وقت واحد أو إلى أوقات
متعددة مثل أن يقول:بعنه عليك بكذا على أن يحل من الثمن كل شهر كذا و كذا
....إلخ.) .
القسم الثالث:
أن يحتاج إلى دراهم
فيأخذها من شخص بشيء في ذمته.مثل أن يقول لشخص: أعطني خمسين ريالاً بخمسة و عشرين
صاعا من البُرِّ أسلِّمها لك بعد سنة، فهذا جائز أيضاً، و هو السَلمُ الذي ورد به
الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدَم النبي صلى الله عليه
و سلم المدينة و هم يسلِفُونَ في
الثمار السنة و السنتين فقال صلى الله عليه و سلم:(من أسلف فليُسْلِف في كيلِ
معلوم و وزن معلوم إلى أجل معلوم) (رواه البخاري، كتاب
السلم2240،و مسلم، كتاب المسافات)
القسم الرابع:
أن يكون محتاجا
لدراهم فلا يجد من يقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها على صاحبها الذي
اشتراها منه بثمن أقل منه نقداً، فهذه هي مسألة العينة، و هي حرام، لقوله صلى الله
عليه و سلم )إذا ضنَّ الناس
بالدينار و الدرهم و تبايعوا بالعينة و اتبعوا أذناب البقر، و تركوا الجهاد في
سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء لا يرفعه حتى يرجعوا لدينهم((رواه أحمد و أبو داود
مسند أحمد (2/28)،و سنن أبي داود،كتاب البيوع(3462) )(1604)نو أبو داود،
كتاب البيوع(3463)،و الترمذي، كتاب البيوع(1311)،و النسائي،كتاب البيوع(4616)،و
ابن ماجة كتاب التجارات(2280)، و أحمد(1/217).
- لأن هذه حيلة ظاهرة على الربا، فإنه في الحقيقة
بيع دراهم حاضرة بدراهم وؤجلة أكثر منها دخلت بينهما سلعة، و قد نص الإمام أحمد و
غيره على تحريمها.
القسم الخامس: أن
يحتاج إلى دراهم و لا يجد مَن يقرضه فيشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيع السلعة على
شخص آخر غير الذي اشتراها منه،فهذه هي مسألة التورق.
- وقد اختلف العلماء رحمهم الله في جوازها،
فمنهم مَن قال:إنَّها جائزة،لأن الرجل يشتري السلعة ويكون غرضه إمَّا عين السلعة
و إمَّا عوضها و كلاهما غرض صحيح.
و من العلماء من قال:إنها لا تجوز،لان الغرض
منها هو أخذ دراهم بدراهم و دخلت السلعة بينهما تحليلاً،و تحليل المحرم بالوسائل
التي لا يرتفعُ بها حصول المفسدة لا يُغني شيئا. و قد قال النبي صلى الله عليه و
سلم (إنَّما الأعمال بالنيَّات،و إنما لكل امرئ ما نوى)رواه البخاري، كتاب
بدء الوحي(1)،و مسلم،كتاب الإمارة(1907).
و القول بتحريم مسألة التورق
هذه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، و هو رواية عن الإمام احمد. بل جعلها الإمام أحمد في رواية أبي داود من
العينة كما نقله ابن القيم في (تهذيب السنن(5/801).
- ولكن نظراًً لحاجة الناس اليوم و قلّة
المقرضين ينبغي القول بالجواز بشروط:
1- أن يكون محتاجا
إلى الدراهم،فإن لم يكنْ محتاجا فلا يجوز كمن يلجأ إلى هذه الطريقة ليدين غيره.
2- أن لا يتمكَّن من
الحصول على المال بطرق أخرى مباحة كالقرض و السِّلم،فإن تمكن من الحصول على المال
بطريقة أخرى لم تجز هذه الطريقة لأنَّه لا حاجة به إليها.
3- أن لا يشتمل
العقد على ما يشبه صورة الرِّبا مثل أن يقول:بعتك إيّاها العشرة أحد عشر أو نحو
ذلك، فإن اشتمل على ذلك فهو إمّا مكروه أو محرم، نقل عن الإمام أحمد أنه قال في
مثل هذا: كأنه دراهم بدراهم لا يصحّ. هذا كلام الإمام احمد.و عليه فالطريق الصحيح
أن يعرف الدائن قيمة السلعة و مقدار ربحه ثم يقول للمستدين:بعتك إيّاها بكذا و كذا
إلى سنة.
4- أن لا يبيعها
المستدين إلا بعد قبضها و حيازتها لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع السلع
قبل أن يحوزها التجار إلى رحالهم. فإذا تمّت هذه الشروط الأربعة فإن القول بجواز
مسألة التورق متوجةٌ كيلا يحصل تضييقّ على الناس.و ليكن معلوما أنّه لا يجوز أن
يبيعها المستدين على الدائن بأقل مما استراها به بأي حال من الأحوال،لأن هذه هي مسألة
العينة السابقة في القسم الرابع.
القسم السادس:
طريقة المداينة التي
يستعملها كثير من الناس اليوم، و هي أن يتفق المستدين و الدائن على أخذ دراهم
العشرة أحد عشر أو أقل أو أكثر، ثم يذهبا إلى الدكان فيشتري الدائن منه مالا بقدر
الدراهم التي اتفق و المستدين عليها، ثم يبيعه على المستدين، ثم يبيعه المستدين
على صاحب الدكان بعد أن يخصم عليهم شيئا من المال يسمونه السعي، و هذا حرام بلا
ريب، و قد نصَّ شيخ الإسلام ابن تيمية في عدّة مواضع على تحريمه، و لم يحك فيه
خلافاً مع أنه حكى الخلاف في مسألة التورُّق.
- والمواضع التي ذكر فيها شيخ الإسلام تحريم هذه
المسألة هي:
1- يقول في ص74 من
المجلد 28: "و...و الثلاثية مثل أن يدخلا بينهما محللا للربا يشتري السلعة
منه آكل الربا، ثم يبيعها المعطي للرّبا إلى أجل ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم
يستفيدها المحلِّل .هذه المعاملات منها ما هو حرام بإجماع المسلمين مثل التي يجري
فيها شرط لذاك، أو التي يباع فيها المبيع قبل القبض الشرعي، أو بغير الشروط
الشرعية، أو يقلب فيها الدِّين على المعسر. و من هذه المعاملات ما تنازع فيها بعض
العلماء لكن الثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و صحابته الكرام أنها حرام".
2- و في ص437 مجلد 29 قال :"...و قول
القائل لغيره أدينك كل مائة بكسب كذا و كذا حرام....إلى أن قال : و بكل حال فهذه
المعاملة و أمثالها من المعاملات التي يقصدّ بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل
هي معاملة فاسدة ربوية".
3-
و في ص439 من المجلد 29المذكور قال: "أما إذا كان قصد الطالب أخذ دراهم بأكثر
منها إلى أجل، و المعطي يقصد إعطاء ذلك،فهذا ربا لا ريب في تحريمه، و إن تحايلا
على ذلك بأي طريق كان،فإنما الأعمال بانيات و إنما لكل امرئ ما نوى". و ذكر
نحو هذا في ص430 و ص433 و ص441من المجلد المذكور و ذكر نحوه في كتاب: إبطال
التحليل في ص109.
- وبعد، فإنّ تحريم هذه المداينة التي ذكرنا
صورتها في أول هذا القسم لا يمتري فيه شخص تجرّد عن الهوى و عن الشح و ذلك من
وجوه:
الأول: أن مقصود كل من الدائن و المدين دراهم
بدراهم، و لذلك يقدّر أن المبلغ بالدراهم، و الكسب بالدراهم، قبل أن يعرفا السلعة
التي يكون التحليل بها، لأنهما يتفقان أولا على
دراهم: العشرة كذا و
كذا ثم يأتيان إلى صاحب الدكَّان فيشتري الدائن أي جنس وجده من المال، فربما يكون
عنده سكر أو خام أو أرز أو هيل أو غير ذلك، فيشتري الدائن ما وجد و يأخذه
المستدين، و بهذا علم أن القصد الدراهم بالدراهم، و أن السلعة غير مقصودة للطرفين.
و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم"إنما الأعمال بالنيات، و إنما لكل امرئ
ما نوى"سبق تخريجه(ص7).
- ويدّل على ذلك أنّ الدائن و المستدين كلاهما
لا يقلّبان السلعة و لا ينظران فيها نظر المشتري الرّاغب، و ربما كانت معينة أو
تالفاً، منها ما كان غائبا عن نظرهما مما يلي الأرض أو الجدار المركونة إليه و هما
لا يعلمان ذلك و لا يباليان به.
- إذن فالبيع صوريّ لا حقيقي، و الصور لا تغيِّر الحقائق
و لا ترفع بها الأحكام. و لقد حُدِّثت أنه إذا لم يكف المال الموجود عند صاحب
الدُّكان للدراهم التي يريدها المستدين. فإنّهم يعيدون هذا البيع الصُّوري على نفس
المال و في نفس الوقت، فإذا أخذه صاحب الدّكان من المستدين باعه مرّة أخرى على
الدائن، ثم باعه الدائن على المستدين بالربح الذي اتفقا عليه من قبل،ثم باعه المستدين
على صاحب الدكان فيرجع الدائن مرة أخرى فيشتريه من صاحب الدكان، ثم يبيعه على
المستدين بالربح الذي اتفقا عليه. و هكذا أبداً حتى تنتهي الدراهم، فربما يكون
المال الذي عند صاحب الدكان لا يساوي عُشر مبلغ الدراهم المطلوبة، و لكن بهذه الألعوبة
يبلغون مرادهم و الله المستعان.
الوجه الثاني: مما
يدل على تحريم هذه المداينة أنه إذا كان مقصود الدائن و المدين هي الدراهم، فإن
ذلك حيلة على الربا بطريقة لا يرتفع بها مقصود الرِّبا، و التحايل على محارم الله
تعالى جامع بين مفسدتين:
*مفسدة المحرم التي
لم ترتفع بتلك الحيلة
*ومفسدة الخداع و
المكر في أحكام و آيات الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين و ما تُخفي الصدور.
- ولقد أخبر الله عن المخادعين له بأنّهم
يخادعون الله و هو خادعهم، و ذلك بما زيّنه في قلوبهم من الاستمرار في خداعهم و
مكرهم فهم يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين.
- قال أيوب السختياني: يخادعون الله كما يخادعون
الصِّبيان، و لو أتوا بالأمر على وجهه لكان أهون.
- و قد حذّر النبي صلى الله عليه و سلم أمّته من
التحايل على محارم الله فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم
الله بأدنى الحيل"إرواء الغليل للألباني (5/1535). و قال صلى الله
عيه و سلم"لعن الله اليهود، حُرِّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا
أثمانها"رواه البخاري، كتاب البيوع(2236)و مسلم،كتاب
المسافاة (1581).
الوجه الثالث: أن
هذه المعاملات يربح فيها الدائن على المستدين قبل أن يشتري السلعة،بل يربح عليه في
سلعة لم يعرفا نوعها و جنسها فيربح في شيء لم يدخل في ضمانه.
- وقد نهى رسول الله عن ربح ما لم يضمن، و قال
:"الخراجُ بالضّمانٍ"رواه أبو داود،كتاب
البيوع(3510)،و الترمذي،كتاب البيوع(1285)و صحيحه، و النسائي، كتاب البيوع(4490)و
ابن ماجة،كتاب التجارات(2243)و احمد(6/49).
وقال:"لا تبعْ
ما ليس عندك"رواه أبو داود، كتاب البيوع(3503)،و الترمذي، كتاب
البيوع(1232)و النسائي، كتاب البيوع(4613)،و ابن ماجة،كتاب التجارات(2187)،و صححه
الألباني في الإرواء(5/1292).
وهذا كله بعد التسليم
بأن البيع الذي يحصل في المداينة بيع صحيح، فإن الحقيقة أنه ليس بيعا حقيقيا، و
إنما هو بيع صوري،بدليل أن المشتري لا يقبلّه و لا ينظر فيه و لا يماكس في القيمة،
بل لو بيع عليه بأكثر من قيمته لم يبال بذلك.
الوجه
الرابع: أنّ هذه المعاملة تتضمن بيع السلعة المشتراة قبل حيازتها إلى محلّ المشتري
و نقلها عن محل البائع.
- وقد نهى رسول الله عنهما قال عن بيع السلع حيث
تُشترى حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
فعن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال:"نهى
رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تُباعَ السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى
رحالهم".رواه أبو داود ، سنن أبي داود، كتاب البيوع(3499).
- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"كانوا
يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق فناهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يبيعوه
حتى ينقلوه" رواه الجماعة إلا الترمذي و ابن ماجة
رواه البخاري، كتاب
البيوع(2131)، و مسلم كتاب البيوع(1527)،و أبو داود كتاب البيوع(3498)، و النسائي
كتاب البيوع(4605-4608)،و ابن ماجة، كتاب التجارات.
القسم السابع:
من طريقة المداينة
أن يكون في ذمّة شخص لآخر دراهم مؤجلة،فيحل أجلها و ليس عنده ما يوفيه فيقول له
صاحب الدين:أدينُك فتوفيني فيدنُه فيوفيه، و هذا من الرابا هو مما قال الله فيه:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ
النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ﴾ سورة آل عمران، الآية (130-132)
-وهذا القسم من المداينة من أعمال الجاهلية حيث كان يقول
أحدهم للمدين إذا حلّ الدين: إما أن توفّي و إما أن تُربي، إلا أنهم في الجاهلية
يضيفون الرِّبا إلى الدين صراحة من غير عمل حيلة، و هؤلاء يضيفون الربّا إلى الدين
بالحيلة.و الواجب على صاحب الدّين إذا حل دينه إنظار المدين إذا كان معسرا، لقوله تعالى :﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ سورة البقرة، الآية(280)
أما إذا أبراه من الدّين فذلك خير و أفضل. أما إن كان المدين موسراً فإنّ للدائن
إجباره على الأداء لأنه يحرم على المدين حينئذ أن يماطل و يدافع صاحب الدّين لقول
النبي صلى الله عليه و سلم :"مطلُ الغني ظلم" رواه البخاري،كتاب
الحوالة(2287)،و مسلم كتاب المسافاة(1564)،و أبو داود،كتاب البيوع(3345)،و
الترمذي،كتاب البيوع(1308)،و النسائي كتاب البيوع(4688)و ابن ماجة كتاب
الصدقات(2404)و أحمد(2/71).
و من المعلوم أن الظلم حرام يجب منع فاعله و إلزامه بما
يُزيل الظلم.
القسم
الثامن:
من المداينة أن يكون لشخص على آخر دين،فإذا حلّ قال له،إما أن توفّي دينك
أو تذهب لفلان يدينك و توفِّيني، و يكون بين الدائن الأول و الثاني اتفاق مسبق في
أن كل واحد منهما يدين غريم صاحبه ليوفيه ثم يعيد الدّين عليه مرة أخرى ليوفّي
الدائن الجديد، أو يقول: اذهب إلى فلان لتستقرض منه و توفّيني، و يكون بين الدائن
الأول و المقرض اتفاق أو شبه اتفاق على أن يقرض المدين .فإذا أوفى الدائن الأول
قلب عليه الدين، ثم أوفى المقرض ما اقترض منه.
وهذه حيلة لقلب الدين بطرقة ثلاثية و هي حرام لما تقدم من تحريم الحيل و تحذير
النبي صلى الله عليه و سلم أمته من ذلك.
خلاصة
ما تقدم:
و
بعد، فهذه ثمانية أقسام من أقسام المداينة بعضها حلال جائز فيه الخير و البركة، و
بعضها حرام ممنوع ليس فيه إلا الشرّ و الخسارة و نزع البركة، و لو لم يكن فيه إلا
أنه يزّين لصاحبه سوء عمله، فيستمر فيه و لا يرى أنه على باطل، فيكون داخلا في قول
الله تعالى:
﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾سورة فاطر الآية(8)
و
قال تعالى:﴿قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ سورة الكهف الآيتين
(103-104) .
فالحلال من هذه الأقسام:
1- أن يحتاج الشخص إلى سلعة أو عقار فيشتر به بثمن مؤجل
لقضاء حاجته
2- أن يشتري السلعة أو العقار بثمن مؤجل للاتجار به
انتظار زيادة السعر.
3- أن يحتاج إلى دراهم فيأخذها من شخص بسلعة يكتبها الآخذ
في ذمته.
و هذه الأقسام الثلاثة جائزة
بالا ريب و سبق تفصيلها.
و
الحرام من الأقسام الأخرى:
1- أن
يحتاج إلى دراهم فلا يجد من يقرضه فيشتري سلعة من شخص بثمن مؤجّل زائد على قيمتها الحاضرة،ثم يبيعها
على غيره، و هذه هي المسألة التَّورُّق، في جوازها خلاف بين العلماء كما تقدم.
2- أن
يحتاج إلى دراهم و لا يجد من يقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها عليه بأقل مما اشتراها به، و هذه مسألة العينة.
3- أن
يتفق الدائن و المدين على أخذ الدراهم العشرة أحد عشر أو نحو ذلك، ثم يذهب إلى
ثالث فيشتري الدائن منه سلعة، هو في الحقيقة شراء صوري، ثم يبيعها على المدين ثم
يبيعها المدين بدوره على الذي أخذها الدائن منه.
و هذه
طرقة المداينة التي يستعملها الآن كثير من الناس، و هي حرام كما سبق عن شيخ
الإسلام ابن تيمية، و لم يذكر خلافا في تحريمها كما ذكر في مسألة التّورُّق.
4- أن
يكون لشخص على آخر دين مؤجّل فيحل أجله و ليس عنده ما يوفيه، فيقول صاحب الدين:
أدينك و توفيني، فيدينه فيوفيه. و هذه طريقة أهل الجاهلية التي تتضمن أكل الرّبا
أضعافا مضاعفة، إلا أنها صريحة في الجاهلية خديعة في هذا الزمان، ففيها مفسدتان.
5- أن
يكون لشخص على آخردين مؤجل فيحل أجله، و يكون لصاحب الدين صاحب يتفق معه على أن
يقرض المدين أو يدينه ليوفّي الدائن، ثم يقلب عليه الدين مرة أخرى. و هذه هي طريقة
الجاهلية مع إدخال الطرف الثالث المشارك في الإثم و العدوان و المكر و الخداع.
فهذه
الأقسام الخمسة محّرمة،و قد علمت ما في القسم الأول منها من الخلاف.
و اعلم
أن الدين في اصطلاح أهل الشرع اسم لما ثبت في الذمة سواء كان ثمن مبيع أو قرضاً أو
أجرة أو صداقا أو عوضا لخلع أو قيمة لمتلف أو غير ذلك.
و ليس
كما يضنه كثير من العوام من أن المداينة هي التي يستعملونها و يستدلون عليها بقوله
تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ سورة البقرة الآية(282) .فإن المراد به هو الدين الحلال، و هذا كثير في نصوص
الكتاب و السنة تأتي مطلقة أو عامة في بعض المواضع و لكن يجب أن تخصص أو تقيد بما
دل على التخصيص و التقيد.
***
خاتمة
ولنختم هذا البحث بما ورد في الكتاب و السنة من تحريم
الربا و التشديد فيه.
قال تعالى:﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾سورة البقرة
الآيتان(278،279).ففي هذه الآية تهديد شديد و وعيد أكيد لمن لم يترك
الربا، و ذلك بمحاربته لله و رسوله، فأي ذنب في المعاملة أعظم من ذنب يكون فيه
فاعله محاربا لله و لرسوله؟ و لذلك قال بعض السلف:"من كان مقيما على الربا لا
يتوب منه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتسبه، فإن نزع و إلا ضرب عُنُقه"
- وفي قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.إشارة إلى أن آكل الربا بأنه لو كان مؤمنا بالله و رسوله حقّ
الإيمان راجيا ثواب الله في الآخرة خائفا من عقابه لما استمرّ على أكل الربا و
العياذ بالله تعالى.
- وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا
ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن
رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ سورة البقرة الآية(275) .
ففي هذه الآية
وصف آكلي الربا بأنهم يقومون من قبورهم يوم القيامة أمام العالم كلهم كما يقوم
الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ يعني كالمصروعين الذين تصرعُهم الشياطين و تخنُقهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:"آكل الربا يُبعث يوم القيامة مجنونا
يُخنق". ثم بيّن الله ما وقع لهم من الشبهة التي أعمت أبصارهم عن التميز بين
الحق و الباطل، فقال تعالى:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾.و
هذا يحتمل أنهم قالوه لشبهة وقعت لهم و تأويل فاسد لجاوا إليه، كما يحتج أهل الحيل
على الربا،و يحتمل أنهم قالوا ذلك عنادا و جحودا، و على كلا الاحتمالين فإن هذا
يدل على أنهم مستمرون في باطلهم،منهمكون في أكل الربا و مجادلون بالباطل ليُدْحضوا
به الحق. نعوذ بالله من ذلك.
- وقال تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ
اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ*
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ سورة
آل عمران الآيات(130،132) . ففي هاتين الآيتين: نهى الله
عباده المؤمنين بوصفهم مؤمنين عن أكل الربا ثم حذرهم من نفسه في قوله: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾ ثم حذّرهم النار التي أعدّت للكافرين، و بين أن تقواه و طاعته سبب
للفلاح و الرحمة: ﴿فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ﴾ سورة النور الآية(63).
- وهذا كله دليل
على تعظيم شأن الربا و أنّه سبب لعذاب الله تعالى و دخول النار و العياذ بالله
تعالى من ذلك.
- وقال تعالى :﴿ وَمَا
آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ سورة
الروم الآية(39). و قال ﴿ يَمْحَقُ
اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ سورة البقرة الآية (276).
فالربا لا يربو
عند الله و لا يزداد صاحبه به قربة عند ربه، فإنه مال مكتسب بطريق حرام فلا خير
فيه و لا بركة، و لو أن صاحبه تصدّق به لم يقبل منه إلا إذا كان تائبا إلى الله
تعالى من ذلك الذنب الكبير فيتصدق به للخروج من تبعته عند عدم معرفته لأصحابه و
بذلك يكون بريئا منه. أمّا إن تصدقّ به لنفسه فإنه لا يقبل منه لأنه لا يربو عند
الله، بينما الصدقات المقبولة تربو عند الله، و إن أنفقه لم يبارك الله له فيه لان
الله يمحقه أو يسحق بركته فلا خير و لا بركة في الربا.
- وعن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: اجتنبوا السبع الموبقات- و
ذكر منها- الربا" متفق
عليه.رواه البخاري كتاب الوصايا(2762) و مسلم كتاب الإيمان(89)
- وعن سمرة بن
جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" رأيت الليلة رجلين أتياني
فأخرجاني إلى أرض مقدسة حتى أتينا على نهر من دم فيه رجلٌ قائم و على شط النهر رجل
بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أن يخرج رمى الرجل بحجر في فمه
فردّه حيث كان، فجعل كلما أراد أن يخرج رمى في فمه بحجر فيرجع كما كان. فقلت: ما
هذا الذي رأيتُه في النهر؟ قال: آكل الربا"رواه البخاري. صحيح البخاري كتاب الجنائز(1386).
- وعن جابر بن
عبد الله رضي الله عنهما قال:" لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم آكل الربا
و موكله و كاتبه و شاهده و قال: هم سواء" رواه مسلم و غيره. صحيح مسلم كتاب المسافاة(1598)،و البخاري بلفظ
آخر، كتاب اللباس(5962).
- وعن البراء بن
عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"الربّا اثنان و
سبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمّه". رواه الطبراني و له شواهد.رواه الطبراني في الاوسط(1/143/1) ،انظر:
سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني(1871).
- وقد وردت
أحاديث كثيرة في التحذير من الرّبا و بيان تحريمه، و أنّه من كبائر الذنوب و
عظائمها.
فليحذر المؤمن
الناصح لنفسه من هذا الأمر العظيم، وليتب إلى الله تعالى قبل فوات الأوان و
انتقاله عن المال و انتقال المال إلى غيره فيكون عليه إثمه و غرمه و لغيره كسبه و
غنمه.
- وليحذر من
التحيّل عليه بأنواع الحيل ، لأنه إذا تحيّل فإنما يتحيّل على من يعلم خائنة
الأعين و ما تخفي الصدور، و لن تفيده الحيل، لأن الصور لا تغير الحقائق. قال شيخ
الإسلام ابن تيمية في كتاب "إبطال التحليل" ص108:".....فيا سبحان
الله العظيم، أيعود الرّبا الذي قد عظّم الله شأنه في القرآن و أوجب محاربة
مستحيلة، و لعن أهل الكتاب بأخذه و لعن آكله و موكله و شاهده و كاتبه، و جاء فيه
من الوعيد ما لم يجئ في غيره إلى أن يستحلّ جمعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلا إلا
بصورة عقد هي عبث و لعب يضحك منها و يُستهزأ بها. أم يستحسن مؤمن أن ينسب نبيّا من
الأنبياء فضلا عن سيد المرسلين، بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرّم هذه المحارم
العظيمة ثم يُبيحها بنوع من العبث و الهزل الذي لم يقصد و لم يكن له حقيقة و ليس
فيه مقصود للمتعاقدين قط".
- وقال في
ص137:"... و كلما كان المرء أفقه في الدين و أبصر بمحاسنه كان فراره من الحيل
أشد،قال :و أضنّ كثيرا من الحيل إنّما استحلها من لم يفقه حكمة الشارع و لم يكن له
بُد من التزام ظاهر الحكم، فأقام رسم الدين دون حقيقة، و لو هُدي إلى رشده لسلَّم
لله و رسوله و أطاع الله ظاهراً و باطناً في كل أمره.
- أسأل الله تعالى
أن يوقظ بمنِّه و كرمه عباده المؤمنين من هذه الغفلة العظيمة، و أن يقيم شُحَّ
أنفسهم و يهديهم صراطه المستقيم إنه جواد كريم.
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه
أجمعين.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق