سلسلة التعريف بشيخ الإسلام (1)
من هو شيخ الإسلام?
قال ابن عبدالهادي
:
هو الشيخ الإمام الرباني إمام الأئمة ،
ومفتي الأمة، وبحر العلوم ، سيد الحفاظ، شيخ الإسلام، قامع المبتدعين ، وآخر المجتهدين
تقي الدين:
اسمه:
أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العلامة
شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين
أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر
بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني.
نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها.
سبب تلقيبه (بتيمية):
قيل إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء فرأى
هناك طفلة فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتا فقال يا تيمية يا تيمية فلقب بذلك.
وقال ابن النجار: ذكر لنا أن جده محمدا كانت أمه
تسمى تيمية وكانت واعظة فنسب إليها وعرف بها.
مولده:
ولد شيخنا أبو العباس بحران يوم الإثنين
عاشر وقيل ثاني عشر [شهر] ربيع الأول سنة 661 هـ احدى وستين وستمائة.
وسافر والداه به وبإخوته إلى الشأم عند جور التتار ، فساروا بالليل ومعهم الكتب على
عجلة لعدم الدواب فكاد العدو يلحقهم ووقفت العجلة، فابتهلوا إلى الله واستغاثوا به
فنجوا وسلموا
.
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
(ص: 18)
سلسلة التعريف بشيخ الاسلام (2)
تميزت شخصيته رحمه الله بخصال كثير، وسيتم عرضها في النقاط التالية:
القوة الأولى: أنه نشأ في بيت علم.
أبوه الشهاب كان شيخ حرّان من بلاد الشام وخطيبها ومفتيها ، جده المجد وهو معروف ، الذي قال عنه أبو مالك النحوي: "ألين له الفقه كما ألين الحديد لداوود"
وله المؤلفات المسودة، وغيرها من الكتب المعروفة الآن ، أخواه شرف الدين عبدالله وزين الدين عبدالرحمن وهؤلاء أيضاً من العلماء الذين قد نعرج على شيء من مسيرة حياتهم -رحمهم الله- ، فقد نشأ ابن تيمية رحمه الله في هذا الجو العلمي المبارك، وهذا لا شك له أثره.
القوة الثانية: ما رزقه الله عز وجل من قوة البدن واعتداله، وقوة الأداء حتى في صوته!
فكان جهورياً في الصوت يؤثر في قلوب سامعيه ، حتى قال عنه سامعوه: أنهم كانوا يتعجبون من تأثير تكبيره في الصلاة وفي قراءته ، كان يؤم الناس في صلاة التراويح فيعْلوه من الخشوع والتأثير والمهابة ما يأخذ بألباب سامعيه.
القوة الثالثة: قوة الحفظ والذكاء وسرعة البديهة التي وهبها الله تعالى له.
قلّ ما حفظ شيئاً فنسيه ، كان يحفظ "المحلّى" لابن حزم!
وأول محفوظاته من الحديث بعد القرآن كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي ، كان يمر بالكتاب مطالعةً مرة فينتقش في ذهنه وينقله لمصنفاته بلفظه ومعناه.
بدأ التأليف مبكراً وعمره ١٧عاماً ، وأفتى في هذا السن ، وقعد للتدريس وعمره ٢١عاماً ، كان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر ، سأل رجل علاء الدين البسطامي كيف كانت صفته فقال: "هل رأيت قبة الصخرة؟ قال: نعم ، قال: كقبة الصخرة مُلئت كتباً ولها لسان ينطق".
سلسلة التعريف بشيخ الإسلام (3)
القوة الرابعة: قوته في البحث والقراءة والمطالعة.
وهذه التي أدت به إلى الرسوخ في البناء العلمي عنده رحمه الله ، يقول عنه الذهبي: "ما رأيته إلا ببطن كتاب"، يقول عنه الصفدي: "حكى لي من سمعه أنه يقول: أنني وقفت على١٢٠ تفسيراً استحضِر من الجميع الصحيح الذي فيها" هذا في التفسير فقط ، ويقول: "ربما طالعت للآية الواحدة نحو ١٠٠ تفسير ، أسأل الله الفهم وأقول يامعلم آدم وإبراهيم علمني" ، يقول: "كنت أذهب للمساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب ، وأسأل الله وأقول يا معلم إبراهيم علمني" ، يقول عنه ابن القيم: "كان يكثر من الدعاء في الحديث الصحيح: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السمٰوات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم)
يقول: كان شيخنا يُعنَى كثيراً بهذا الدعاء ، ويقول: (المعول في ذلك كله على حسن النية وخلوص القصد وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول معلم الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم).
هذه النقطة مهمة جداً في اللجوء إلى الله والتوجه إليه والانكسار ، وسؤال الله الفقه في الدين والعلم "وقل رب زدني علماً".
وأما قراءته رحمه الله يقول: (قد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما أوردوه من أحاديث ووقفت ماشاء الله لي من الكتب الصغار والكبار أكثر من١٠٠ تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه أحداً من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات.
وتنوعت المصادر الأولية عنده في التعليم في : التفسير، وعلوم القرآن، والسنة، والفقه وأصوله، وأصول الدين، والفرق والأديان، واللغة والحساب، والفلك، والتاريخ، إلى غير ذلك من الفنون.
أخذ عن أكثر من ( ٢٠٠) شخص كلهم دماشقة، وجلّهم من الحنابلة .
ومن سعة اطلاعه وقراءته وشغفه بالعلم بلغ به الحال أنه لا يجد الراحة إلا فيها ، بل كان استشفاؤه عند مرضه بها ، وفي هذا يقول ابن القيم عن شيخه –وهي طرفة- ابتدأني مرض ، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض ، قال فقلت: لا أصبر على ذلك ، وأنا أحاكمك إلى علمك أليست النفس إذا فرحَتْ وسرت قويت الطبيعة (المناعة) فدفعت المرض ، فقال: بلى ، فقلت له: إن نفسي تُسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد الراحة ، فقال له الطبيب: هذا خارج عن علاجنا!
سلسلة التعريف بشيخ الإسلام (4)
القوة الخامسة: قوته في ضبط النفس والسيطرة عليها، وحملها على الجدّ، وحمايتها من الالتفات لملذات الدنيا.
فلا لذة عنده أكبر من نشر العلم وتدوينه والعلم به والدعوة إليه ، وإقامة دين الله والوقوف أمام المفسدين في الأرض على اختلاف انحرافهم وفسقهم وفجورهم ، وتظهر هذه القوة عنده يقول رحمه الله: "الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة".
من أبرز مظاهر هذه القوة:
١- رفضه المناصب والولايات ، عُرضت عليه رئاسة القضاء والمشيخة ، فقال: "يقوم بها غيري أما نشر العلم وتصحيح الاعتقاد و رد الناس إلى الله ورسوله فالناس أحوج ما يكونون إليه".
٢- رفضه للأعطيات ؛ لأنه يعلم رحمه الله أنه إذا أخذت اليد ضعفت مقاومة الباطل ، واهتز موقف الناصح.
رفض حتى اليسيرة فإنه لما سافر مع البريد للقاهرة وحضّ على الجهاد رُتّب له مرتب فرفض ، وأخيراً أهدي إليه بقشة من قماش –يعني صرة من قماش فيها ملابس- فردها.
٣- قناعته بالقليل الذي يسد حاجته ، وكان أخوه شرف الدين هو القائم على شؤونه.
ولعلمه أن حبّ العلم وانشغال القلب بالبدن والمال وجمعه والمكاثرة فيه لا يجتمعان ؛ فكل ما منحت هذا من جهدك ووقتك ضاع منه ما يقابله من ذلك، وهذا مجرب ومعروف.
تميزت شخصيته رحمه الله بخصال كثير، وسيتم عرضها في النقاط التالية:
أبوه الشهاب كان شيخ حرّان من بلاد الشام وخطيبها ومفتيها ، جده المجد وهو معروف ، الذي قال عنه أبو مالك النحوي: "ألين له الفقه كما ألين الحديد لداوود"
وله المؤلفات المسودة، وغيرها من الكتب المعروفة الآن ، أخواه شرف الدين عبدالله وزين الدين عبدالرحمن وهؤلاء أيضاً من العلماء الذين قد نعرج على شيء من مسيرة حياتهم -رحمهم الله- ، فقد نشأ ابن تيمية رحمه الله في هذا الجو العلمي المبارك، وهذا لا شك له أثره.
القوة الثانية: ما رزقه الله عز وجل من قوة البدن واعتداله، وقوة الأداء حتى في صوته!
فكان جهورياً في الصوت يؤثر في قلوب سامعيه ، حتى قال عنه سامعوه: أنهم كانوا يتعجبون من تأثير تكبيره في الصلاة وفي قراءته ، كان يؤم الناس في صلاة التراويح فيعْلوه من الخشوع والتأثير والمهابة ما يأخذ بألباب سامعيه.
القوة الثالثة: قوة الحفظ والذكاء وسرعة البديهة التي وهبها الله تعالى له.
قلّ ما حفظ شيئاً فنسيه ، كان يحفظ "المحلّى" لابن حزم!
وأول محفوظاته من الحديث بعد القرآن كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي ، كان يمر بالكتاب مطالعةً مرة فينتقش في ذهنه وينقله لمصنفاته بلفظه ومعناه.
بدأ التأليف مبكراً وعمره ١٧عاماً ، وأفتى في هذا السن ، وقعد للتدريس وعمره ٢١عاماً ، كان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر ، سأل رجل علاء الدين البسطامي كيف كانت صفته فقال: "هل رأيت قبة الصخرة؟ قال: نعم ، قال: كقبة الصخرة مُلئت كتباً ولها لسان ينطق".
سلسلة التعريف بشيخ الإسلام (3)
القوة الرابعة: قوته في البحث والقراءة والمطالعة.
وهذه التي أدت به إلى الرسوخ في البناء العلمي عنده رحمه الله ، يقول عنه الذهبي: "ما رأيته إلا ببطن كتاب"، يقول عنه الصفدي: "حكى لي من سمعه أنه يقول: أنني وقفت على١٢٠ تفسيراً استحضِر من الجميع الصحيح الذي فيها" هذا في التفسير فقط ، ويقول: "ربما طالعت للآية الواحدة نحو ١٠٠ تفسير ، أسأل الله الفهم وأقول يامعلم آدم وإبراهيم علمني" ، يقول: "كنت أذهب للمساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب ، وأسأل الله وأقول يا معلم إبراهيم علمني" ، يقول عنه ابن القيم: "كان يكثر من الدعاء في الحديث الصحيح: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السمٰوات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم)
يقول: كان شيخنا يُعنَى كثيراً بهذا الدعاء ، ويقول: (المعول في ذلك كله على حسن النية وخلوص القصد وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول معلم الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم).
هذه النقطة مهمة جداً في اللجوء إلى الله والتوجه إليه والانكسار ، وسؤال الله الفقه في الدين والعلم "وقل رب زدني علماً".
وأما قراءته رحمه الله يقول: (قد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما أوردوه من أحاديث ووقفت ماشاء الله لي من الكتب الصغار والكبار أكثر من١٠٠ تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه أحداً من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات.
وتنوعت المصادر الأولية عنده في التعليم في : التفسير، وعلوم القرآن، والسنة، والفقه وأصوله، وأصول الدين، والفرق والأديان، واللغة والحساب، والفلك، والتاريخ، إلى غير ذلك من الفنون.
أخذ عن أكثر من ( ٢٠٠) شخص كلهم دماشقة، وجلّهم من الحنابلة .
ومن سعة اطلاعه وقراءته وشغفه بالعلم بلغ به الحال أنه لا يجد الراحة إلا فيها ، بل كان استشفاؤه عند مرضه بها ، وفي هذا يقول ابن القيم عن شيخه –وهي طرفة- ابتدأني مرض ، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض ، قال فقلت: لا أصبر على ذلك ، وأنا أحاكمك إلى علمك أليست النفس إذا فرحَتْ وسرت قويت الطبيعة (المناعة) فدفعت المرض ، فقال: بلى ، فقلت له: إن نفسي تُسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد الراحة ، فقال له الطبيب: هذا خارج عن علاجنا!
سلسلة التعريف بشيخ الإسلام (4)
القوة الخامسة: قوته في ضبط النفس والسيطرة عليها، وحملها على الجدّ، وحمايتها من الالتفات لملذات الدنيا.
فلا لذة عنده أكبر من نشر العلم وتدوينه والعلم به والدعوة إليه ، وإقامة دين الله والوقوف أمام المفسدين في الأرض على اختلاف انحرافهم وفسقهم وفجورهم ، وتظهر هذه القوة عنده يقول رحمه الله: "الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة".
من أبرز مظاهر هذه القوة:
١- رفضه المناصب والولايات ، عُرضت عليه رئاسة القضاء والمشيخة ، فقال: "يقوم بها غيري أما نشر العلم وتصحيح الاعتقاد و رد الناس إلى الله ورسوله فالناس أحوج ما يكونون إليه".
٢- رفضه للأعطيات ؛ لأنه يعلم رحمه الله أنه إذا أخذت اليد ضعفت مقاومة الباطل ، واهتز موقف الناصح.
رفض حتى اليسيرة فإنه لما سافر مع البريد للقاهرة وحضّ على الجهاد رُتّب له مرتب فرفض ، وأخيراً أهدي إليه بقشة من قماش –يعني صرة من قماش فيها ملابس- فردها.
٣- قناعته بالقليل الذي يسد حاجته ، وكان أخوه شرف الدين هو القائم على شؤونه.
ولعلمه أن حبّ العلم وانشغال القلب بالبدن والمال وجمعه والمكاثرة فيه لا يجتمعان ؛ فكل ما منحت هذا من جهدك ووقتك ضاع منه ما يقابله من ذلك، وهذا مجرب ومعروف.
سلسلة التعريف بشيخ الإسلام (5)
القوة السادسة: التواضع ولين العريكة وحسن الخلق.
فقد كان آية في التواضع ولين الجانب، نترك تلميذه البار البزّار يعطينا شيئاً مما رآه وشاهده في تعامله من سيرته ، قال البزّار: "أما تواضعه فما رأيت وما سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك ، كان يتواضع للصغير والكبير والجليل والحقير والغني والصالح والفقير، وكان يُدني الفقير الصالح ويؤنسه ويجالسه ويلاطفه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء حتى إنه ربما خدمه بنفسه فأعانه بحمل حاجته ؛ جبراً لقلبه وتقرباً بذلك إلى ربه. كان لا يسأم ممن يستفتيه أو يسأله بل يُقبل عليه ببشاشة وجه ولين عريكة ، يقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه كبيراً كان أو صغيراً رجلاً أو امرأة حراً أو عبداً عالماً أو عامّياً حاضراً أو بادياً ، ولا يجفهه ولا يحرجه ولا ينفره بكلام يوحشه بل يجيبه ويعرّفه ويُفهمه الخطأ من الصواب ويتلطف إليه بلطف وانبساط".
والكلام في هذا يطول ، ومعروف عنه -رحمه الله تعالى- قيامه على حاجة الناس في كل ما يحتاجون إليه.
القوة السابعة: إيثاره المصالح العليا مصالح الدين مصالح الأمة العظام على مصالحه الشخصية.
يقول في رسالته الرقيقة لأمه ، يقول في ثناياها وهو يخاطب أمه: "ولا يظن ظانّ أنّا نؤثر على قربكم شيئاً من أمور الدنيا ، بل ولا نؤثر من أمور الدنيا ما يكون قربكم أرجح منه ولكن ثمّ أمور كبار نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها، والشاهد يرى مالا يرى الغائب".
يقول عنه الذهبي: "يكون له محبون من الأمراء والصلحاء والجند والتجار والكبراء وسائر العامة تحبه ، لماذا؟! قال: لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه فأحبه الناس" .
يقول رحمه الله: "من علامات توفيق الله للعبد أن يجعله الله ملجأً للناس يحتاجون إليه ، يُفرج هماً وينفس كرباً ويقضي ديناً ويعين ملهوفاً وينصر مظلوماً وينصح حائراً وينقذ متعثراً ويهدي عاصياً"
إلى آخر ما ذكر من الكلام ، فإذا أكرم الله العبد واختاره جعله سبباً لنفع العباد وإعانتهم ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، فطوبى لمن جعل الله الخير على يديه" ، ومثل هذا لا يمكن أن يخزيه الله أبداً فمن أحسن إلى عباد الله، كان الله بكل خير له أسرع.
سلسلة التعريف بشيخ الإسلام (6)
القوة الثامنة: قوته في حياته الجادة التي لاتعرف الهزل فضلاً عن سائر الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم.
كانت مجالسه عامرة بالخير لا يجرؤ المغتابون على غشيانها ، وفي هذا يقول الأحنف ابن قيس: "جنبوا مجالسنا الطعام إني أكره الرجل يكون وصّافاً لفرجه وبطنه".
كان رحمه الله محافظاً على وقته منذ صغره ، كانت حياته مليئة بالعمل إما بالجهاد أو التدريس أو التأليف أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو المناظرة والرد على المخالفين أو غير ذلك من الأمور.
سأله تلميذه ابن القيم عن بعض المباح في أمر مباح فقال: هذا يتنافى مع الهمم العالية. ولذلك قيل: "هَمّك على قدر ما أهمك ، خواطرك من جنس همك".
يقول أحمد ابن عبدالهادي رحمه الله لما دخل الحبس (يعني ابن تيمية رحمه الله) وجد المحابيس يلتهون بأنواع من اللعب –يلتهون عما هم فيه- كالشطرنج والنرد ونحو ذلك مع تضييع الصلوات.
قال: فأنكر عليهم أشد الإنكار وأمرهم بالصلاة والتوجه لله بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء ، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه ورغبهم في أعمال الخير وحضّهم على ذلك ، حتى صار الحبس بما فيه من الاشتغال بالعلم والدين أفضل من كثير من الزوايا والربط والخوانق والمدارس ، وصار خلق من المحابيس إذا أُطلقوا يختارون الإقامة عنده ولا يخرجون من السجن ، وكثر المترددون إليه حتى كاد السجن يمتلئ بهم، فعاد السجن والحبس مدرسة لتعليم المسلمين من السجنة وغيرهم.
القوة التاسعة: قوته في مواقفه الجهادية ومغازيه وكسر شوكة الملاحدة والباطنية.
لما وقعت موقعة شقحب سنة٧٠٢هـ التي هُزم فيها التتار ، كان له دور عظيم فيها ، لما رأى رحمه الله من المسلمين شيء من التردد والشبهة؛ لأن التتار بعد أن خالطوا المسلمين أظهر بعضهم الإسلام ، فشكّوا في قتالهم لِما يُظهرون من الإسلام ، فقام شيخ الإسلام وبيّن حقيقة ما هم عليه ، ومشرعية قتالهم ثم قال: "إذا رأيتموني في ذلك الجانب وعلى رأسي المصحف فاقتلوني" يعني ليس مجرد الإدعاء كافٍ ، فلما قال ذلك تشجّع الناس لقتالهم وزالت الشبهة وقويت قلوبهم. كان إماماً في الجهاد ومثالاً في الشجاعة وقوة القلب وصدق اليقين بوعد الله عز وجل في وقت ذهبت فيه قلوب الرجال.
جاهد النصارى في يوم فتح عكّة مع المسلمين وعمره أنذاك ٣٠عاماً ، أما الرافضة فكانوا يتحصنون في جبال الجرد وكسروانيين، فذهب إليهم ابن تيمية سنة٧٠٤ ومعه جماعة ، فاستتابوا خلقاً منهم ونصحوا وبينوا ودعوهم وألزموهم بشرائع الإسلام ورجع خلق كثير منهم إلى الحق.
وفي سنة٧٠٥ خرج إليهم ومعه طائفة من الجيش ونائب السلطان ، وقاتلوا من امتنع من الدخول في شرائع الإسلام والرضوخ لها . وله مواقف كثيرة يطول الكلام فيها لكن هذه نماذج.
سلسلة التعريف بشيخ الإسلام (7)
القوة العاشرة: قوته في الصبر والتحمل.
نيل من عرضه رحمه الله ، اُتهم بالبدعة والتجسيم، وبغض الصحابة ، وموالاة النصارى والخروج على السلطان ، وهذه التهم ليست من أفراد الناس وآحادهم وعامتهم ، بل من علماء وقضاة وكبار ومشائخ ؛ وترتب على ذلك دخوله السجن سبع مرات من أجل مواقفه ، أربع بمصر (القاهرة والاسكندرية)، وثلاث بدمشق.
ومات مسجوناً بالقلعة بدمشق رحمه الله.
بدأت هذه المحن بعد أن بلغ ٣٢ من عمره .
الأولى كانت بدمشق وكانت نتيجة وشاية من وشاة بعض الفقهاء والعلماء في ذلك الوقت والقضاة ، لكن كان بعيداً كل البعد عن التطلّع للدنيا رحمه الله وكان السلاطين يخافون من منافسته لهم عليها ، ولذلك يحسن أن نشير إلى أن بعض حسّاده وشى به إلى السلطان الناصر الأول وقال: إنه يطلب المُلك، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إنه يذكر بن تومرت في المغرب العربي ، فاستدعاه السلطان وأحضره بين يديه وقال له جملة من كلامه ، قال السلطان: "إنني أُخبرت أنك أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك"، فلم يكترث بل قال بنفس مطمئنة وبصوت سمعه كثير ممن حضر: "أنا أفعل ذلك ! والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فلسين"، فتبسم السلطان وقال: "والله إنك لصادق وإن الذي وشى بك لكاذب".
أول سجن له بدمشق بسبب واقعة عسّاف النصراني ، هذا عساف من أهل الذمة سب النبي صلى الله عليه وسلم وشهد عليه جماعة ، فلما بلغ الخبر ابن تيمية اجتمع هو والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث بدمشق آنذاك ، فدخلا على نائب السلطان ، فاستدعى السلطان النصراني ومجيره (أي كفيله الذي كان يجيره) فعلم الناس بالحادثة وهاجوا وضربوا هذا الذمي النصراني ، فهرب فلحق به أحد إخوته فقتله في الطريق ، فغضب الوالي على الشيخين ابن تيمية والفارقي وقال: "أنتم الذين هيجتم الناس" وأمر بالتحفظ عليهما (يعني نوع من الإقامة الجبرية والسجن) ففي هذه الأثناء ألّف ابن تيمية رحمه الله كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم". لاحظوا الحادثة التي بنى عليها وألف بسببها "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" وهنا ألف الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذه السجنة الأولى.
أما السجنة الثانية فكانت في القاهرة لمدة عام وستة أشهر ، وسجن معه أخواه الشرف عبدالله والزين عبدالرحمن ؛ بسبب مسألة العرش والكلام والنزول.
والسجن الثالث كان في مصر أيضاً في الاسكندرية ؛ بسبب استعداء السلطة ؛ لمنعه الاستغاثة والتوسل بالمخلوقين وكلامه في ابن عربي ، ورُتّب له مجلس واختلف المجلس بين مدِين ومُبرئ ، فخيّره الوالي بين العودة لدمشق أو البقاء في الاسكندرية بشروط معينة أو الحبس ، وبعد مدة اختار الحبس ، ثم أصر عليه تلامذته بالموافقة على العودة لدمشق ؛ فألف في هذه الحادثة كتاب "الرد على البكري في الاستغاثة بالمخلوقين" ؛ لأن نازلة السجن كانت حول هذا الموضوع.
سجنه في المرة الرابعة كان بمصر ؛ وذلك لأنه لما وافق تلامذته وخرج لدمشق ، لم يُرضِ ذلك الحلولية المقربين للوالي فاستدعاهم أثناء الطريق مرة أخرى بعد أن أُطلق من السجن وسُجن في هذه المرة سنة٧٠٨هـ ، وفي هذا الموقف أراد بعض الناس أن يهون عليه سجنه والأثر النفسي عليه فقال: (يا سيدي هذا مقام الصبر )، فقال له: (بل هذا مقام الحمد والشكر والله إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قُسّم على أهل الشام ومصر لفَضُل عنهم لأنه إيذاء في سبيل الله) –الله أكبر- ، فالعذاب ينقلب لذة ويستعذبه الإنسان ويتلذذ به المؤمن ؛ إذا كان لله وفي الله عز وجل.
السجن الخامس كان بمصر أيضاً بوشاية من العلماء الحلولية أيضاً وميل الولاة لكلامهم والتخطيط لاغتياله ولكن في هذه الأثناء تولى مباشرة الملك الناصر قلاوون عام ٧٠٩هـ ، فأخرج الشيخ من السجن وأفرج عنه واستدعاه للقاهرة لأنه كان في الاسكندرية وقتل الوالي الذي سجن ابن تيمية شرّ قتله ومات الواشي في زاويته التي كان فيها ، فأراد الناصر قلاوون أن ينتقم من القضاة والفقهاء الذين حكموا على ابن تيمية وآذوه ، وأراد أن يكون ظلمهم لابن تيمية تُكأة من أجل أن ينتقم لنفسه ، لماذا!
لأنهم هم الذين أيدوا ذلك الوالي الذي انقلب عليه ، فأراد أن يجعل ابن تيمية ذريعة لتحقيق الانتقام لنفسه ، لكن ابن تيمية رحمه الله عرف مراد هذا السلطان فلما استفتاه في الانتقام من هؤلاء القضاة والعلماء الذين ظلموه وتسببوا في سجنه ، فَهِم الشيخ مقصوده فشرع في مدحهم والثناء عليهم وقال: "لو ماتوا لم تجد مثلهم أما أنا فهم في حلٍ من جهتي" وقطع عليه الطريق وفي هذه الفترة ألف كتاب "منهاج السنة" وكتاب "الاستقامة" وكتاب "تلبيس الجهمية" وكتاب "الفتاوى المصرية".
أما السجن السادس فكان في دمشق سنة٧٢٠هـ ؛ بسبب مسألة الحلف بالطلاق. وانتهت مجموعة كبيرة من الكتب والمؤلفات والردود الحافلة ، منها الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق.
سلسلة التعريف بشيخ الإسلام (8)
القوة الحادية عشرة: قوته في العفو عمن ظلمه عند المقدرة.
وتقدم أنه لما كان في سجن الاسكندرية مظلوماً كان معه أخواه شرف الدين وزين الدين فقام أخوه يدعو يبتهل لله تعالى على من كان السبب في سجنهم ، فمنعه ابن تيمية وقال له: بل قل اللهم هب لهم نوراً يهتدون به للحق ، لا تدع عليهم ، إنما ادع الله لهم أن يهبهم نوراً يهتدون به للحق ؛ فهم يظنون أنهم على حق وأمروا بسجنك لأنك خالفتهم في معتقدهم وأرائهم فادع الله لهم .
هذه المعاني والقوة الحقيقية التي تتلاشى العزائم وتقف مثل هذا الموقف في مثل هذا الحال.
يقول عنه الشيخ القاضي بن مخلوف المالكي: (ما رأينا أتقى من ابن تيمية ؛ لم نبقِ ممكنا في السعي فيه ولما قدر علينا عفا عنّا )
وكان يقول: (أنا أحللت كل من آذاني ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه)
يقول ابن تيمية عن ابن مخلوف: "لو عمل مهما عمل والله لا أقدرعلى خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه قط ولا حول ولاقوة الا بالله ، هي نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور ؛ فإني أعلم أن الشيطان ينزع بين المؤمنين ولن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين" ا.ه.
القوة الثانية عشرة: قوته في عبادته والذكر والتوكل على الله.
وهذه المواقف لا تأتي من فراغ ، لا يمكن أن يملك الإنسان هذه القوة والعزيمة إلابقوة الصلة بالله عز وجل والزاد بينه وبين الله والعلاقة والحبل المتين بينه وبين الله عز وجل.
كان في أشد حالات الإيذاء والمضايقة تجده في أشد حالات التوكل والثقة بالله ، لما جاء خبر نفيه للاسكندرية "، قيل له: هم عاملون على قتلك أو نفيك ، فقال لهم كلمته المشهورة: (أنا إن قُتلت كانت لي شهادة وان نفوني كانت لي هجرة ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كانت لي معبداً وخلوة).
ولذلك استثمر سجنه في التعليم والتأليف يعني لم يُضع شيئاً من وقته البتة رحمه الله إما في الجهاد أو الدعوة أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو غير ذلك كما مر معنا. يقول رحمه الله: لا يقف خاطري عند مسألة تشكل عليّ إلا واستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح صدري وينحل إشكال ما أشكل عليّ ، وأكون في ذلك في السوق أو المسجد أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر أو الاستغفار إلى أن أنال مطلوبي.
يقول عنه ابن القيم: (علم الله ما رأيت أحداً أطيب منه عيشاً قط مع ماكان عليه من ضيق العيش ، وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها ومهما كان فيه من الحبس والتهديد والارهاق ، هو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأسرهم نفساً ، تلوح نظرة النعيم على وجهه وكان إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه ، فما هي إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة).
ويقول ابن القيم عنه: (الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء).
يقول ابن القيم: (حضرت ابن تيمية مرةً ، صلى الفجر ثم ذكر الله إلى قريب انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغدى الغداء سقطت قوتي) .
يتبع بإذن الله..
القوة السادسة: التواضع ولين العريكة وحسن الخلق.
فقد كان آية في التواضع ولين الجانب، نترك تلميذه البار البزّار يعطينا شيئاً مما رآه وشاهده في تعامله من سيرته ، قال البزّار: "أما تواضعه فما رأيت وما سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك ، كان يتواضع للصغير والكبير والجليل والحقير والغني والصالح والفقير، وكان يُدني الفقير الصالح ويؤنسه ويجالسه ويلاطفه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء حتى إنه ربما خدمه بنفسه فأعانه بحمل حاجته ؛ جبراً لقلبه وتقرباً بذلك إلى ربه. كان لا يسأم ممن يستفتيه أو يسأله بل يُقبل عليه ببشاشة وجه ولين عريكة ، يقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه كبيراً كان أو صغيراً رجلاً أو امرأة حراً أو عبداً عالماً أو عامّياً حاضراً أو بادياً ، ولا يجفهه ولا يحرجه ولا ينفره بكلام يوحشه بل يجيبه ويعرّفه ويُفهمه الخطأ من الصواب ويتلطف إليه بلطف وانبساط".
والكلام في هذا يطول ، ومعروف عنه -رحمه الله تعالى- قيامه على حاجة الناس في كل ما يحتاجون إليه.
القوة السابعة: إيثاره المصالح العليا مصالح الدين مصالح الأمة العظام على مصالحه الشخصية.
يقول في رسالته الرقيقة لأمه ، يقول في ثناياها وهو يخاطب أمه: "ولا يظن ظانّ أنّا نؤثر على قربكم شيئاً من أمور الدنيا ، بل ولا نؤثر من أمور الدنيا ما يكون قربكم أرجح منه ولكن ثمّ أمور كبار نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها، والشاهد يرى مالا يرى الغائب".
يقول عنه الذهبي: "يكون له محبون من الأمراء والصلحاء والجند والتجار والكبراء وسائر العامة تحبه ، لماذا؟! قال: لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه فأحبه الناس" .
يقول رحمه الله: "من علامات توفيق الله للعبد أن يجعله الله ملجأً للناس يحتاجون إليه ، يُفرج هماً وينفس كرباً ويقضي ديناً ويعين ملهوفاً وينصر مظلوماً وينصح حائراً وينقذ متعثراً ويهدي عاصياً"
إلى آخر ما ذكر من الكلام ، فإذا أكرم الله العبد واختاره جعله سبباً لنفع العباد وإعانتهم ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، فطوبى لمن جعل الله الخير على يديه" ، ومثل هذا لا يمكن أن يخزيه الله أبداً فمن أحسن إلى عباد الله، كان الله بكل خير له أسرع.
القوة الثامنة: قوته في حياته الجادة التي لاتعرف الهزل فضلاً عن سائر الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم.
كانت مجالسه عامرة بالخير لا يجرؤ المغتابون على غشيانها ، وفي هذا يقول الأحنف ابن قيس: "جنبوا مجالسنا الطعام إني أكره الرجل يكون وصّافاً لفرجه وبطنه".
كان رحمه الله محافظاً على وقته منذ صغره ، كانت حياته مليئة بالعمل إما بالجهاد أو التدريس أو التأليف أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو المناظرة والرد على المخالفين أو غير ذلك من الأمور.
سأله تلميذه ابن القيم عن بعض المباح في أمر مباح فقال: هذا يتنافى مع الهمم العالية. ولذلك قيل: "هَمّك على قدر ما أهمك ، خواطرك من جنس همك".
يقول أحمد ابن عبدالهادي رحمه الله لما دخل الحبس (يعني ابن تيمية رحمه الله) وجد المحابيس يلتهون بأنواع من اللعب –يلتهون عما هم فيه- كالشطرنج والنرد ونحو ذلك مع تضييع الصلوات.
قال: فأنكر عليهم أشد الإنكار وأمرهم بالصلاة والتوجه لله بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء ، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه ورغبهم في أعمال الخير وحضّهم على ذلك ، حتى صار الحبس بما فيه من الاشتغال بالعلم والدين أفضل من كثير من الزوايا والربط والخوانق والمدارس ، وصار خلق من المحابيس إذا أُطلقوا يختارون الإقامة عنده ولا يخرجون من السجن ، وكثر المترددون إليه حتى كاد السجن يمتلئ بهم، فعاد السجن والحبس مدرسة لتعليم المسلمين من السجنة وغيرهم.
القوة التاسعة: قوته في مواقفه الجهادية ومغازيه وكسر شوكة الملاحدة والباطنية.
لما وقعت موقعة شقحب سنة٧٠٢هـ التي هُزم فيها التتار ، كان له دور عظيم فيها ، لما رأى رحمه الله من المسلمين شيء من التردد والشبهة؛ لأن التتار بعد أن خالطوا المسلمين أظهر بعضهم الإسلام ، فشكّوا في قتالهم لِما يُظهرون من الإسلام ، فقام شيخ الإسلام وبيّن حقيقة ما هم عليه ، ومشرعية قتالهم ثم قال: "إذا رأيتموني في ذلك الجانب وعلى رأسي المصحف فاقتلوني" يعني ليس مجرد الإدعاء كافٍ ، فلما قال ذلك تشجّع الناس لقتالهم وزالت الشبهة وقويت قلوبهم. كان إماماً في الجهاد ومثالاً في الشجاعة وقوة القلب وصدق اليقين بوعد الله عز وجل في وقت ذهبت فيه قلوب الرجال.
جاهد النصارى في يوم فتح عكّة مع المسلمين وعمره أنذاك ٣٠عاماً ، أما الرافضة فكانوا يتحصنون في جبال الجرد وكسروانيين، فذهب إليهم ابن تيمية سنة٧٠٤ ومعه جماعة ، فاستتابوا خلقاً منهم ونصحوا وبينوا ودعوهم وألزموهم بشرائع الإسلام ورجع خلق كثير منهم إلى الحق.
وفي سنة٧٠٥ خرج إليهم ومعه طائفة من الجيش ونائب السلطان ، وقاتلوا من امتنع من الدخول في شرائع الإسلام والرضوخ لها . وله مواقف كثيرة يطول الكلام فيها لكن هذه نماذج.
القوة العاشرة: قوته في الصبر والتحمل.
نيل من عرضه رحمه الله ، اُتهم بالبدعة والتجسيم، وبغض الصحابة ، وموالاة النصارى والخروج على السلطان ، وهذه التهم ليست من أفراد الناس وآحادهم وعامتهم ، بل من علماء وقضاة وكبار ومشائخ ؛ وترتب على ذلك دخوله السجن سبع مرات من أجل مواقفه ، أربع بمصر (القاهرة والاسكندرية)، وثلاث بدمشق.
ومات مسجوناً بالقلعة بدمشق رحمه الله.
بدأت هذه المحن بعد أن بلغ ٣٢ من عمره .
الأولى كانت بدمشق وكانت نتيجة وشاية من وشاة بعض الفقهاء والعلماء في ذلك الوقت والقضاة ، لكن كان بعيداً كل البعد عن التطلّع للدنيا رحمه الله وكان السلاطين يخافون من منافسته لهم عليها ، ولذلك يحسن أن نشير إلى أن بعض حسّاده وشى به إلى السلطان الناصر الأول وقال: إنه يطلب المُلك، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إنه يذكر بن تومرت في المغرب العربي ، فاستدعاه السلطان وأحضره بين يديه وقال له جملة من كلامه ، قال السلطان: "إنني أُخبرت أنك أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك"، فلم يكترث بل قال بنفس مطمئنة وبصوت سمعه كثير ممن حضر: "أنا أفعل ذلك ! والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فلسين"، فتبسم السلطان وقال: "والله إنك لصادق وإن الذي وشى بك لكاذب".
أول سجن له بدمشق بسبب واقعة عسّاف النصراني ، هذا عساف من أهل الذمة سب النبي صلى الله عليه وسلم وشهد عليه جماعة ، فلما بلغ الخبر ابن تيمية اجتمع هو والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث بدمشق آنذاك ، فدخلا على نائب السلطان ، فاستدعى السلطان النصراني ومجيره (أي كفيله الذي كان يجيره) فعلم الناس بالحادثة وهاجوا وضربوا هذا الذمي النصراني ، فهرب فلحق به أحد إخوته فقتله في الطريق ، فغضب الوالي على الشيخين ابن تيمية والفارقي وقال: "أنتم الذين هيجتم الناس" وأمر بالتحفظ عليهما (يعني نوع من الإقامة الجبرية والسجن) ففي هذه الأثناء ألّف ابن تيمية رحمه الله كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم". لاحظوا الحادثة التي بنى عليها وألف بسببها "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" وهنا ألف الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذه السجنة الأولى.
أما السجنة الثانية فكانت في القاهرة لمدة عام وستة أشهر ، وسجن معه أخواه الشرف عبدالله والزين عبدالرحمن ؛ بسبب مسألة العرش والكلام والنزول.
والسجن الثالث كان في مصر أيضاً في الاسكندرية ؛ بسبب استعداء السلطة ؛ لمنعه الاستغاثة والتوسل بالمخلوقين وكلامه في ابن عربي ، ورُتّب له مجلس واختلف المجلس بين مدِين ومُبرئ ، فخيّره الوالي بين العودة لدمشق أو البقاء في الاسكندرية بشروط معينة أو الحبس ، وبعد مدة اختار الحبس ، ثم أصر عليه تلامذته بالموافقة على العودة لدمشق ؛ فألف في هذه الحادثة كتاب "الرد على البكري في الاستغاثة بالمخلوقين" ؛ لأن نازلة السجن كانت حول هذا الموضوع.
سجنه في المرة الرابعة كان بمصر ؛ وذلك لأنه لما وافق تلامذته وخرج لدمشق ، لم يُرضِ ذلك الحلولية المقربين للوالي فاستدعاهم أثناء الطريق مرة أخرى بعد أن أُطلق من السجن وسُجن في هذه المرة سنة٧٠٨هـ ، وفي هذا الموقف أراد بعض الناس أن يهون عليه سجنه والأثر النفسي عليه فقال: (يا سيدي هذا مقام الصبر )، فقال له: (بل هذا مقام الحمد والشكر والله إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قُسّم على أهل الشام ومصر لفَضُل عنهم لأنه إيذاء في سبيل الله) –الله أكبر- ، فالعذاب ينقلب لذة ويستعذبه الإنسان ويتلذذ به المؤمن ؛ إذا كان لله وفي الله عز وجل.
السجن الخامس كان بمصر أيضاً بوشاية من العلماء الحلولية أيضاً وميل الولاة لكلامهم والتخطيط لاغتياله ولكن في هذه الأثناء تولى مباشرة الملك الناصر قلاوون عام ٧٠٩هـ ، فأخرج الشيخ من السجن وأفرج عنه واستدعاه للقاهرة لأنه كان في الاسكندرية وقتل الوالي الذي سجن ابن تيمية شرّ قتله ومات الواشي في زاويته التي كان فيها ، فأراد الناصر قلاوون أن ينتقم من القضاة والفقهاء الذين حكموا على ابن تيمية وآذوه ، وأراد أن يكون ظلمهم لابن تيمية تُكأة من أجل أن ينتقم لنفسه ، لماذا!
لأنهم هم الذين أيدوا ذلك الوالي الذي انقلب عليه ، فأراد أن يجعل ابن تيمية ذريعة لتحقيق الانتقام لنفسه ، لكن ابن تيمية رحمه الله عرف مراد هذا السلطان فلما استفتاه في الانتقام من هؤلاء القضاة والعلماء الذين ظلموه وتسببوا في سجنه ، فَهِم الشيخ مقصوده فشرع في مدحهم والثناء عليهم وقال: "لو ماتوا لم تجد مثلهم أما أنا فهم في حلٍ من جهتي" وقطع عليه الطريق وفي هذه الفترة ألف كتاب "منهاج السنة" وكتاب "الاستقامة" وكتاب "تلبيس الجهمية" وكتاب "الفتاوى المصرية".
أما السجن السادس فكان في دمشق سنة٧٢٠هـ ؛ بسبب مسألة الحلف بالطلاق. وانتهت مجموعة كبيرة من الكتب والمؤلفات والردود الحافلة ، منها الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق.
القوة الحادية عشرة: قوته في العفو عمن ظلمه عند المقدرة.
وتقدم أنه لما كان في سجن الاسكندرية مظلوماً كان معه أخواه شرف الدين وزين الدين فقام أخوه يدعو يبتهل لله تعالى على من كان السبب في سجنهم ، فمنعه ابن تيمية وقال له: بل قل اللهم هب لهم نوراً يهتدون به للحق ، لا تدع عليهم ، إنما ادع الله لهم أن يهبهم نوراً يهتدون به للحق ؛ فهم يظنون أنهم على حق وأمروا بسجنك لأنك خالفتهم في معتقدهم وأرائهم فادع الله لهم .
هذه المعاني والقوة الحقيقية التي تتلاشى العزائم وتقف مثل هذا الموقف في مثل هذا الحال.
يقول عنه الشيخ القاضي بن مخلوف المالكي: (ما رأينا أتقى من ابن تيمية ؛ لم نبقِ ممكنا في السعي فيه ولما قدر علينا عفا عنّا )
وكان يقول: (أنا أحللت كل من آذاني ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه)
يقول ابن تيمية عن ابن مخلوف: "لو عمل مهما عمل والله لا أقدرعلى خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه قط ولا حول ولاقوة الا بالله ، هي نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور ؛ فإني أعلم أن الشيطان ينزع بين المؤمنين ولن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين" ا.ه.
القوة الثانية عشرة: قوته في عبادته والذكر والتوكل على الله.
وهذه المواقف لا تأتي من فراغ ، لا يمكن أن يملك الإنسان هذه القوة والعزيمة إلابقوة الصلة بالله عز وجل والزاد بينه وبين الله والعلاقة والحبل المتين بينه وبين الله عز وجل.
كان في أشد حالات الإيذاء والمضايقة تجده في أشد حالات التوكل والثقة بالله ، لما جاء خبر نفيه للاسكندرية "، قيل له: هم عاملون على قتلك أو نفيك ، فقال لهم كلمته المشهورة: (أنا إن قُتلت كانت لي شهادة وان نفوني كانت لي هجرة ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كانت لي معبداً وخلوة).
ولذلك استثمر سجنه في التعليم والتأليف يعني لم يُضع شيئاً من وقته البتة رحمه الله إما في الجهاد أو الدعوة أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو غير ذلك كما مر معنا. يقول رحمه الله: لا يقف خاطري عند مسألة تشكل عليّ إلا واستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح صدري وينحل إشكال ما أشكل عليّ ، وأكون في ذلك في السوق أو المسجد أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر أو الاستغفار إلى أن أنال مطلوبي.
يقول عنه ابن القيم: (علم الله ما رأيت أحداً أطيب منه عيشاً قط مع ماكان عليه من ضيق العيش ، وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها ومهما كان فيه من الحبس والتهديد والارهاق ، هو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأسرهم نفساً ، تلوح نظرة النعيم على وجهه وكان إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه ، فما هي إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة).
ويقول ابن القيم عنه: (الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء).
يقول ابن القيم: (حضرت ابن تيمية مرةً ، صلى الفجر ثم ذكر الله إلى قريب انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغدى الغداء سقطت قوتي) .
يتبع بإذن الله..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق