
"طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة
قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن
لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع"، والشاهد منه قوله: "إن كان في الحراسة، كان
في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة". البخاري ح(2886).
ما أبهى هذا التعبير
النبوي عن هذا النوع من الناس! البسيط في هيئته ولباسه.

كلمات مبيناً صفة هذا الرجل المذكور، حيث قال: "خامل الذكر، لا
يقصد السموّ، فأين اتفق له كان فيه" كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/539).

تلك النفوس التي لا تعنيها التصنيفات
الإدارية، ولا "الفلاشات" الإعلامية، ولا تُردّد أسمائها في الحفلات الخطابية،
أو منصات التتويج، ولا يعنيها أن تكون في صدر المجلس أو طرفه، بل الأهم عندها أن تخدم
دين الله، ولو كانت المصلحة تقتضي أن يكون في مكانٍ لا تتسلط عليه كاميرات الإعلام،
ولا تلهج به الألسنة.
يحدثنا التاريخ
عن نماذج من رجال الساقة، منهم من عرفناه، والأكثرون لم نعرفهم، ولكنهم لا يخفون على
الله تعالى، وفي الواقع من أمثالهم كثير.

الذي نوّه النبي صلى الله عليه وسلم به بعد أن وَضعت الحربُ أوزارها في إحدى
غزواته، فقال لأصحابه: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً،
ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً، ثم قال: «هل تفقدون
من أحد؟» قالوا: لا، قال: «لكني أفقد جليبيبا، فاطلبوه» فطُلب في القتلى؛ فوجدوه إلى
جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقفَ عليه، فقال:
«قتل سبعة، ثم قتلوه هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه» قال: فوضعه على ساعديه، ليس
له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، فحفر له ووُضع في قبره مسلم ح(2472).

والتي يسمّيها المسلمون فتح الفتوح ـ جاء البشير إلى الفاروق رضي
الله عنه فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعز الله به الإسلام وأهله، وأذل به الكفر
وأهله؛ فحمد الله عز وجل، ثم قال: النعمان بعثك؟ قال: احتسِب النعمانَ يا أمير المؤمنين،
قال: فبكى عمر واسترجع قال: ومن ويحك! قال: فلان وفلان، حتى عدّ له ناساً كثيرا، ثم
قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر وهو يبكي: لا يضرهم ألا يعرفهم عمر،
ولكن الله يعرفهم.تاريخ الطبري (4/120).

صحب ابنُ محيريز (169هـ) رجلاً في الساقة ـ في أرض الروم ـ فلما أردنا أن
نفارقه قال له ابن محيريز: أوصني، قال: «إن استطعت أن تَعرف ولا تُعرف فافعل»حلية الأولياء (5/141).،
وابن محيريز هذا، هو الذي سمعه بعضُهم يقول: "اللهم إني أسألك ذِكراً خاملاً"حلية الأولياء (5/140).
تلك نماذج لقصص
اختلفت سياقاتها، واتحدت مقاصدُها، تُذَكّر أولئك الذين يشعر أحدُهم بالغبطة في العمل
لدينه، ويتنفس السعادة وهو يتقرب إلى الله بنفع إخوانه، ثم تأتيه نفسُه في أحايين فيَشْرقُ
ببعض حظوظها، حين تقتضي مصلحةُ العمل أن يقدَّم غيرُه عليه، أو أن يعمل في مكان لا
تصله لواقط الصوت، ولا مذاييع الإعلام، ولا ألسنة المادحين.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق