الاثنين، 31 أغسطس 2015

نعم الجوارح "لابن قدامة المقدسي"


الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول لله و على أله و صحبه و من ولاه، أما بعد
قال ابن قدامة رحمه الله معددا  نعم الله على الإنسان في جوارحه قائلا:

فأولها
 حاسة اللمس: و هو أول حس يخلق للحيوان،و أنقص درجات الحس أن يحس بما يلاصقه، فإن الإحساس بما يبعد منه أتم لا محاله، فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك .
فخلق لك الشم تدرك به الرائحة من بعد و لكن لا تدري من اي ناحية جاءت الرائحة ، فتحتاج أن تطوف كثيرا حتى تعثر على الذي شممت رائحته،وربما لم تعثر .

فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك، و تدرك جهته فتقصدها بعينها، إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصا،إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب ، فربما قصدك عدو بينك و بينه حجاب و قرب منك قبل أن يكشف الحجاب، فتعجز عن الهرب.

 فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الحجرات عند جريان الحركات، و لا يكفي ذلك،لو لم يكن لك حسن الذوق إذ به تعلم ما يوافقك وما يضرك بخلاف الشجرة ، فإنه يُسبُّ في أصلها كل مانع،و لا ذوق لها فتجذبه،و ربما يكون ذلك سبب حفافها،

ثم أكرمك الله تعالى بصفة أخرى، هي أشرف من الكل و هو :
العقل، فيه تدرك الأطعمة و منفعته، و ما يضر في المآل، و به تدرك طبخ الأطعمة و تأليفها و إعداد أسبابها، فننتفع به في الأكل الذي هو سبب صحتك، و هو أدنى فوائد العقل، و الحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى،و ما ذكرنا من الحواس الخمس الظاهرة فهي بعض الإدراكات و لا نظن أننا استوفينا شيئا من ذلك، فإن البصر واحد من الحواس، و العين آلة له، و قد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة بعضها رطوبات و بعضها أغشية مختلفة، لكل واحدة من الطبقات العشر صفة و صورة و شكل و هيئة و تدبير و تركيب، لو اختلفت طبقة واحدة منها أو صفة واحدة لاختل البصر. و عجز عنه الأطباء كلهم. فهذا في حس واحد، و قس حاسة السمع و سائر الحواس، و لا يمكن أن يستوفى ذلك في مجلدات،

فكيف ظنك بجميع البدن؟.
ثم أنظر بعد ذلك في خلق الإرادة و القدرة و آلات الحركة من أصناف النعم، و ذلك انه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الطعام و لم يخلق لك في الطبع شوق إليه و شهوة تستحثك على الحركة كان البصر معطلا. فكم من مريض يرى الطعام و هو أنفع الأشياء له و لا يقدر على تناوله لسقوط شهوته، فخلق لك الله شهوة الطعام و سلطها عليك، كالمتقاضي الذي يضطرك إلى تناول الغذاء.

ثم هذه الشهوة لو لم تسكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام، لأسرفت و أهلكت نفسك، فخلق لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها،وكذلك القول في شهوة الوقاع لحكمة بقاء النسل.

ثم خلق لك الأعضاء التي هي آلات الحركة في تناول الغذاء و غيره، منها اليدان، و هما مشتملتان على مفاصل كثيرة،لتتحرك في الجهات و تمتد وتنثني، و لا تكون كخشبة منصوبة.

ثم جعل رأس اليد عريضا، و هو الكف و قسمه خمسة أقسام ، و هي الأصابع و جعلها مختلفة في الطول و القصر، ووضعها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب,و يدور على الأصابع البواقي، ولو كانت مجتمعة متراكمة لم يحصل تمام الغرض.

ثم خلق لها أظفارًا وأسند إليها رؤوس الأصابع لتقوى بها ولتلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تحويها إلا الأصابع

ثم هب أنك أخذت الطعام باليد فلا يكفيك حتى يصل إلى باطنك فجعل لك الفم واللحيين خلقهما من عظمين وركب فيهما الأسنان وقسمها بحسب ما يحتاج إليه الطعام فبعضهما قواطع كالرباعيات وبعضها يصلح للكسر كأنياب وبعضها طواحن كالأضراس.

وجعل اللحي الأسفل متحركًا حركة دورية واللحي الأعلى ثابتًا لا يتحرك فانظر على عجيب صنع الله تعالى الذي أتقن كل شيء وأن كل رحى صنعها الخلق يثبت منها الحجر الأسفل ويدور الأعلى إلا هذه الرحى التي هي صنع الله سبحانه وتعالى فإنه يدور منها الأسفل على الأعلى إذ لو دار الأعلى خوطر بالأعضاء الشريفة التي يحتوي عليها.

ثم انظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان فإنه يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى هذا مع ما فيه من عجائب قوة النطق

ثم هب أنك قطعت الطعام وعجنته و هو يابس فما تقدر على الابتلاع إلا بأن يتزلق على الحلق بنوع رطوبة فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عينًا يفيض منها اللعاب وينصب بقدر الحاجة حتى ينعجن به الطعام.

ثم هذا الطعام المطحون المعجون من يوصله إلى المعدة وهو في الفم فإنه لا يمكن إيصاله باليد فهيأ الله تعالى لك المريء  والحنجرة وجعل رأسها طبقات ينفتح لأخذ الطعام ثم ينطبق وينضغط حتى يقلب الطعام فيهوي في دهليز المريء على المعدة فإذا ورد الطعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح أن يصير لحمًا وعظمًا ودمًا على هذه الهيئة حتى يطبخ طبخًا تمامًا فجعل الله المعدة على هيئة قدر يقع فيها الطعام فتحتوي عليه وتغلق عليه الأبواب وينضج بالحرارة التي تتعدى إليها من الأعضاء الأربعة.

وهي الكبد من جانبها الأيمن والطحال من جانبها الأيسر والثرب من أمامها ولحم الصلب من خلفها فينضح الطعام ويصير مائعًا متشبهًا يصلح للنفوذ في تجاويف العروق ثم ينصب الطعام من العروق إلى الكبد فيستقر فيها ريثما يصلح له نضج آخر ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه ثقل ثم يندفع و لو استوفينا الكلام في ذلك لطال.

و في الآدمي من العضلات والعروق ما لا يحصى، مختلف بلا صغر والكبر و الدقة و الغلظ و لا شيء منها إلا و فيه حكمة، و كل ذلك من الله سبحانه و لو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن، لهلكت يا مسكين.

فانظر إلى نعم الله عليك لتقوى على الشكر فإنك لا تعرف من نعمة الله تعالى إلا نعمة الأكل وهي أخسها ثم لا تعرفه منها إلا أنك تجوع فتأكل والبهيمة أيضًا تعرف أنها تجوع وتأكل وتتعب فتنام وتشتهي فتجامع وإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر الله تعالى؟و هذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر من نعم الله تعالى ،فقس على ذلك.
و جملة ما عرفنا و عرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه، أقل من قطرة في بحر قال الله تعالى:"وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا"[إبراهيم:34و النحل:18]

عجائب الأغذية و الأدوية:
واعلم أن الأطعمة كثيرة مختلفة ولله تعالى في خلقها عجائب لا تحصى وهي تنقسم إلى أغذية وأدوية وفواكه وغيرها
فنتكلم على بعض الأغذية فنقول: إذا كان عندك شيء من الحنطة فلو أكلتها لفنيت وبقيت جائعًا فما أحوجك إلى عمل ينمو به حب الحنطة ويتضاعف حتى يفيء بتمام حاجتك وهو زرعها وهو أن تجعل في أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طينًا.

ثم لا يكفي الماء والتراب إذ لو تركت في أرض ندية صلبة لم تنبت لفقد الهواء فيحتاج إلى تركها في أرض متخلخلة يتغلغل الهواء فيها، ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح يحرك الهواء ويصرفه بقهر على الأرض حتى ينفذ فيها ثم كل ذلك لا يغني فيحتاج على حرارة الربيع والصيف فإنه لو كان في البرد المفرط لم ينبت.

ثم انظر إلى الماء الذي تحتاج إليه هذه الزارعة كيف خلقه الله تعالى؟ فجر العيون وأجرى منها الأنهار ولما كان بعض الأرض مرتفعًا لا يناله الماء أرسل إليه الغيوم وسلط عليها الرياح لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم وهي سحب ثقال ثم يرسله على الأرض مدرارًا في وقت الحاجة.

وانظر كيف خلق الله الجبال حافظة للماء تتفجر منها العيون تدريجًا، فلو خرجت دفعة واحدة لغرقت البلاد وهلك الزرع وغيره، 

وانظر كيف سخر الشمس وخلقها مع بعدها عن الأرض مسخنة لها في وقت دون وقت ليحصل البرد عند الحاجة إليه والحر عند الحاجة إليه،

وخلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، كما جعل من خاصية الشمس التسخين فهو ينضج الفواكه بتقدير الحكيم الخبير، و كل كوكب خلق في السماء فهو مسخر لنوع فائدة كما سخرت الشمس والقمر و لا يخلو كل واحد منها عن حكم كثيرة لا نفي قوة البشر بإحصائها و كذلك الشمس و القمر، فيهما حكم أُخر غير ما ذكرنا لا تحصى.

ولما كانت كل الأطعمة لا توجد في كل مكان، سخر الله تعالى التجار وسلط عليهم الحرص على جمع المال مع أنه لا يغنيهم في غالب الأمر شيء بل يجمعون الأموال فإما أن تغرق بها السفن أو تنتهبها قطاع الطريق أو يموتون في بعض البلاد فتأخذها السلاطين وأحسن أحوالهم أن يأخذها ورثتهم وهم أشد أعدائهم لو عرفوا.

فانظر كيف سلط الله عليهم الأمل والغفلة حتى يقاسوا الشدائد في طلب الربح
 في ركوبالبحار وركوب الأخطار فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج
 من أقصى الشرق والغرب إليك


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق