تعلمت من ابن عثيمين (1)
***الذين منّ الله عليهم بالجلوس عند شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين(ت: 1421هـ) فترةً من الزمن وإن قلّت، أو استمعوا إلى دروسه المسجّلة، أدركوا أنه لم يكن مجرد عالمٍ يلقي دروسه ثم ينصرف إلى حيث يبدأ الدرس التالي، بل كان ـ رحمه الله ـ نموذجاً للعالم الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ويربي بفعله قبل قوله. وهذا العلَمُ الماجدُ كُتِبَ عنه الكثير شعراً ونثراً، لكن الكتابة التي تُعْنى بإبراز معالم القدوة والتأسي به لا تزال قليلة مقارنة بما كتب في الجوانب الأخرى، ومقارنة بمنزلته العلمية، ومكانته في الأمّة.
***ولا ينبغي في ترجمة مثله أن تُختزل سيرته فيما يشترك معه كل من له أدنى مشاركة
في التعليم من ذكر المولد والوفاة والأشياخ والتلاميذ والمصنفات- بل ينبغي تسليط
الضوء على الجوانب الربانية ومواضع القدوة في شخصيته، فهي الأهم.
***وأنا حين أكتب فلا أزعم أنني من أكثر الناس قرباً منه، أو جلوساً بين يديه،
ولا بالذي يستطيع كتم آثار العاطفة والمحبة التي تجذّرت عروقها فيّ، وكان يسقيها
بماء النصح والتوجيه، والرعايةِ الأبوية لتلميذه الصغير، من خلال علاقةٍ امتدت
أكثر من عشر سنوات، كلا.. لكنني أظنّ أن تلك السنوات أضحتْ مشجعةً على الكتابة عن
بعض تلك المعالم المؤثرة، والتي يلمسها كلّ من عاشره وتتلمذ له، ولحظَ مفاتيح
التميز في شخصيته، لعل الله تعالى أن ينفع بها، وهي إشارات فحسب، إذْ التفصيل
والبسط لا تناسبه أمثال هذه المقالات.
ولعلي ألخص هذه الوقفات
في المعالم التالية:
المعْلمُ الأول: وضوح الهدف:
فلقد كان الهدف الأكبر
عند شيخنا ـ رحمه الله ـ هو طلبُ العلم وتعليمُه، واضحاً في نفسه من بواكير شبابه،
ظهر ذلك في مواقف كثيرة، لعل من أشهرها: استعفاؤه من القضاء حين عُرِضَ عليه من
قِبَلِ مفتي الديار السعودية في وقته الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1389هـ) ـ رحمه الله ـ وألحّ
على شيخنا في ذلك، بل أصدر قراره بتعيينه رئيساً للمحكمة الشرعية بالأحساء، فطلب
منه الإعفاء، وبعد مراجعات واتصالات سَمح المفتي باعفائه منمنصب القضاء.
***ولا أحسب هذا الموقف من شيخنا إلا لأنه يرى أن للقضاء ـ مع شرف مكانته ـ
تبِعةً قد تشغله عن هدفه الذي رسمه لنفسه ـ وهو تعليم العلم الذي بذل جهده في
تحصيله ـ والعلم يحتاج تفرغاً كثيراً، وصفاء في الذهن، لا يتأتّى في الغالب
للمنشغل بالقضاء.
***ومن ذلك: أنه لما ازدادت شهرته -خصوصاً بعد سنة 1400هـ- وكثر قاصدوه من الآفاق،
تخفف من إلقاء المحاضرات العامة جداً، وركّز على دروسه العلمية في الجامع، وصار لا
يشارك إلا في حضور مناسبات تكريم حفاظ القرآن في منطقة القصيم فقط، اللهم إلا إن
وافق ما سبق وجوده في اجتماعات هيئة كبار العلماء في الطائف والرياض، أو وافق
وجوده في مكة، كل ذلك انجماعاً منه على دروسه، وتركيزاً على تحقيق هدفه الذي عاش
من أجله.
***وثمرةُ هذا المعْلم ظاهرةٌ جلية في حياته، والتي تمثلت في أكثر من 5000 ساعة صوتية ـ فضلاً عما
لم يُسجل من قبل أو ضاع ـ، استثمرت لاحقاً في تزويد قناة فضائية حملت اسمه ـ رحمه
الله ـ، بالإضافة إلى انتفاع عدد كبير من طلاب العلم ـ من مختلف بلدان العالم ـ
الذين تخرّجوا به، ونفع الله بكثير منهم.
***إن هذا المعْلم في شخصية شيخنا ـ رحمه الله ـ قد يغيب استحضارُه عن بعض طلاب
العلم وهو في بدايات حياته ونشاطه، فقد يبدأ في كلية شرعية، بل قد يتخرج منها،
والهدف عنده غير واضح، فتذهب عليه زهرةُ عمره في التنقل بين مجالاتٍ خيرية متنوعة،
وهي وإن كانت فاضلة؛ إلا أنها لا تزال تَنْحتُ من شجرة زمانه، وتَذْهَبُ أيامه وهو
لم يبرز في سبيل من هذه السبل، مع قدرته على التميّز.
***أعرفُ أحدَ طلبة العلم ـ وهو من طلاب شيخنا ـ ممن حدّد هدفه بطلب العلم،
عرَضَتْ عليه عددٌ من الجهات الخيرية ـ إغاثية، وتعليمٍ للقرآن، وأمثالها ـ عرضت
عليه الانضمام لها، فاعتذر، فسُئل عن السبب؟ فقال: حددتُ هدفي مبكراً، وليس لدي من
الوقت والقدرات ما يمكنني معه القيام بها جميعاً، فاخترتُ ما حُبّب لي من طلب
العلم، والرغبة في تعليمه ونشره، فتحقق له ذلك فيما أحسب.
***والعبرة من هذا المعْلَم في شخصية شيخنا ـ رحمه الله ـ :
أن يحدد الإنسانُ هدفه
مبكراً، وينظر في المجالِ الذي يُتقنه ويبدعُ فيه، وليصحح النية في نفع نفسه
وأمته، وليبشر بالتوفيق، وصدق الله:{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُم} [الأعراف: 160]
تعلمت من ابن عثيمين (2)
***أشرتُ في الجزء الأول من هذه السلسلة (تعلمت
من ابن عثيمين (1)) إلى أن "وضوح الهدف" كان من المعالم البارزة في شخصية
شيخنا ـ رحمه الله ـ، وأتابع في هذا المقال ذكر أهم مفاتيح التميز في شخصيته، ومنها:
المعْلمُ الثاني: الثبات على المنهج والهدف
الذي رسمه لنفسه:
الثبات على المنهج الحقّ مما امتدح الله
به خيارَ هذه الأمة فقال عن الصحابة:(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23]، وهو أحدُ صفات الأئمة الذين قال الله فيهم:(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: 24].
***وهكذا كان شيخنا ـ رحمه الله ـ، فلم يغيّر
ولم يبدّل، بل صبر وثابر، موقناً أن الحقّ في هذا الدين بمصدريه العظيمين: الكتاب والسنّة،
على فهم سلف هذه الأمة، والذي نقله إلينا ودعا إليه على مرّ القرون ـ أئمةٌ كبار،
أوذوا في سبيل الدعوة إلى هذا المنهج، فمنهم من ضُرِبَ، ومنهم من غُرّبَ عن وطنه، ومنهم
من سجن، ومنهم من قتل، في سلسلة من الابتلاءات التي سطرها التاريخ بأحرف من نور.
***وشيخنا ـ رحمه الله ـ أدرك في مقتبل شبابه
انتشار عدد من المذاهب والدعوات المنحرفة، التي صرفت عدداً غير قليل من لِداته وأترابه
في ذلك الوقت، أو أثّرت فيهم سلباً من جهة القناعة بالطريق الذي سلكه، وهو طريق العلم
والتعليم، بل ووجد من المنتسبين إلى الإسلام ـ في بعض البلاد ـ من يعلن أن سبب تأخرنا
هو التقيّد بالإسلام! عياذاً بالله.
***وشيخنا وإن لم ينله ما أشرتُ إليه من أذى
حسّيٍّ مباشر ـ كالسجن والضرب ـ إلا إنه ابتلي ببعض التهم في عقيدته في أول القرن الهجريّ
الحالي، والتي كان منبعُ بعضها الهوى والحسد، كدّرت عليه خاطرَه فترةً من الزمن، وكان
أثر تلك القالةِ يُرى على وجهه، ويُلحَظُ في نفوس بعض الناس، حتى أفضى مرةً إلى أحدِ
طلابه في كلية الشريعة وأصول الدين ـ التي كان يدرس فيها ـ وقال: يا فلان! سيظهرُ الله
الصادق منّا. حدثني بذلك صاحب القصة الذي خاطبه شيخُنا بتلك الكلمات.
***وهذا ما كان، فلم يزدد شيخُنا بعدها إلا
رفعةً وظهوراً حتى توفاه الله وهو أحد أئمة المسلمين في العلم، وأحد المرجعيات العلمية
البارزة في الفتوى، وقصده الناس من كلّ مكان في العالم.
***وأحسبه ـ بعد تلك الحادثة وما سبقها ـ ممن
انطبقت عليه مقولة الإمام الشافعي ـ حين سأله رجل فقال ـ: يا أبا عبد الله! أيما أفضل
للرجل أن يمكّن أو يُبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكّن حتى يُبتلى.
***ومن صور ثباته على منهجه ـ وهو وثيق الصلة
بوضوح الهدف عنده ـ: أن شيخنا أدرك في بواكير شبابه ـ رحمه الله ـ جملةً من الصوارف
الدنيوية التي بهرتْ زهرتُها وبريقُها فئاماً من الناس، فآثروا الوظائف والتجارة على
ما كانوا فيه من الاشتغال بالتعلّم والتعليم، وهذا لا يُذمّ به صاحبُه بطبيعة الحال،
لكنّه مما يمدح به من آثر الفاضل على المفضول، وصبر على تحصيل ثمراته.
***ومَنْ تتبّع مصنفات شيخنا، أو سمع مجالسه
العلمية؛ رأى أن الحديث عن هذه القضية يتنوع ويظهر في كلامه بأساليب شتى، تُلْمسُ منها
أثرُ التجربة بهذه المسألة، وإن أنسى فلا أنسى قسمات وجهه، وتأثّره وهو يعلق ـ في شرح
الواسطية ـ على مقالات الفِرَق المنحرفة في أبواب الصفات، وكيف ضل من ضلّ منهم مع قوة
ذكائه، وسعة اطلاعه، ثم ختم كلامه بسؤال الله الثبات على الحق، وأن لا يزيغ القلوب
بعد هداياتها.
تعلمت من ابن عثيمين(3)
المعْلمُ الثالث(1): العناية بالقرآن
حفظاً وفهماً وعملاً:
***في بدايات ما يُعرف بـ"الصحوة"
في أوائل القرن الهجري الحالي، كانت العناية بالحديث الشريف تحقيقاً ونشراً وحفظاً
قد بلغت غايتها، بعد عقود وربما قرون من الركود العلمي العام، وفي الحديث بشكل أخص،
وكان من مظاهر ذلك: إقبال عددٍ كبير من طلاب العلم على هذا التخصص، هذا الإقبال كان
عند كثيرين على حساب الاهتمام بالقرآن الكريم من حيث الفهم والتدبر، فكان شيخنا يلحظ
ذلك في الجو العام لعموم الحركة العلمية في ذلك الوقت، ويلحظه في عدد من طلاب العلم
الذين قصدوه من آفاق شتى، وكانوا يحضرون دروسه.
***هذه الملاحظة المستمرة جعلتْ شيخَنا لا
يفوّت التنبيه على العناية بالأصل الأعظم للدِّين، ومن تلكم الكلمات التي لا أزال أتذكرها:
تلك المقابلة التي أُجريَت مع شيخنا ـ رحمه الله ـ ضمن سلسلة "على طريق الدعوة"
ـ قبل عشرين سنة أو أكثر، وكان من أبرز ما رسخ في ذهني كلامُه عن هذه المسألة بشكل
يلمس منه السامعُ خوفَه من اختلال الميزان عند بعض طلبة العلم، حيث تجده يُمضي الأيام
والسنين في علم الحديث، ثم إذا جاء القرآن وجدتَه مقصِّراً في مدارسة معانيه، وتدبر
آياته! وكان شيخنا قد أبدى فرَحَه بتلك العناية بالسنة، لكنه لم يُخف ألمه من التقصير
في جانب العناية بتفسير كلام الله وتدبره.
***وأما عنايته وتوجيهه طلابَ العلم لتدبره؛
فكُتبه وتوجيهاته طافحةٌ بهذا، وأنتَ حين تقرؤها تجدها كلماتٍ فيها روحٌ، ونابعةٌ من
قلب مجرّب، قد تكون قصيرة، وسهلة في تراكيبها، لكنك تلمس فيها لغة الصدق والنصح، كقوله:
"اللهَ الله يا إخوان! بتدبر القرآن وتفهم معانيه، والتقرب إلى الله تعالى به،
والعمل بما فيه، فهو ـ والله ـ سعادتكم في الدنيا والآخرة"ا.هـ.
***ويلحظ طالبُ العلم هذا المعنى حاضراً في
تعليقاته على الآيات، سواء فيما قصد به تفسير كتاب الله، أو كان ضمن كتابٍ مصنَّف وردت
فيه آيةٌ من الآيات، ومن ذلك حين علّق على قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[القمر: 22]، قال: "أي: يسّر معانيه لمن تدبّره،
ويسّر ألفاظه لمن حفظه، فإذا اتجهتَ اتجاهاً سليماً للقرآن للحفظ يسّره الله عليك،
وإذا اتجهتَ اتجاهاً حقيقيًّا إلى التدبر وتفهم المعاني يسّره الله عليك ﴿وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ و(هل) للتشويق، يشوقنا الله
- عز وجل - إلى أن ندكر القرآن فنتعظ به، جعلنا الله ممن يتلونه حق تلاوته لفظاً ومعنى
وعملاً، إنه على كل شيء قدير"([2]).
***وهذه العناية بهذا الأصل العظيم، ظهر أثرُها
على تفسيره لما تيسر من القرآن، وعلى فتاواه، وكلماته، فضلاً عما كان عليه شيخنُا من
ملازمة ورده اليومي، فقد كان يختم كل عشرة أيام في غير أيام المواسم، وفي رمضان يختم
كل ثلاث.
***ومن صور عنايته بهذا الأصل العظيم: أنه
كان إذا دُعي لبعض المناسبات طلب من أحد الحضور أن يقرأ آيات من القرآن ثم علّق عليها،
وهكذا دأبه في لقائه الأسبوعي، فإن تعليقَه على جزء عمّ المطبوع، إنما هو مِن جمْع
ما قاله في تلك المجالس، فخرج منها ذلك الكتاب الذي نفع اللهُ به نفعاً كثيراً.
***إن هذا المنهج العملي الذي سلكه شيخنا ـ
رحمه الله ـ في دروسه وعموم المناسبات التي يحضرها، كان له أثرٌ على كثير ممن تلقّى
عنه، في العناية بالقرآن، مع اختلاف تخصصاتهم الأكاديمية، أو مناصبهم الوظيفية، ولنِعْم
الإرث هذا.
***وخليق بطلاب العلم ـ مهما كان تخصصهم الأكاديمي
الدقيق ـ أن يكون لهم نصيبٌ كبيرٌ من العناية بكتاب الله، فهو أصلُ العلوم ومنجمها،
وأُسّها وأساسها.
***وإن مما يُزري بطالب العلم: أن يكون مقصراً
في حق القرآن تلاوةً وفَهماً، بحجة أن تخصصه ليس في "قسم القرآن"، أو
"القراءات"! فالقرآن كتابٌ يتجاوز كل التخصصات. وللحديث صلةٌ إن شاء الله.
(1) أشرتُ في الجزئين الأول والثاني من هذه
السلسلة إلى معلمين من معالم التميز في شخصية شيخنا ـ رحمه الله ـ وهما: "وضوح
الهدف" ،"الثبات على المنهج والهدف الذي رسمه لنفسه"، وأتابع في هذا
المقال ذِكر بعض تلكم المعالم.
(2) تفسير العثيمين: الحجرات - الحديد (ص:
284).
تعلمت من ابن عثيمين(4)
المعْلمُ الرابع(1): حبّه لنشر العلم،
واغتنام الفرص لتبيلغ الشريعة:
***كان يمرّ بي في بعض التراجم في الثناء على
أحد العلماء: "أن أوقاته معمورةٌ ببث العلم"، أو "ليس له همّ إلا في
نشر العلم"، ونحو هذه العبارات، التي رأيتها عياناً في حياة شيخنا ـ ـ.
لقد كان حبّ العلم وتبليغُه يسري في عروقه،
ولا تحين فرصةٌ إلا ويهتبلها في نشره، مع التزامٍ قوي بالوقت الذي خصّصه للناس في الإجابة
على أسئلتهم في الهاتف.
***ومن صور هذا الحب لنشر العلم: أنه كان إذا
سافر من بلده عنيزة يضع "المجيب الآلي" الذي يرد على الاتصالات ـ وذلك قبل
استعمال الجوالات ـ، ويبيّن رقم الاتصال الجديد في المنطقة التي ذهب إليها، سواء في
مكة أم الطائف أم الرياض، مع أنه كان يسعه الاكتفاء بما يتلقاه من أسئلة الناس واستفتاءاتهم
في تلك المناطق التي يسافر إليها، لكنها الدِّقة والالتزام، والشعور بمهمة البلاغ عن
الله ورسوله.
***وأتذكر مرةً أنه زاره بعضُ القضاة في إحدى
زياراته للرياض ـ وكنتُ شاهداً لهذا الموقف في منزل أخيه الشيخ عبدالرحمن بن صالح العثيمين
ـ فطلبوا منه أن يخصِّص كل الوقت لهم ـ أي وقت العصر ـ، وكان شيخنا قد أحال المتصلين
على هاتفه على ذلك الوقت الذي زاره فيه القضاة ـ فقال: لا أستطيع ذلك، وقد أحلتُ الناس
على هذا الوقت، ولكن لكم سؤال وللمتصلين سؤال. فعجبتُ من هذه الدقّة، والحرص على الالتزام
بما سجّله ووعد به.
***وكان من عادته إذا جلس في مجلس عام، أن
يطلب من أحد الحضور ـ وخاصة من صغار السنّ ـ أن يقرأ القرآن، ثم يعلّق على الآيات ثم
يستقبل الأسئلة.
***ومن أشدّ المواقف تأثيراً ـ والتي شاهدها
الملايين من الناس وسمعوها ـ تلكم الأيام الأخيرة التي درّس فيها في المسجد الحرام
في رمضان عام 1421هـ، والتي بلغ فيها المرضُ والألم من جسده مبلغه، وكان يؤدي الدروس
بصعوبة بالغة، وكان الأطباء يؤكدون على أهمية راحته، فيخبرهم أن راحته في التدريس!
بل حدّث أحدُ أولاده أنهم ذهبوا به مرةً في صباح أحد أيام العشر إلى مستشفى الملك فيصل
التخصصي بجدة بسبب تردّي صحته، فلما كشفوا عليه، طَلبَ الرجوعَ به إلى مكّة، فوافق
الفريق الطبي بعد إلحاح وضغط من شيخنا ـ ـ؛
كل هذا كي يرجع إلى مكة ليلقي درسه لذلك اليوم.
***لقد كانت هذه المواقف ـ وأمثالها كثير ـ
تعبّر أبلغ التعبير عن هذه الحال التي كان عليها، يسوقه -بالإضافة إلى حب نشر العلم-
الخوف من معرّة كتْمه، وهو الذي صرّح بذلك مراراً، ومن ذلك قوله: "والله نخشى
من الفتيا، ولولا أن الإنسان يخشى من كتمان العلم، أو أن السائل يذهب إلى إنسان جاهل
ويفتيه لكان الإنسان يتوقف عن الفتيا ليسلم، لكن من استُفتي وعنده علم فإن عدم إقدامه
على الفتيا ليس بسلامة بل هو عطب"(2).
***ولقد رأيتُ أثر هذا البذل والعطاء المتدفق
على سلوك بعض طلابه، الذين تصدّروا بعد سنوات لنفع الناس وإفتائهم، وتدريس العلوم الشرعية،
فلقد رأى الناسُ منهم بذلاً مشهوداً للعلم في كل الوسائل المتاحة، سواء في المساجد
أم في الفضائيات أم في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، فبارك الله فيهم، ورحم الله
شيخنا، وجزاه عنا خير الجزاء، وللحديث
صلةٌ إن شاء الله.
تعلمت من ابن عثيمين(5)
المعْلمُ الخامس (1): التثبت في النقل
والحكم:
النصوص الواردة في التثبت كثيرة، وقد خوطب
بها جميع المؤمنين، لخطورة التعجل في النقل والحكم قبل التثبت، ويتأكد هذا في حق أهل
العلم طلاباً وعلماء.
***وأما ما يخصّ منهج شيخنا في هذا الباب،
فهو من أكثر مَن رأيت تثبتاً في الأمور كلها، وخاصة فيما يتعلق بالمسائل العلمية أو
التي تتعلق بالمنكرات العامة أو الخاصة، وحديثنا هنا عن المسائل العلمية:
***أذكر أن الشيخ مرةً حصل منه سهو في نسبة
لفظ من ألفاظ الحديث إلى البخاري على سبيل السهو، فذكرَ له أحدُ الطلبة هذا السهو بعد
انتهاء الدرس، ولكن الشيخ قال له: تثبت! فرجع من الغد فذكرَ له الطالب أنه تأكد منه،
فقال له شيخنا: هل رجعت إلى الكتاب الفلاني؟ قال: لا، قال: فراجعه، فلما كان من الغد
قال له: لقد رجعت إلى ذلك الكتاب، فعندها بيّن الشيخ للطلبة أن أحد الطلاب نبّهه إلى
أنه وَهِمَ في عزو ذلك اللفظ للبخاري، وأن الصواب أن الحديث في مسند أحمد وليس في البخاري.
وهذا المسلك ظاهر ـ أيضاً ـ عندما يسأله
أحدٌ فإنه يستوضح من سؤاله كثيراً حتى يكون الجواب مطابقاً للسؤال، ومن استمع إلى برنامجه
(سؤال على الهاتف) تبين له هذا بوضوح.
***ومن مظاهر تثبت شيخنا ـ رحمه الله ـ أنه
إذا سُئل عن سؤال له ارتباط ببعض التخصصات الطبية أو غيرها؛ فإنه لا يُفتي حتى يتأكد
بنفسه من أهل الاختصاص، أو يعلِّق الحكم على نظر أهل الاختصاص، مثل جوابه عن أسئلة
النساء التي تتعلق بجوانب طبية فيقول: إن قرر الأطباء أنه لا يضر فلا بأس به، أو يقول:
سألنا الأطباء فذكروا كذا وكذا، وربما سُئل عن بعض الأمور الإدارية فاتصل بوزارة الخدمة
المدنية.
***وأذكر مرة أنه سُئل ـ وأنا أسمع ـ عن حكم
قطع الإشارة في الأماكن التي لا يوجد بها أي سيارة في مناطق شبه خالية من الحركة؟ فقال:
سألْنا المسؤول عن المرور فقال: بل يجب عليهم الوقوف ولو لم يكن عندها أحد، فعلى هذا
يجب الوقوف عندها.
***ومن مظاهر التثبت عند شيخنا: التثبت في
الأخبار العامة أو فيما يُطلب منه من إنكار المنكرات، وكذلك فيما يتعلق بتوثيق الناس
"التزكيات"، وقد أكسب هذا المسلك ثقلاً وقوة لكلامه، فبمجرد ما يُنسب الكلام
عن الشيخ ابن عثيمين، اطمأن الناس إلى صحة الخبر، وإن زكّى أحداً وثِق الناسُ به. وللحديث
صلةٌ إن شاء الله.
تعلمت من ابن عثيمين(6)
المعْلمُ السادس (1): عنايته بالتحصيل
العلمي لطلابه:
***درجَ عددٌ من العلماء على إلقاء الدرس دون
مناقشة، وربما سلك بعضُهم مسلك التعليق على كتابٍ ما، فإن ورد سؤالٌ من الطلاب وإلا
مضى الشيخُ حتى ينتهي من كتابه، فلا يَدري من الذي فهم واستوعب ممن ليس كذلك! ولم يكن
شيخنا ـ رحمه الله ـ يرتضي هذا المسلك أبداً، بل كان يرى أن هذه طريقة عقيمة جداً!
***وقد أكّد ـ حين سُئل عن وصيته للمعلّم ـ
على أهمية مناقشة المعلّم للطلاب في جوابٍ طويل، أقتطف منه هذه الجملة المعبّرة عن
منهجه في هذه القضية بوضوح، حيث "مناقشة الطلبة فيما ألقاه عليهم سابقًا، أما
أن يأتي يقرأ الشيء عليهم قراءة ولا يدري مَن فهم ممن لم يفهم ولا يناقشهم فيما مضى،
فإن هذه الطريقة عقيمة جدًّا لا تثمر ثمرًا ولا تكون نتيجتها طيبة"(2).
***ومن صور عنايته بتحصيل الطلاب: حرصه على
وضوح العبارة وسهولة الأسلوب في الشرح، وإذا شعر الشيخُ أن بعض الطلبة لم يفهم سألهم،
فإن لم يفهموا أعاد.
***وكذلك حرصه ـ رحمه الله ـ على غرس روح المناقشة
للمسائل من غير فرض الرأي ـ فيما يمكن فيه النقاش ـ وكان أحياناً يطرح المسألة فيسأل
الطلبة، والغالب أنهم ينقسمون إلى قسمين كما هو الحال في أكثر الأحكام العملية، ثم
إن الشيخ بعد ذلك يقول لهم: دعونا ننظر في دليل هؤلاء وهؤلاء، ثم يبدأ يناقش ويرجح
بناء على ذلك التحليل والتفصيل للأقوال، فيقتنع الطالب حينئذ من سبب الترجيح، ويعتاد
على هذه الطريقة.
***لقد كان بإمكان الشيخ ـ رحمه الله ـ أن
يعرض الأقوال ويرجح، ويمضي في شرح المسائل ـ وهو من حيث إنهاء المتون أسرع للطالب ـ
ولكنه لم يفعل، وكان كثيراً ما يردِّد في الدرس قاعدة في هذا الباب وهي: إذا رجّح الإنسانُ
قولاً على قول؛ فلا بد مِن ذكر سبب الترجيح، والإجابة عن دليل القول الآخر.
***وهذا الأسلوب الذي انتهجه الشيخ ـ رحمه
الله ـ وهو أسلوب الإقناع والمحاورة؛ استفاد منه كثيرٌ من الناس فضلا عن طلابه الذين
لازموه فترة من الزمن.
***وقد كتب أحدُ الطلاب(3) ـ الذين درّسهم
شيخنا في المعهد العلمي في عنيزة ـ مقالاً يتحدث فيه عن موقف حصل له مع الشيخ ـ رحمه
الله ـ عام 1380هـ تقريباً، وخلاصة الموقف الذي ذكره أنه قال: "كنا ندرس في الصف
الأول المتوسط في المعهد العلمي، وكان الناس في ذلك الوقت يتحدثون عن وصول الإنسان
للقمر، هل هو ممكن أم لا؟ وهل الحديث عن هذه المسألة سائغ شرعاً أم لا؟ فلما دخل علينا
الشيخ طرح علينا السؤال التالي: هل تعتقدون أنهم سيصلون إلى القمر؟ قال الطلاب كلهم:
لا! يقول الكاتب: إننا قلنا ذلك مجاملة وهيبة من الشيخ، وأكثرنا من داخل نفسه متحمس
للتصديق بهذا الخبر، يقول: إن الشيخ لم يعجبه هذا الجواب منا، واقترح علينا أن نناقش
الأمر، فشرع بطرح الأسئلة علينا واحداً واحدًا، وأثناء ذلك قام أحد الطلبة فقال: نعم
ياشيخ يمكن أن يصلوا، هنا توقعنا أن يغضب الشيخ على الطالب ويعاقبه! غير أن الشيخ التفت
إلينا، وسألنا عن جواب زميلنا، وطلب منا أن نناقش قوله، وهل أحدٌ منكم يوافقه على رأيه؟
***لقد كانت الهيبة من الشيخ تجعلنا نؤكد أن
زميلنا قد أخطأ ووهِم، عندها قال الشيخ: تريدون رأيي؟ فقلنا بصوت واحد: نعم، ثم ذكر
الشيخ رأيه في المسألة...الخ المقال(4)، فيعلق هذا التلميذ قائلاً: لقد استفدتُ من
هذا الموقف فائدة عظيمة، وهي: التربية على الروح الحوارية، حيث يفتح مجالاً للتفكير
والتدقيق والتمحيص، ومشاركة كل الأطراف في معالجة الإشكال، وتحريك عقولهم في البحث..
وللحديث صلةٌ إن شاء الله
(1) أشرتُ في الأجزاء الأول والثاني والثالث
والرابع والخامس من هذه السلسلة إلى أربعة معالم مما تميزت به شخصية شيخنا ـ رحمه الله
ـ وهي: "وضوح الهدف"، "الثبات على المنهج والهدف الذي رسمه لنفسه"،
"العناية بالقرآن حفظاً وفهماً وعملاً"، "حبّه لنشر العلم واغتنام الفرص
لتبيلغ الشريعة"، "التثبت في النقل والحكم"، وأتابع في هذا المقال ذِكر
بعض تلكم المعالم......انتهى
معلمتي أم المنتصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق