طرد القلق بتدبر سورة الفلق (١)
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } .
١- في قوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } توجيه من الله - سبحانه وتعالى - لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ابتداءً، وللمؤمنين من بعده جميعاً إلى الاعتصام به واللجوء إليه من شر مخلوقاته .
ومعنى أعوذ : أي أمتنع وأَلْتَجئُ وأحْتَمي وأعتصم وأستجير وأطلب الأمن والسلامة ، كُلُّ هذه المعاني مُسْتفادة من كلمة (أعوذ) ، كقول : عاذَ الطِّفْلُ بِأُمِّه ، أيْ : اِلْتَجأ إليها ، وأوى إليها ، وامتنع بها واحتمى بها مما يخاف ويخشى ، فالهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه يسمى معاذاً وملجأً .
٢- في قوله تعالى : { بِرَبِّ الْفَلَقِ } يذكر جل وعلا نفسه بصفته التي يكون بها العياذ، فرب الفلق هو الله جل في علاه .
والفلق : هو نور الفجر الذي يطرد الظلام ، ولهذا أمر عباده أن يستعيذوا بربّ النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها وهو سبحانه يُدعى بأسمائه الحسنى فيُسأل لكل مطلوب باسم يناسبه .
عائشة بنت عبدالرحمن القرني
طرد القلق بتدبر سورة الفلق (٢)
٣- في الاستعاذة برب الفلق تفاؤل وتذكير بالنور بعد الظلمة، وبالسعة بعد الضيق، والفرج بعد الشدة ، فالذي فلق الظلمات بنور الصبح ، وأزال هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم ، قادر أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه .
٤- { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } وهذا يشمل شر كل مؤذٍ خلقه الله تعالى ، سواء من الجن أو الأنس أو الهوام أو السباع أو الدواب أو الريح أو الصواعق أو الهواء أو النار أو الليل أو الكواكب وسائر أنواع البلاء ، حتى النفس ، لأن النفس أمارة بالسوء، فإذا قلت من شر ما خلق فأول ما يدخل فيه نفسك، كما جاء في خطبة الحاجة «نعوذ بالله من شرور أنفسنا» .
٥- في قوله : { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } دلالة على أن ذلك عام في كل ما يستعاذ منه، ولكن جاءت الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد تنبيها على أن هذه الشرور من أعظم أنواع الشر.
عائشة بنت عبدالرحمن القرني
طرد القلق بتدبر سورة الفلق (٣)
٦- { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } ومن شر الليل إذا دخل ، فالغاسق هو الليل إذا عظم ظلامه ، وسمي الليل غاسقاً لانصباب ظلامه على الأرض ، أما الوقوب فهو الدخول في شيء آخر بحيث يغيب عن العين ، فالغاسق إذا وقب : هو الليل إذا دخل .
٧- في الآية أمر الله جل وعلا بالاستعاذة من شر الليل إذا دخل ، لأن الليل إذا دخل تتسلط فيه شياطين الإنس، وشياطين الجن ، والدواب والهوام .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال : { يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك، وشر ماخلق وشر ما فيك ومن شر ما يدب عليك، وأعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وماولد } رواه أبو داود والحاكم في المستدرك وصححه .
٨- الليل مخلوق من مخلوقات الله لا يجوز سبه لذاته، وإنما أمر الله جل وعلا أن يُستعاذ من شره ، من أجل الشر الذي يقع فيه ، وليس الليل بذاته ، فالليل والنهار والأيام لا تذم لذاتها، ولا يسند إليها شيء .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ) أخرجه مسلم .
عائشة بنت عبدالرحمن القرني
طرد القلق بتدبر سورة الفلق (4)
٩- { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } ومن شر الساحرات اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد يُردن من السحر، والنفث هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهم، والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور واستعان بالأرواح الخبيثة، نفث في تلك العقد نفخاً معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نَفَس ممازج للشر مقترن بالريق ، وقد تساعده الروح الشيطانية على أذى المسحور؛ فيقع فيه السحر بإذن الله .
١٠- في قوله : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } دلالة على تأثير السحر وأن له حقيقة، ومن المعلوم أن السحر لا يغير من طبيعة الأشياء ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر ، وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس ، وينشئ لهم مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر من تخييل وتفريق وإيذاء ومرض وحب وبغض ، وما إلى ذلك ، فهو شر يستعاذ منه بالله ، ويلجأ منه إلى حماه .
عائشة بنت عبدالرحمن القرني
طرد القلق بتدبر سورة الفلق (٥)
١١- { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } وهذا الشر الرابع وقد دلّ القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فإذا نظر الحاسد إلى المحسود نظرة من نفس غضيبة خبيثة حاسدة، كان لتلك النظرة تأثير في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد .
١٢- إن الشر يتحقق من الحاسد عند صدور الحسد، فقد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود ولاهٍ عنه، فإذا خطر على قلبه انبعث نار الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك إذا لم يتحصن المحسود ويكن له أوراد، بحيث يُدفع عنه من شر الحاسد بقدر توجهه وإقباله على الله .
١٣- في الآية حث من الله جل وعلا على الاعتصام به واللجوء إليه من شر كل حاسد يتمنى زوال النعمة عن غيره ، ولا يرضى بما قسمه الله تعالى له ، ويكره نعمة الله على غيره ، ويضيق ذرعاً إذا أنعم الله على هذا الإنسان بمال، أو جاه، أو علم أو غير ذلك ..
عائشة بنت عبدالرحمن القرني
طرد القلق بتدبر سورة الفلق (٦)
١٤- الحسّاد نوعان : نوع يحسد ويكره في قلبه نعمة الله على غيره، لكن لا يتعرض للمحسود بشيء، فهذا تجده مهموماً مغموماً من نعم الله على غيره، لكنه لا يعتدي على المحسود ، وكفى بهذا الهم والغم الذي يصيب هذا الحاسد ، كفى به عقوبة .
والنوع الآخر تجده يكره نعم الله على الغير فإذا أحس في نفسه أن الله أنعم على فلان بنعمة خرج من نفسه الخبيثة معنى لا يوصف لأنه مجهول، ولهذا قال: {إذا حسد} ، وهذه هي العين الحاسدة التي تتسلط على المحسود ، فأحياناً يموت، وأحياناً يمرض، وأحياناً يُجن ، وكل ذلك بأمر الله .
١٥- المستعيذ بالله من شر حاسد النعمة هو المستعيذ بمن أولاه هذه النعم وأعطاه إياها ، فهو يطلب ممن أعطاه وأكرمه أن يمنعه ويحميه ممن يريد إزالة النعم عنه ، فإذا وثق العبد بربه كفاه ، وكما قيل : على قدر اليقين تكون الكفاية .
عائشة بنت عبدالرحمن القرني
طرد القلق بتدبر سورة الفلق (٧)
١٦- اقترن الحاسد و الساحر في السورة ؛ لأن مقصدهما الشر للناس ، ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان، وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه؛ فلهذا والله أعلم قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر كما ذكر ابن القيم رحمه الله .
١٧- هذه السورة من أكبر أدوية المسحور والمحسود ؛ فإنها تتضمن التوكل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من كل شر، ولكن هذه المعاني الظاهرة يستلزم لتحقيقها أن يقوم معناها بالقلب أبلغ قيام .
١٨- الاستعاذة بهذه الصفة العظيمة { رب الفلق } وما تشتمل عليه من قوة وغلبة وسلطان على ظلمات الشرور والسحرة والحاسدين يبعث في النفس الطمأنينة والأمن ، فلا تستعيذ من شيء بأعظم ممن خلقه! وتأمل لفظة الفلق، وما يقابلها من انغلاق الليل، وانغلاق عقد السحرة، وانغلاق قلوب الحاسدين.
عائشة بنت عبدالرحمن القرني
طرد القلق بتدبر سورة الفلق (٨)
١٩- لو لم يجعل الله سبحانه وتعالى في الأرض مصادر للخوف لاستغنى العبد عن ربه ، ولكن لحكمته جل وعلا جعل هذه الأشياء المُخيفة ليلجأ العبد إلى ربه ، وإذا التجأ إليه سعد بقربه ؛ فهذه الأشْياء المُخيفة التي بثَّها الله في الأرض تجعلك تلوذ به ، وتحْتمي بِحِماه ، وتُقْبِل عليه ، وتتعلق به .
٢٠- في السورة الأمن من المخاوف بتلك الكلمات العظيمة ، فالمستعيذ هو العبد الذليل الفقير الذي لا حول له ولا قوة ولا دفع لما حوله من الشرور إلا بإيمانه بالله تعالى وثقته به وتوكله عليه ، والمستعاذ به هو الله جل جلاله الخالق القادر العظيم ، فكل من استعاذ بغيره خذله ذلك المستعاذ وتخلى عنه .
عائشة بنت عبدالرحمن القرني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق